الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف نتجاوز التخلف؟

منذر علي

2017 / 7 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


لا أزعم في هذا الحيز الضيِّق أنني قادر على تقديم وصفة ناجعة لتجاوز محنة التخلف التي تعصف بنا ، فذلك أمر دونه خرط القتاد، ولكنني أسعى لاستثارة التفكير الجماعي، في البحث عن حلول للمعضلات التي تواجه مجتمعاتنا العربية. وما دفعني للكتابة في هذا الشأن ، هو أنَّ ثمة أطروحات كثيرة ومهمة ، تفيض بها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بعضها تحمل رؤى غائمة ، مشوشة، تميل نحو "مداواة الداء بالتي كانت هي الداء"، وبعضها الآخر ، تحمل لمحات فائقة الذكاء. وبصرف النظر عن مضمون تلك الرؤى المتعارضة ، التي لا تقدم إجابات شافية في كثيرٍ من الأحيان، وتغرق أحياناً أخرى في التفاصيل والفذلكة اللفظية والغموض، ambiguity ، إلاَّ أنها ، في مجملها ، رغم ذلك ، في غاية الأهمية ، بما تطرحه من قضايا، وما تعرضه من إشكاليات وما تثيره من أسئلة، جادة وجديدة ، وما ينتج عنها من تحفيز للتفكير والتأمل في الشأن الوطني ، وفي الشأنين العربي والإسلامي.
ومن بين تلك الأطروحات ، المعروضة على بساط البحث ، نجد ، مثلاً، من يتعصب للماضي، و يسعى، بشكل نكوصي ، لأنْ يعيدنا على أعقابنا إليه ، ليس فقط لأنه يرى أنَّ طريق المستقبل مُقفلة أمامه، ولكن لأنه يرى أنَّ المستقبل الحقيقي يكمن ، أصلاً في الماضي، هناك في الخلف، وعند نقطة معينة، في مسار التاريخ الإنساني ، حيث جرى، في غفلة من الوعي، ، كالسيْر أثناء النوم somnambulism، الانحراف عن السكة، عند تلك النقطة، والانزلاق خارج المسار القويم للبشرية، فتعثرنا وغرقنا ولم تقم لنا قائمة . والمتعصبون للماضي، ومنذ ذلك الحين، مابرحوا يجاهدون لتصحيح ذلك المسار بالعودة إلى تلك النقطة التي انحرف عنها الركب الإنساني. وفي رحلة الإياب إلى الماضي، نرى الماضويين ، لا يكتفون فقط، بتكفير المجتمع الوطني المهشم، وسحبه من الأنفِ وبالعنفِ، نحو ذلك الماضي البعيد ، ولكنهم أيضاً يسعون بحماس إلى تحرير العالم من الجاهلية، بالجهل، فيقعون في شركِ "الاستحمار" ، حسب توصيف المفكر الإيراني علي شريعتي. فهم ، وفقاً لرأي هذا المفكر اللامع ، يسعون إلى " تزييف وعي الإنسان ونباهته"، فيعمدون إلى صد ما يسمونه ب "التدليس الحداثي " ، بالاعتماد على إبليس ، و يدافعون عن الأوطان بالاعتماد على الشيطان ، وليس على العلم والتكنولوجيا، ويواجهون "فتن آخر الزمان" بالاستعانة بشيخ الجان، وليس بالفكر العقلاني ، ويعالجون نقص المناعة وتفشي المجاعة والكوليرا ببول الإبل ، وليس بالعلوم والتطبيقات الطبية الحديثة . وعلى هذا المنوال يفسرون مجمل الظواهر الطبيعية و الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، فنزداد تخلفاً وانحطاطاً وتعفنا.
فيما العالم المعاصر، من حولنا، لا يأبه لهذا النوع من الهذيان ، و يتقدم ، بوتيرة متسارعة ، في العلوم الطبية ، والبصريات ، وعلم الوراثة ، والفزيولوجيا العصبية ، وعلوم الأمراض المستعصية ، وعلوم تحسين النسل و علوم منع الشيخوخة ، وعلم الفلك ، و علوم الذرة والكيمياء الحيوية ، وعلم الأحياء الدقيقة، وعلم الفيزياء وعلوم الفضاء ، فضلاً عن العلوم الإنسانية. أما أنصار الماضي في بلداننا المنكوبة ، فأنهم لا يتخلفون ، فحسب ، ولكنهم، أصبحوا أشبه بالبثور القبيحة في وجه العالم المعاصر.
من جانب آخر ، هناك الذين يتعصبون للمستقبل، ويرون أنه يقع هناك، أمام الحاضر، وليس خلفه، ولكنهم لا يدركون كنهُه وملامحه الحقيقة، سوى ما يشاهدونه عنه في أفلام هوليود ، والإعلانات التجارية ، وما تعرضه الأسواق التجارية من السلع الاستهلالية ، وما تروجه وسائل الإعلام ، بشكل فج، عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، دون الأخذ في الاعتبار الأبعاد السلبية للمجتمع الرأسمالي ، والملابسات التاريخية لتطور تلك المجتمعات. ومع ذلك ، وبغية هروبهم من الماضي ، يسعون، بشكل مغامر، ودون تبصر، ودون مقومات موضوعية ، إلى قطع المراحل، و الدفع بنا دفعاً، نحو ذلك المستقبل المجهول الخالي من الملامح ، لأن الماضي في نظرهم مات وانطوى ، وبالتالي يتعذر العودة إليه. و ما بين هذين الاتجاهين، يراوح الحاضر في مكانة، جريحاً ومتأرجحاً، مثل بندول في مهب العاصفة، لا يعلم الخط الذي ينبغي عليه أنْ يسلكه صوب الحياة الحرة الكريمة.
الأمور، بالطبع ، أعقد مما ترسمه لنا هذه اللوحة التبسيطية الكئيبة للحياة. إذْ أنَّ كثيراً من أفكار الماضي، تحمل في ثناياها بذور المستقبل، وكثيراً من الأفكار، التي تبدو لنا مستقبلية، تدفعنا دفعاً نحو هاوية الماضي السحيق، متوهمة أنها تسير بنا نحو المستقبل.
لنأخذ، مثلاً ، مكانة المرأة ، The status of women ، في المجتمعات العربية والإسلامية، باعتبارها قضية مستقبلية ، وتمس أكثر من نصف السكان في هذه البلدان. فالفيلسوف العربي الكبير ، ابن رشد 1126- 1198) ، المعروف في أوروبا باسم أفيروس ، Averroes ، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي ، أي في الماضي البعيد، كانتْ آراؤه حول المرأة ، مثلاً، ذات طابع تقدمي مستقبلي ، حيث نافح عنها ، وفقاً لمنطق العقل والعدل. ففي كتابيه: “فصل المقال” و تلخيصه لكتاب أفلاطون في السياسة، أكد على مساواة الرجل بالمرأة ، وأشاد بقدرتها على تولي شئون الحكم والاشتغال بقضايا الفكر الفلسفي . وفي كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، تحدث عن ضرورة إشراك المرأة في الحياة على كل المستويات، مؤكداً ، دون مواربة، أنَّ الفروق بين الرجل والمرأة، مجرد فروق جسمانية لا تؤثر على أهلية كل منهما للعمل والإنتاج. فيما أنَّ بعض الشيوخ المعاصرين ، الذين أتوا في عصر العلم والتقدم، ، استغرقوا كثيراً من الوقت والجهد ، بالحديث عن حواجب المرأة ، و مساوئ تطويل أظافرها ، و شجعوا على لعن المرأة : "النامصة والمتنمصة" ، وسوّغوا ضرب الزوج لزوجته ، وأكَّدوا على أنَّ " صوت المرأة حرام " و أنها بالضرورة " ناقصة عقل ودين." وبالتالي، لا يمكن لها أنْ تكون في مقام الرجل في أي شأنٍ من شؤون الحياة.
ولا ريب أنَّ أفكار هؤلاء، مغرقة في التخلف، لأنها مناهضة للمستقبل، جراء عدائهم للمرأة، التي تشكل أكثر من نصف الجنس البشري. وهو الأمر الذي حدا بمفكر بارز ، كالدكتور فؤاد زكريا ، في النصف الثاني من السبعينيات، أنْ يُشبِّه أطروحاتهم ، بمربي خرز البقر الذي يسمِّن الجسد، دون أنْ يمنحه الصحة والقوة اللازمتين.
ويصدق الأمر ذاته على كثير من المفاهيم التقدمية المستقبلية الحديثة، كالوطنية والوحدة وغيرهما من المفاهيم. ويكفي أنْ نشير أنَّ مفهوماً جوهرياً ، كالوطنية ، لم يعد له اليوم تلك الهالة من القداسة لدي بعض الفئات السياسية في الوطن العربي. ففي اليمن ، مثلاً، هناك قوى سياسية حسمتْ أمر ولائها لغير اليمن ، وارتبطت بالمحورين الإقليميين الرجعيين المتنافرين في المنطقة ، وقوضت الوجود السياسي للدولة اليمنية ، عبر نقل القرار الوطني السيادي برمته من الداخل إلى الخارج ، ووضع نفسها أداة رخيصة في خدمة الأهداف التوسعية للخارج ، مقابل حصول هذا الطرف، أو ذاك على الدعم والحماية في صراعه الداخلي مع طرف، أو أطراف وطنية أخرى، حيث كان يمكن لهذا الصراع أنْ يُحسم ، على الصعيد الوطني ، بالحوار والتوافق العقلانيين ، دون الارتهان للقوى الإقليمية، المرتهنة بدورها للقوى الصهيونية والإمبريالية الكبرى، التي ما فتئت تسعى ، دون كلل ، إلى تمزيق العالم العربي والسيطرة عليه.
ويصدق الأمر أيضاً على الموقف من وحدة اليمن. ذلك أنَّ بعضاً من "التقدميين" ، الذين كانوا محسوبين على الفكر المستقبلي ، ومتحمسين لوحدة الوطن، ارتدوا على أعقابهم إلى الماضي القبلي والانفصالي، وانحدروا نحو الدروشة والجنون ، مبتهجين بتخلفهم ، وفي نفس الوقت، زاعمين ، بصفاقة، بأنهم متفوقون على غيرهم، تماماً كبعض القوى السلالية والطائفية في الطرف الآخر ، فيما أنًّ بعضاً، ممن كنا نعتبرهم " رجعيين" ، و منتسبين ، بثبات ، إلى الماضي ، ظلوا متمسكين بوحدة الوطن ، و بأهداف الثورة اليمنية ، و باليقين التقدمي في مستقبل إنساني أفضل للشعب اليمني.
واليوم فأنَّ القوى السياسية المُهيْمنة في اليمن، هي قوى الماضي، التي تسعى للعودة بالشعب إلى نقطة البداية "الصحيحة" ، التي تعتقد أنها انحرفت عنها ، بغية بعث القوتين القديمتين: الأمامية الطائفية، والسلطانية الإقطاعية ، وتمكنيهما ، تحت مسوغات شائنة، من السيطرة على اليمن. ولهذه الغاية البائسة ، يدفعون، بصيغ مبتكرة وأساليب ماكرة، بمئات الآلاف من أبناء الفقراء، مكرهين، إلى معمعة الصراع والموت، وهم بِمَنْأى عَنْه.
غني عن القول، إنَّ الحياة لا تشبه قطعة ميتة من الخشب الخام، يمكن للنجَّار أنْ يشكلها وفقاً لأهوائه، فيجعل منها تابوتاً يهبط بنا تحت التراب، أو سِلَّماً يصعد بنا فوق السحاب. فنحن لا نقع ، موضوعياً ، خارج الحياة حتى نشكلها كما يحلو لنا. ذلك أننا جزءاً من الحياة ذاتها، وبقدر ما نشكلها فأنها تشكلنا. والحياة تقوم على التفاعل الحر، الخلاق، والمتكافئ بين البشر، وليس على الإملاء القسري بين فاعل ايجابي مُهَمِيْنٌ، ومفعول به سلبي مُهَيْمَناً عليه.
والشعوب التي استطاعت أن تفهم مقتضيات العصر والتطور، و تنظم التفاعل الخلاق بين البشر في مناخٍ من الحرية، و تضبط المصالح المتعارضة، وفقاً لميثاق عقلاني بين أعضاء المجتمع، تمكنت من التقدم، إما الشعوب التي أخفقت في تنظيم شؤونها وفقاً للعقل، فأنها تقهقرت، وما برحت سادرة نحو الغروب.
ليس في مقدور أحد أنْ يحدد للناس مواصفات الماضي الأصيل ومتطلبات المستقبل الأثيل ، و ليس في ميسور أحد ، على الأقل في الوقت الحاضر، أن يهبط من قمم الجبال، أو يصعد من وهاد الوديان ليرشدنا ، سواء باسم الدين أو باسم "الهويات القاتلة" صوب ما يعتقد إنه "الحق " ، ثم يمسك سوطاً ، ويجبر الناس على السير في هذا الاتجاه، أو ذلك وفقاً لأهوائه المضطربة وميوله الشائنة، المعطوبة بالجهل والغرور والادعاء الفاجر بالتفوق. فالإنسان حرٌ في اختياراته، وليس هناك من هو قادر على إقناعه بصواب الطريق السليم سوى العقل. إذن، " فشاور العقل واترك غيره هـــدرا"، كما حثنا على ذلك الشيخ أبوالعُلاء المعري، قبل أكثر من ألف سنة.
التاريخ ليس من صنع الأفراد، كما يتوهم البعض، فالأفراد لا يصنعون التاريخ ، حتى وأنْ كانوا على درجة عالية من الموهبة و التألق والعبقرية ، إلاَّ بالقدر الذي يستجيبون فيه لحاجات زمنهم. فالتاريخ نتيجة العمل الجماعي للبشر، الذين يخلقون أنفسهم في مناخ من الحرية والعقلانية .
ولذلك فأنَّ الشرط الجوهري للتقدم ،هو الحرية ، التي ينبغي أنْ تتوفر في ظل الدولة العقلانية التعاقدية ، المُنَظِمة للوجود الإنساني، التي تتجسد فيها عبر الفعل الواعي ، إرادات الناس ، ومصالحهم المشتركة، في إطار "العقل والحرية" على حد تعبير هيجل. والدولة التعاقدية ، ينبغي أنْ تنحصر مهمتها في توفير الأمن والأمان ، و حماية حرية التفاعل الإنساني السلمي الخلاق، وتنظيم الإنتاج المادي، والتعبير عن الإرادة الجماعية. وحينها ، فقط ، سيتمكن الشعب المحكوم بقيم العدل والحرية والعقلانية، المتعاضد، بالقيم الوطنية ، والمصالح المشتركة ، والأخوة الإنسانية أنْ يتلمَّس طريقه نحو المستقبل، دون وصاية من طاغٍ داخلي أو غازٍ خارجي. إذَن، فلنعمل على وقف الحروب الداخلية ، وصد العدوان الخارجي ، وبناء دولة العقل والعدل والحرية ، وتفعيل الجهد الإنساني بشكل خلاق ومثمر، وتلك، في تصوري، هي الشروط الجوهرية للسير نحو المستقبل الوضاء وتجاوز التخلف.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - القرصان أكلة شعبية سعودية بطريقة الإيطالية مع قمر


.. صنّاع الشهرة - لا وجود للمؤثرين بعد الآن.. ما القصة؟ ?? | ال




.. ليبيا: لماذا استقال المبعوث الأممي باتيلي من منصبه؟


.. موريتانيا: ما مضمون رسالة رئيس المجلس العسكري المالي بعد الت




.. تساؤلات بشأن تداعيات التصعيد الإسرائيلي الإيراني على مسار ال