الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا قمر أنا وياك

تيماء حسن ديوب

2017 / 6 / 28
الادب والفن


أن يبتسم لك وأنت الغريب في بلدٍ ما، ابن أصلي من ذاك البلد هو أمر أكثر من رائع. تمّلكتني عند دخولي إلى عيادة الأطفال الأنيقة رغبة وحيدة هي أن تبتسم الطبيبة ذات النسب العريق والتي تنتمي إلى طبقة المجتمع الألماني الراقي في وجهي، أن تقول لي: لا تقلقي، ابنك بصحة رائعة.

لم تكن في مكتب الاستقبال نفس الصبية، على غير العادة سيدة لها عدد غير قليل من السنوات، محترمة اللباس، محيّاها مريح إلى حد كبير، سيدة يبدو من الوهلة الأولى أنها جميلة المعشر، لبقة الكلمات.
هدأت أفكاري في مرجلها أمام نظراتها اللطيفة، إِعْتَرَاني شعورٌ جميلٌ، كانت السيدة بأناقتها البسيطة تشبه جدتي إلى حدٍ كبير، جدتي التي لو قدر لها أن تعيش في بلاد اللواتي لا آخرة لهن كما تقول، جدتي التي لو تقبل يوماً أن تخلع منديلها وتقص ضفيرتها، (تقص جدتي القليل من شعرها كلما طال، تحتفظ بالشعر المقصوص، تحيك لنفسها وسادة ليستريح عليها رأسها في لَّحْدها، قالت لي بثقةٍ: يا ستي، لن أستطيع الموت دون وسادة!)

السيدة في الاستقبال حررتني من شرودي: ابنتي الطبيبة ستكون في خدمتكم في لحظات، رقصت في نبرة صوتها مشاعر الأمومة و الفخر، أحببت ذلك الشموخ، ذكرني بجسد أمي كيف سار بجانب الإبنة التي أصبحت أستاذة جامعية لأول مرة، يومها رمقت جارتها التي عيّرتها في الماضي بعدم قدرتها على انجاب الذكور بنظرةٍ خاصةٍ، الجارة التي سيعمل جميع أولادها الذكور سائقي سرافيس!

جلستُ إلى جانب طفلي، نظرت إلى وجهه الجميل، طفلي ذو الأيام، عيناه الصغيرتان تلاحقني، قلت له: كم سأكون فخورة بك أنا أيضاً إذا أنهيت موعدنا دون بكاء ولا صراخ! تدور رحى الكلمات الغريبة من حولي و لا أفهم إلا القليل، تحاول السيدة بلطفٍ أن تشركني بحديثها بنظرات فيها كثير من التعاطف، يخيب أملها إذ لا أنبس ببنت شفة وأكتفي بابتسامة.

عشت في السنة الأولى من الجامعة دوامة قرار تحديد مصيري الدراسي، كنت قد حصلت على البكالوريا بفرعها العلمي و لكن علاماتي اختارتني لفرع أدبي، تم افتتاح كلية التربية في محافظة اللاذقية للمرة الأولى، هناك اختصاصين فقط للدراسة علم نفس وتربية، كنت يومها أحلم بأن أدرس علم النفس، طالما أغرتني شخصية المحلل النفسي في أفلام هوليود، طالما تمنيت تقمص إحداها، لاحقاً كم سيخيب أملي، سينتحر هذا الأمل في النهاية عندما سأختار تخصص علم النفس الاعلامي في دبلوم الدراسات العليا، ما يسمى بعلم النفس في سوريا وهم أو ربما سراب أو على الأقل تسميات طنانة و رنانة! كنت قد عزمت على دراسة فنون التجارة لكن علاماتي اختارت التربية، فقررت أن أجرب لفصل واحد ثم أجيب على السؤال الكبير: هل أتابع دراسة التربية أم أعيد التجربة المريرة للبكالوريا، في السابق كان يحق لطالب البكالوريا أن يكرر التجربة عدد المرات التي يشاء!

كان الفصل الجامعي الأول فظيع، الكلية جديدة والكل متخبط بدءاً بالإدارة وانتهاءً بالطلبة، في الفصل الأول خمس مواد وفي الثاني سبع، مادة التربية القومية مادة أساسية في سنوات الدراسة الجامعية، كانت الأسئلة مركزية، على جميع رؤساء دوائر الكليات المرور باكراً إلى رئاسة الجامعة للحصول على نسخة من الأسئلة ليتم لاحقاً طبعها وترتيب أعداد الأوراق المطلوبة في ظروف مختومة بختم كل كلية.
ذلك الصباح رافقت أبي الذي كان يومها رئيس دائرة كلية الزراعة إلى رئاسة الجامعة ليحصل على نسخة أسئلة مادة التربية القومية للسنة الأولى، المادة التي سأتقدم لأمتحن بها ذلك الصباح، انتظرته في بهو الرئاسة القديم، خرج ليلوح لي بالظرف الذي لم يكن مغلقاً يومها، قال بتهكمٍ مستفز: إنها أسئلة امتحانك! انتفضت كمن عضّته حيّة وأجبت بكبرياء مزيف: لم أكن يوماً بحاجة لمساعدتك، فلماذا الآن!؟ قهقه بصوت عالٍ و قال: طبعاً طبعاً. ستمر السنوات و سأحتاج حكمته وصبره في كل مفصل هام من حياتي، قال بحزم: ليكون البناء متين عليك أن تضع أساسه لوحدك، من ينجح بزنود غيره لابد أن يفشل بالنهاية، عليكِ أن تتعلمي المضي وحدك بثبات، تابع بنبرته المتهكمة: المبدأ مبدأ!
يومها تقدمت لمادة التربية القومية وكانت إحدى المادتين التي فشلت باجتيازها في الفصل الأول من السنة الأولى في كلية التربية، اتخذت قراري في الفصل الثاني بدراسة التربية ونجحت بكامل موادي في الفصل الثاني و مضيت بثبات حتى النهاية.

على غير العادة يعود والدي مغتماً إلى المنزل، لا يسأل كعادته عن جريدته، يقول بأنه ليس جائع! و لأن والدتي أصدرت منذ نعومة أظفارنا فرماناً عسكرياً بقدسية الأكل الجماعي واحترام وقت الطعام، تحمر وجوهنا الجائعة بحيرة و نرفض الطعام دونه، تخبره الأم الحائرة أن الجميع ينتظره فيخرج إلى الصالون، يتمدد على الكنبة بإنهاك، عادةً ما يحكي لوالدتي فقط ما يحدث في أزقة الكلية! يحكي لنا جميعاً: انفجرت في الكلية اليوم فضيحة أخلاقية، تصوروا سعد! الدكتور الجامعي الوقور ذو الشخصية الفذة، الذي عاد إلى الوطن بكتاب توصية من جامعته الأوروبية بأن يتم تكريمه في جامعة وطنه لاجتهاده و قيمة البحث العلمي الذي أجراه، الدكتور الجامعي الذي رفض كل مغريات البقاء في ذلك البلد الأوروبي لقناعته أن مكانه بين أهله، الذي قال: لا بارك الله بعلمي عندما لا يلقي بثماره على وطني!
كثيراً ما يشتكي الطلاب في الجامعات السورية من طول مدة المحاضرة، غالباً ما قالوا: ساعتين والله شي بيفقع! في محاضرات الدكتور سعد تزدحم المدرجات، غالباً ما قال الطلاب: لا نشعر بمدة المحاضرة، إنها فعلاً شيقة و قيّمة، ينسرق معه الوقت بمتعة غريبة. الدكتور سعد متهم بقبول مبلغ كبير من المال من ابن تاجر الحديد الكبير في محافظة اللاذقية، لقد باعه الأسئلة! اللعنة، لقد أعترف الرجل بفعلته، كم تمنيت لو كذّب الخبر، كم تمنيت لو دافع عن نفسه، هذا الرجل لا يمكن أن يخطئ هكذا خطأ، لا أستطيع أن أفهم. سألتُ بحشريتي المعتادة وقلت باستفزاز: ما هي الخطوة التالية ثم لماذا أنت حزين!؟ لقد أعترف بخطئه، يجب أن يعاقب أيضاً. كانت نظرته نحوي حزينة أكثر منها غاضبة: لقد أحيل إلى التحقيق، لا أقو على الانتظار حتى أفهم ماذا حدث، رجل كهذا لا يبيع مبادئه!
في يوم التحقيق عاد والدي إلى المنزل كالمهزوم في معركة، كانت على وجهه ملامح الانكسار، كان صوته متعباً:
بدأ كل شيء بصورة شعاعية ملعونة لطفلي ذو الأعوام الثلاث عشر، ازداد ألم رأسه مع مرور الأيام حتى تحدث الطبيب عن ضرورة اجراء صورة رنين مغناطيسي للرأس، لم نلق بالاً لكلام الطبيب، كنا مشغولين كلٌ منا بتحضير واجباته المهنية، كان تحضير المحاضرات الجامعية يكلفني وقتاً طويلاً، كثيراً ما كان يشغلني حتى عن أسرتي. حملنا الصورة إلى الطبيب دون أن ندري أننا نحمل تعاستنا بين أيدينا، اكفهر وجهه و دون أن يتفوه بكلمة فهمنا، تابع الدكتور سعد: لم تكن تجربتي الأولى مع هذا المرض اللعين، مات أبي دون أن نتمكن من تأمين جرعة علاج واحدة، كنا فقراء حتى الشقاء.

يحاول الطبيب التخفيف عنا بضرورة التشبث بأمل الشفاء فحجم الورم صغير واللعين لم ينتشر بعد، بدأت رحلة الألم، كم تمنيت لو أصابني المرض بدلاً عنه، عشت طوال حياتي مع الأورام، ورم الفقر والحاجة، ورم الغباء والمحسوبيات، أورام أبناء المسؤولين، ورم الخوف الذي استشرى في كامل جسدي حتى أصبح عضواً جديداً فيه! كم تمنيت لو حلقو رأسي ولم يلمسوا شعرة من رأسه الجميل، يوم العملية بكيت غربتي في وطني لأول مرة، بكيت شهادتي التي لم يفهم منها حرفاً واحداً من قيّمها، بكيت ضعفي وعجزي عن الصراخ في وجه من أهانني و أرعبني كل هذه السنين! تم إجراء العملية بنجاح كما قال الطبيب، استمرت مسيرة معاناتنا في جلسات العلاج الكيميائي، كنت كالمشلول أشاهد و أسمع صهيل ألم طفلي، كنت أقف كالأبله أمام أسئلته التي تدور في فضاء عجزي، أطرقت رأسي حين سألني: لماذا أصابني الله أنا دون الجميع بهذا المرض، ما هو الشيء القبيح الذي فعلته ولم يسامحني الله عليه!؟
لن تفهموا ما أقول، قال فجأة كمن صحى من كابوس، لقد بعت كل ما أملك و لم يكن بالكثير، لم يبق لدي ما أبيع إلا الأسئلة، ثم أن ذلك الأبله طالما نجح في بقية المواد بنقوده، أنا اليوم أحتاج هذه النقود لا لشراء السيارات الفارهة و الفيلات الضخمة، لا لكي أصرف على فتيات الليل في الملاهي، أحتاجها لأنقذ حياة طفلي، عندما أنهارت من عينيه دمعة قام من وراء مقعده و خرج من القاعة. نظر إلينا والدي بمرارة وقال: اليوم شاهدت بأم عيني كيف يبكي الرجال، لا يكسر ظهر الأب إلا أولاده!

سألت والدي عن الإجراء الذي ستقوم به الإدارة فقال: هناك ثلاثة أنواع من الغباء: غباء مضحك ينتج عن شخص غبي يحاول أن يتذاكى على الآخرين دون أن يدرك درجة غباءه، غباء مبكي ينتج عن شخص غبي يحاول أن يتذاكى على الآخرين دون أن يدركوا أن سيقوده أما الغباء الأخطر (المضحك المبكي) ينتج عن شخص غبي مقتنع تماماً أن غبائه ذكاء لابد أن يتعلمه الآخرون و تدّرسه المدارس و هنا الكارثة. سأحتاج بعض الوقت حتى أستطيع أن أفهم ماذا قصد والدي يومها!

يتثاءب وجه طفلي فأعود من زحمة شرودي، لمحت عيني عند ادراك وجهه الجميل بعداً ثالثاً، كان هلال قمر كانون، كنت على جلستي لم أتحرك، جدتي تقول: من يرى الهلال وهو جالس يكون مرتاحاً لبقية الشهر، فكرت بواجباتي الكثيرة في ذلك الشهر و عرفت أني لن أكون أبداً مرتاحة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة