الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية والتباساتها في المجال العربي

سمير الحمادي

2017 / 6 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


سبب الإدانة الواسعة للعلمانية في العالم العربي: إدانتها دينياً ومعرفياً، حتى داخل الدوائر الأكاديمية والنخبوية (وهذا مؤسف حقاً)، هو حالة الالتباس الدلالي التي تعاني منها الفكرة العلمانية نفسها، لغياب تعريف واضح ودقيق لها يقنع / يطمئن الجمهور العربي المنقوع بالولادة، وبالتربة والتعليم، في أوحال الجهل والاستقطاب الديني والطائفي بكل أشكاله.

والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بالعلمانية فحسب، فإذا راجعنا قائمة المفاهيم والأفكار السياسية والاجتماعية والأخلاقية، ذات الأصل الأجنبي تحديداً، التي اعتدنا على رفضها ومقاومتها، مع حاجتنا الحيوية إلى الكثير منها بالفعل، سنجد أن العامل الأساسي الذي يقف وراء موقفنا منها، ليس الاقتناع بعدم مواءمتها لنا، أو بضررها علينا، وإنما سوء الفهم الناتج عن الجهل ابتداءً بماهيتها، أو الاكتفاء بالتعرف عليها بطريقة مواربة: مشوشة وغامضة.

بالنسبة للعلمانية، فإن التعريف الشائع بأنها "فصل الدين عن الدولة" تعريف سطحي، وقاصر أيضاً، لا يغطي كل تقسيمات الظاهرة التي يعبر عنها، ولا يعكس كامل تفاصيل الصورة التي يعرضها، فمنطق العلمنة: بما يتصل بها من مفاهيم وثيمات متنوعة، يتجاوز حدود ثنائية الدين / الدولة إلى طبقات أعمق بكثير، وعملية "الخروج من الدين"، أو التحول إلى الدنيوي / الزمني، التي تشكل أساس الفلسفة العلمانية إوالية مركبة ومعقدة وشاملة تعني ما هو أكثر من مجرد نزع طابع القداسة عن العمل السياسي، وإفراغ المجال العام من فكرة الإلهي، وما السجالات الدائرة اليوم في الفضاء الغربي حول دور الدين في السياسة والثقافة، والدين والحياة العامة، وقوة الدين في المجال العام، إلا تعبير عن أن إشكالية العلمانية أكثر تعقيداً مما يبدو، وأنها ما تزال مثيرة للجدل حتى داخل المجتمعات الحديثة التي نجحت منذ وقت طويل في "خصخصة الدين".

على مستوى آخر، عدم التمييز بين الخطابات والخبرات العلمانية السائدة في الغرب، التي تشكلت عبر مسار تاريخي متراكم وصعب، واختزالها، بشكل تعسفي، في أحد تعبيراتها فقط: التعبير اللاديني، يضعنا في مأزق التعميم الأحادي الذي يزيد من درجة الغموض والالتباس.. والمخاوف. فالعلمانية منظومة مرنة ومفتوحة، متعددة الوجوه والأبعاد والرؤى، قابلة للفرز والتمييز، تتراوح بين المعتدل الذي لا يتجاهل الاحتياج الإنساني للدين، فيستوعبه داخل نسقه القيمي، ويضمن حرية المعتقدات والممارسات الدينية، باعتبارها من شئون الحياة الفردية للإنسان، التي تستوجب الاحترام والحماية القانونية (علمانية الحياد الديني)، والمتطرف / الإلحادي الذي يناهض الدين من حيث المبدأ: يقصيه عن الحياة بالكامل، ويسعى إلى استئصاله من كل بُنَى الثقافة والمجتمع (العلمانوية) والبراجماتي الذي يتعامل مع الدين من منطلق انتقائي / نفعي: يبعده ويهمشه حين لا يحتاج إليه، ويدنيه ويستخدمه إذا اقتضت الغاية والمصلحة ذلك.

ربما كان من الصعب أن يفهم العامة وبعض النخب عندنا أن العلمانية لا تعني الإلحاد ونفي الدين على وجه الإطلاق، لكنها الحقيقة، فالعلمانية بالفعل لا تستطيع أن تؤدي هذه المهمة المستحيلة، فحتى لو كنا نعيش حالياً في زمن "العقائد المتطايرة"، فإن الأديان ستظل حاضرة وفاعلة في حياة الإنسان، والذين يراهنون على أفولها واندثارها مخطئون، لا بل واهمون، لا يستندون على أي منطق تاريخي أو موضوعي.

إن إقرار نمط من التدين الشخصي المتصالح مع بيئته ومع العالم، الذي يقبل بالتعددية الدينية وبمرجعية الديمقراطية وحقوق الإنسان، هو قصارى ما استطاعت أن تحققه أكثر تجارب العلمنة نجاحاً واستقراراً. فالسمة الأهم لكل علمانية حقة هي الالتزام الكامل والمطلق بحماية الحريات بأشكالها كافة، وفي الصدارة منها حرية العقيدة التي تعني أن يمارس كل مواطن على وجه الأرض حقه الفطري في اعتناق الدين الذي يريد، وعبادة الإله الذي يختار، بكامل إرادته، دون خوف، ودون توجيه أو إكراه من أي جهة.

إن أساس العلمانية أنها تجربة إنسانية وفكرية قبل أن تكون عملية سياسية، وهي ديناميكية للارتقاء بأخلاقيات التدين قبل أن تكون افتراضاً مضاداً للدين. إنها دعوة لأنسنة الدين والسياسة معاً، بعيداً عن الخطابات الأيديولوجية المصممة لاستثارة المشاعر والغرائز، هذه هي الصورة التي يجب أن تكون واضحة لنا ونحن نحفر جدران القبح الأصولي والطائفي التي تحيط بنا من كل الجهات، وتحجب عنا ضوء النهار.

كذلك علينا أن نعلم أن المجتمع العلماني لا يتكون دفعة واحدة، بقرار سلطوي وحزمة إجراءات تنفذ بين ليلة وضحاها (الأمر نفسه ينسحب على مشاريع الإصلاح الديني)، لا بد من الإعداد له على فترات طويلة، وتمهيد الأجواء لاستقرار القيم الحداثية فيه، وهذا الأمر يحتاج إلى جهد شاق بالفعل، خاصة ونحن مجتمعات غارقة في وحل الانقسام، وغير ناضجة في وعيها، كما أننا تأخرنا كثيراً، فالموضوع ليس بالسهولة التي يتصورها ويتوقعها البعض.

تحمي العلمانية قدسية الأديان بقدر ما تحافظ على حقوق الإنسان، فهي وقاية للإيمان الديني من عبث العابثين، وتهافت الجاهلين، غير أن هذا لا يعني أن تتحول إلى دوغما أخرى تثير من المشاكل أكثر مما تطرح من حلول، وهذا ما نلمسه بالفعل عند بعض المغالين الذين تحركهم الانفعالات الأيديولوجية، حتى صاروا يرفعون العلمانية إلى مصاف العقائد الدينية التي لا تقبل النقاش، فإما أن تؤمن بها كما هي أو تصير كافراً.

إن النقد يجب أن يطاول الأفكار جميعاً، لا فرق بين فكرة دينية وأخرى علمانية، علينا أن نفكر في كل شيء، كل ما يبدو لنا موثوقاً، أن نراجع اختياراتنا وتجاربنا باستمرار، هذا هو المبدأ الذي يقوم عليه فكر التنوير والحداثة: أن تكون الحياة صيرورة لا تتوقف من الأسئلة والأجوبة التي تفتح بدورها المجال أمام أسئلة جديدة، أما مهاجمة أفكار ومعتقدات ونظريات الآخرين، مقابل عزل ما ندين به نحن عن النقد، فهذا ليس من الإنصاف ولا من الحداثة في شيء

من حق كل واحد أن يتساءل عن طبيعة النموذج العلماني الملائم لظرفنا التاريخي الاستثنائي في أزماته وفي هشاشته، ذلك أن حاجتنا إلى أن نكون علمانيين لا تعني أن نأخذ أول دليل للعلمانية نجده في الطريق، ونسارع إلى تطبيقه، دون أن نتأكد من صلاحيته وقابليته للتطبيق عندنا، ولا أن نلجأ إلى تقنية "الكولاج" بشكل اعتباطي، دون تفكير ودراسة، فليس من الضروري أن نكون مقلدين، ولا ملفقين، وهنا بالذات علينا أن نفكر ملياً ونحن نبحث في تفاصيل أزمتنا، لأن التورط في تيه المطابقة (غير المحسوبة) لا يقل خطورة عن الاستغناء عما هو واجب وضروري والعيش بين الحفر: خارج السياق الحداثي الكوني.

العلمانية ضرورة حضارية للمجتمعات كلها، لكن يجب أن نكون جاهزين لها، أن نعرف ماذا تعني، وما هي الحقوق التي سنكتسبها في ظلها، والواجبات والمسئوليات التي ستترتب عليها، وهذه هي أزمتنا الحالية: أننا نرفضها دون أن يكون عندنا أي فكرة صحيحة عنها.

وقديماً قالت العرب: من جهل الشيء عاداه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤال
موفق حدادين ( 2017 / 6 / 27 - 18:22 )
السيد سمير الحمادي

بعد التحية
ما هو موقف العلمانية من اهل الدين الذين يستعملون المال في نشر افكارهم ولكن دون ضغط او اكراه؟ خصوصا المدعومين من دول خارجية
هل لهم مطلق الحرية في ذلك؟
لا بد لي هنا ايضا من التاكيد على ان مقالتك منطقية وتصب في صيب الموضوع
مع شديد الاحترام
27/6/2017 عمان في


2 - العلمانية هي منع رجال الدين من تولي السلطة
حيد الموسوي ( 2017 / 6 / 28 - 04:23 )
الهدف المعلن للعلمانية التي نشأت في أوروبا المسيحية هو فصل الدين عن الدولة و الحد من تأثير رجال الدين على الجكومة و لكن هدفها المخفي و المبطن كان محاربة المسيحية كدين و نشر الإلحاد بين الشعوب ، العلمانية تعني ان يكون الحكم و السلطة في الدولة بيد العلمانيين و ليس بيد رجال الدين و في المسيحية الناس يُقٓ-;-ٓ-;-سّمون الى فئتين العلمانيين و رجال الدين و العلماني هو كل شخص خارج السلك الكهنوتي سواء كان متدينا او ملحدا و حتى شماس الكنيسة هو يعتبر علماني و لا ينتمي الى رجال الدين العلمانية مبدئيا لا تحارب الدين و لا تتدخل في شؤون عقائد الناس و هي فكرة ذكية استغلها مكون ديني قليل العدد داخل المجتمع الأوربي مستغلا الفساد الأخلاقي و الديني لرجال الكنيسة في العصور الوسطى ليطرح فكرة العلمانية اي انتزاع السلطة من رجال الدين و تحجيم نفوذهم ، و العلمانية لا تصلح و لاتتوافق مع الاسلام ، فالاسلام هو دين و دولة و لا يمكن فصل ما هو ديني ( السلطة الروحية ) عن ما هو دنيوي او السلطة الدنيوية و الخليفة هو الرئيس الدنيوي و في نفس الوقت هو الرئيس الرروحي للمسلمين فلا فصل للدين عن الدولة في الاسلام

اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك