الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحالة الراهنة للفكر الاسلامي - بين فقه اللغة والتاريخية

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 6 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



من الصعب بعد كل ما قلناه في المقالات السابقة التي نشرناها تالياً في هذا الموقع وفِي غيره ، أن نطلق حكما نهائياً في ظل الوضع الراهن للدراسات الإسلامية فيما يتعلق بمسألة التاريخية في الفكر الإسلامي، يمكن أن نستنتج مؤقتا أن مفهوم التاريخية حسبما تجلى في الأدبيات التاريخية والفلسفية والفقهية، كان قد عولج ضمن المنظور الذي أسسه التعارض القرآني ما بين سلسلة المفاهيم المعرفية التي تناثرت في طول آيات القرآن وعرضه، من مثل روح وجسد، سماء، وأرض ، حياة فانية وحياة الخلود.. الخ .. وقد نتج عن ذلك معالجة نموذجية خاصة لتاريخ البشر،
مما يؤسف له أن كتب التاريخ القديمة كانت استغلت أو درست من خلال وجهة نظر وثائقية فقط، فمؤلفات كبرى كتاريخ الطبري مثلا لم تحظ حتى اليوم بتحليل جيد وذلك من خلال الكشف عن بنيتها الداخلية والفرضيات الأيديولوجية التي توجه شكلها ومحتواها. من المؤكد أن نجاحات مهمة قد تحققت بصفتها مطلبا نقديا يلح على تجميع الوقائع الإيجابية الوضعية التي حصلت بالفعل، لقد ذهب ابن خلدون بعيدا في سبيل تحديد التاريخ الوضعي أو الواقعي، وعلى الرغم من ذلك فإن مؤلف تجارب الأمم ، كان قد نظر الى التاريخ من على قمة الحكمة الخالدة، بينما بقي مؤلف المقدمة سجين التشكيل الخطاب السني، يضاف الى ذلك أنه اذا ما اردنا ان نقدر قيمة مفهوم التاريخية في الفكر الكلاسيكي، فعلينا أن نأخذ بعين الأعتبار إخفاق العقلانية النقدية التي نهض بها بعض المفكرين من الطبقة الممتازة .
راح علم الأستشراق يفعل الكثير بدء من القرن التاسع عشر، من أجل تنشيط الأتجاهات النقدية التي كانت قد بدت ظواهرها سابقا في التاريخ التقليدي، ومع ذلك فنحن نعلم أن معظم المستشرقين كانت قد سيطرت عليهم القرأءة التأريخية والتاريخية، ففي الأولى سيطر عليهم المنهج التكنيكي الذي يكتفي بتسجيل الوقائع وترتيبها في خط زمني متواصل، تقرأ فيه البدايات والأصول والتأثيرات والأحداث من كل نوع، وفي الحالة الثانية نجد أن الروح المغموسة في التاريخ الماضي والحاضر للجماعة تتسائل عن معنى ودلالة القوى التي تضغط عليها، وعن الوسائل التي تمكنها من السيطرة على هذه القوى.
علينا أن لا نقلل من أهمية الكشف التاريخي الذي قامت به المدرسة التاريخية الألمانية والذي أستغلت نتائجه الأساسية في فرنسا، إن الرفض الإسلامي لهذا العمل، راجع الى أن النتائج التفكيكية للنقد التاريخي التي لا يمكن أن يعوض عنها بواسطة التأمل التاريخي الذي يصل الى مستوى عالي في السياق الثقافي، إن التفكير الأصلاحي المتركز حول الجوانب البرغماتية للقانون والأخلاق والسياسة، كان ولا يزال بعيد عن النتائج المعرفية المترتبة على النقد التاريخي، نجد بشكل عام أن المجتمعات الإسلامية تلهث من أجل الوصول الى نوع التقدم الإجتماعي الإقتصادي التي لم تكتب أطره الثقافية وحوافزه العقلية إلا فيما بعد وبشكل مبعثر، كما لا نجد سوى تلك الحلول التي تتخذ بشكل سريع وإرتجالي دون أن ترتكز على رؤية كلية يمكن نعتها بالأسلامية، على غرار الحضارة الكلاسيكية، التي كانت قد نشأت وحُركت وغُذيت من قبل الرؤيا القرآنية الواسعة للعالم والتاريخ، وهكذا نلاحظ نقدا متفاوتا بين النظام المعرفي الذي يصحب الحضارة ما بعد الصناعية في الغرب، وذلك النظام الذي يخص مرحلة التحرر والتنمية في البلدان الإسلامية.
يمكن أن نفهم تبعا لذلك لماذا أن القرآن والتاريخ يشكلان بالنسبة للفكر الإسلامي نقطة الإنطلاق الإجبارية من أجل الأفتتاح المنهجي للعقلية العلمية، يبدو في الواقع أنه لم يعد هناك من مجال لاستمرارية ذلك التناوب الوهمي بين حقيقة موحى بها، وحقيقة اقتنصت بواسطة الجهد التاريخي للعقلانية، لا ريب أن الإنسان المعاصر يبقى دائما حساسا للنداءات الدينية ولكن يمكن القول بأن الاقتناع المؤسس على البرهان هو في طور الحلول محل الانفعال العاطفي إعتقادياً وفي مجال التطبيق العلمي أو الدراسات العلمية .
إن تأمل التاريخ أو التفكير فيه من خلال القرآن ومجموعة الظروف التاريخية والمواقف الثقافية التي تميز الإسلام، عمل يأخذ أهمية قصوى بحيث لا يقف عند صحة النص المشكل في زمن الخليفة عثمان، والنقد التاريخي الخاص به، لكن ما يثير الأستغراب هو كيف استمر هذا الحوار بين المستشرقين وبين المسلمين المتزمتين وظلت الادانات تتالى في سياق مختلف بين الجانبين ، ونحن نعلم أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم حقيقي في مسألة الدراسات التاريخة وتطبيقها على القرآن مالم نمر بفكفكة ثلاثة قضايا مهمةهي على التوالي :
ـ مفهوم الانغلاق وتأبيد المعنى أو نهائيته.
ـ قضية المرور من الفكر الأسطوري الى مرحلة متقدمة في الفكر التاريخي.
ـ فلسفة اللغة .
علما أن هذه لمسائل لا تزال موضوعا للتفحص لسلسة من الدراسات جارية اليوم عند كثير من المفكرين الغربيين ، وإن كانت النتائج التي أفضت إليها هذه الدراسات لم تدخل بعد في بنية الثقافة الاسلامية أو في بنية اللغة العربية .
فيما يخص مفهوم الانغلاق فهو يعني ذلك التصلب العقلي بصفته عدم القدرة على تغير الحكم المتعلق بقضية ما، في الوقت الذي تتطلب فيه الشروط الموضوعية حدوث ذلك وعدم القدرة على إعادة ترتيب حقل معرفي ما، حيث توجد فيه مجموعة من الحلول لمشكلة ، إن الانغلاق هو نظام معرفي يقول الحقيقة كاملة يتشكل من الأعتقادات واللاعتقادات، وهي تُولّد في هذا الجانب وفي كل جانب سلسلة من نماذج اللاتسامح فيما يتعلق بالآخر المختلف .
وفيما يخص الإستشراق نجد المسلمين يطالبون وهم يختبئون وراء لعبة مكشوفة براهين تاريخية، في الوقت الذي نلاحظ فيه عدم قدرتهم على ممارسة القرأءة الكاشفة، التي تنقلهم الى أعماق النص، يطلبون ذلك وهم لا يملكون العدة المعرفية ولا يتسلحون بالوثائق التي يمكنها أن تفيد في إيجاد تاريخ نقدي للقرآن ، لقد دمرت باستمرار من قبل هذا الهيجان السياسي الديني، فبدلا من محاولة تحديد أسباب ونتائج ما فعلته هذه الدوغمائية وفي تصرف هؤلاء (الذين وفروا على المؤمنين النتائج المشؤومة التي تنتج عن الأحتفاظ بهذا النمط الفكري ) نوعا من المرونة العقلية والطاعة لله ، وهكذا يبررون عمل السلطات السياسية .
إن الأنتقال من الفكر الاسطوري، الى الفكر الواقعي الموضوعي، لم ينجز نهائيا وبشكل كامل في أية حضارة من الحضارات الانسانية، وقد يبدو في هذا السياق أن العقل قد نجح للمرة الأولى في اليونان القديمة على تأكيد قدرته وذاتيته في مواجهة الاسطورة، كان أرسطو على سبيل المثال يرى أن هؤلاء الذين يوظفون الأسطورة من معاصري هيزيود لا يستحقون أن يلتفت إليهم، لا أود الدخول في تاريخ الصراع بين الأسطورة والعقل فهذا مبحث طويل ، سوف نكتفي هنا بالقول بأن إعادة الأعتبار للفكر الأسطوري في الغرب يمثل ردة فعل على مرحلة الانتصار المتطرف للعقل المنطقي وللعقل الوضعي، وهكذا يبدو أن الزمن الراهن يعترف وللمرة الأولى بالأسطورة و يدخلها مع كل قيمها الإيجابية ضمن إطار معرفة تعددية، يسمح لنا هذا الوضع المعرفي الجديد أن نفهم كيفية إشتغال الفكر الديني، دون أن نعاكسه بالرفض الأعتباطي للعقل المنطقي المركزي، ثم فهمنا كذلك لماذا ظل الفكر الاسطوري المشدود الى يقينياته لا يمكن له أن يخطو خطوة واحدة الى الأمام في اتجاه الفكر الواقعي، والمسافة نفسها التي كان هذا الأخير قد قطعها نحوه، من أجل أن يعترف له بمكانته المستقلة . يعود ذلك الى أن الفكر الواقعي هو فكر تاريخي ، وهو الفكر الذي يدرس التغيّر والإنقطاع، كما يدرس الأستمرارية والبنى المتصلة ، أما الفكر الأسطوري الذي يعتمد على التحليل والتركيب في ذات الوقت، والذي يرجع دائما الى الوراء نحو تاريخ مضى، أي نحو الأصل ، وهو ذات الوقت المعايش والمحايث لمبررات وجود النظام الماثل للثقافة السائدة ، نحن نعلم ان الفكر الاسطوري هو فكر لا زمني، يصعد نحو اصول الأشياء ويعري أسسها التوليدة والمتزامنة، وهو يملك خاصية أخرى هي أنه يشتمل على أنظمة التصورات الدينية والفلسفية في شكل ما .
وفيما يتعلق بفلسفة اللغة تختلف بطبيعة الحال عن الفكر المستخدم في الإسلام، لقد هيمنة صورة تقول أن اللغة جاءت من الله :
( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ...) سورة البقرة
ينتج من هذا أن الأسماء تحيلنا وبشكل مباشر الى الأشياء ( فوكو ـ الكلمات والأشياء )، وأن كل جملة لها معنى تتحول في سياق من التبدلات المشروطة في نظام الفكر، بمعنى أن اللغة ليست هنا أدة توصيل للفكر والمعاني فقط، وإنما تحمل نظاما يولد المفهومات في إطار بنية اللغة ذاتها، هكذا يبدو الفكر عندئذ محدودا باللغة ومقيدا بهذا المعنى الدقيق والجازم للكلمة. ولا يمكنه أن ينشط خارج القوانين النحوية المعروفة في تركيب الجملة، ولا خارج التحديدات المعجمية والألفاظ الخاصة باللغة، نجد في سياق هذا المنظور أن لغة القرآن تأخذ قيمة تنظيم نحوي وفضاء معنوي نموذجي ومتعال، ذلك أنه لا يمكن للفكر بعد الآن أن يطور بحرية منطقا للاكتشاف أو تكنيكا في علم المعنى يتناسب مع النتائج التي أفضت لها التاريخية، على العكس من ذلك فأنه ينبغي على الفكر أن يتخذ له كهدف نهائي فهم المعنى الأصلي المتضمن أو المودع في الكلام الموحى به، وذلك من أجل إخضاع التاريخية الى معايير ثابتة من أجل السيطرة على المجتمع أو التحكم بإنتاج المجتمع من قبل الإنسان .
كانت فلسفة اللغة قد طبقت بقسوة شديدة وبصرامة من قبل التيار الفكري المدعو بالحرفي ( أي الظاهري الذي كان أهم أعلامه إبن حزم ) لكنها لم تمثل بشكل عام قاعدة علم الأصوليين .
هذا ما يفسر لنا السبب في أنه عندما يثبت مؤرخ الفقه الاسلامي أن عصر مؤسسي المدارس والمذاهب لا ينبغي أن يعد كبداية لتطور ما وإنما كنهاية له، فإن الوعي الإسلامي يشعر بأنه قد اصيب في الحد الأقصى من تماسكه، هذا التماسك الذي بدونه يفقد الإسلام مصداقيته، إن هذه المسألة تماما كمسألة صحة النص القرآني تتجاوز في أهميتها موضوع تطبيق المنهجية التاريخة من أجل إثبات صحة الأحداث التي لا يمكن إنكارها، وذلك لأن هذه الأحداث العزيزة على المؤرخ لا يمكن أن تأخذ ابعادها التاريخية الحقيقية إن لم تنصهر في بنية الوعي الإسلامي، إن الخطوط القوية التي تشكل هذه اللحمة أو هذا النسيج ، تمثل فعلا حقائق كان المؤرخ قد أهملها زمنا طويلا حتى هذه اللحظة، إن ما قلناه آنفا باختصار شديد حول الروح المغلقة والفكر الأسطوري وفلسفة اللغة لم يحظ حتى الآن إلا بدراسات معزولة وعديمة النفع والصلة في كل الأحوال بمفهومات مؤسسة كعلم الإشارات، والقطائع في المستوى المعرفي ، ومفهوم المدة القصيرة والطويلة في التاريخ، ومفهوم الزمن الثابت والمتحرك الخ .. ولا يزال مؤرخو الإسلام يراوحون عند مرحلة الدراسات الوصفية للتاريخ المهمش والمتشظي، إنها مرحلة حتمية لابد منها وهي ما دامت سائدة، فإننا نؤكد على المواجهة بين الإسلام من جهة والتاريخة من جهة أخرى، الأمر الذي يعني أن التاريخة هي قدر هذا الإسلام ولا يمكن أن تظل هذه الأيديولوجيات أو منابر الصحافة والمساجد والجامعات الإسلامية بل وغير الإسلامية هي المعبر الواحد والوحيد عن الأسلام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة القميص بين المغرب والجزائر


.. شمال غزة إلى واجهة الحرب مجددا مع بدء عمليات إخلاء جديدة




.. غضب في تل أبيب من تسريب واشنطن بأن إسرائيل تقف وراء ضربة أصف


.. نائب الأمين العام للجهاد الإسلامي: بعد 200 يوم إسرائيل فشلت




.. قوات الاحتلال تتعمد منع مرابطين من دخول الأقصى