الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوارد الفكر -1-

جميل حسين عبدالله

2017 / 7 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوارد الفكر
‏-1-‏
قد ينجب فقدان الذاكرة في جبة الدين التطرف، ومن جب السياسة التزلف، وينحدر من اجتماعهما غول الصراع المبدد للعلاقات البشرية، ‏والروابط الإنسانية. لأن الدين في فقد ثوابته التي تكوِّن نظرية مقاصده المثالية، ينشئ الطرف، والحواشي، والسياسة في طمس خصوصيتها ‏التي تعبد السبل إلى غاياتها الأخلاقية، وعناوينها الاجتماعية، تتنتج الضد، والنقيض. هذه حتمية دلت عليها التنظيمات الإنسانية، ومعادلة جرت ‏عليها التجارب التاريخية، سنمر عليها هنا مرور الكرام، لأن ما نراه في المرآة الواجفة، لا نعتبره إلا ومضة عابرة، وخفقة هاربة، لن تجد لها ‏مهدا سالما للولادة، إلا إذا تأسس ناموس منطقها من نضوج المعرفة، وصارت الأضداد معروفة بصلاتها، لا موقوفة على خلافاتها، إذ ما ‏يقتضيه الضد عند التنازع، والتصارع، هو ما ينتجه من جنس غريب في الخارج عن الذوات المتعاركة، لأنه منفصل عنها في القضية المتعارك ‏حولها، ومنفعل بما يوجده الصراع من آثار غير مرغوب فيها، ومتأثر بما يحدثه الخلاف من مساحات قابلة لزراعة طفيليات الحقد، ‏والكراهية. وهو الذي يعبر عن النتيجة التي تصنعها التراكمات المتفاعلة في وعاء الزمان، والمكان، والمتناسلة بين العقول المتحاربة بعقد الخلد، ‏واللذة، لا ما تتدعيه الشعارات المحددة لطريق القصد بما تفترضه من مهاد، وما تختاره من وهاد. وهنا نكون أمام قانون قائم في الأشياء ‏التي نظن قدرتنا على امتلاك حقيقتها، والالتحام مع طبيعتها، يعلمنا كيف تنشأ مركباتها المتفاعلة فوق الطبيعة، لأن ما يُبنى فينا من مفاهيم ‏مسيطرة على نمط فكرنا، وسياق وجودنا، يفند سيطرتنا على دلالات اللغة، ومفاهيم اللعبة، إذ ما تزفر به الأحداث من صراع دموي بين ‏الأفكار التي اتسمت بالشمولية، أو الكونية، هو الذي يصنع حقيقة الألفاظ في المعنى، ويضع الأشياء في منبتها، ومحضنها. ‏
وما لم نستوعب ما تدل عليه الألفاظ من تواصل بين الكليات المؤسسة للمعاني، والمفاهيم، وتجاور بين الحقائق العينية والجرمية الجامعة ‏لأسس التشارك فيما نعبر عنه بالقصدية، فإنه لن يحق لنا أن نصنع ما نخاله مهدا للمناعة، أو موئلا للحماية، لأن بتر الصلات بين ما يوحد ‏المشتركات في قاعدة المواضعة، ونمط الاتفاق، وهو كل الكليات التي تآلفت عليها العقول لسبك ماهية النظام في الوجود البشري، لن يحدث ‏استقرارا في فحوى السلم بين الأكوان، والأعيان، ولن يبني استحبابا لما يموج في الواقع من أحداث متعبة، ومقلقة، إذ ما يترجاه كل موتور ‏يرغب في متعة السكينة، ويبحث في سبيله عن عين حقيقتها، وعن نبع شربها، هو ما يبرز من جنس المعاني عند انتهاء صراع المصالح، ‏وعلاقات المفاسد، وفناء المنتصر، واجتثاث المنهزم. فسواء من هتف باسم الإله، واعتبر ذاته ناطقا باسم السماء، أو من ناصر مغابن عمقه، ‏واستل من لؤمه سيف أنانيته، وزعم أنه الجنس الأقدس في نوع الإنسان، والأصل المستحوذ على فروعه بالضرورة، والعلة، لأن عودة ما ‏تعاركت عليه السماء والأرض إلى نقطة خصوصيته، ومولد هويته، هو الذي يجعل للأشياء مراتب في القبول، ومناحي في الرفض، إذ الرضى ‏عن القتل هو رفض للحرية الكاملة في لسان الطبيعة، وهدم للوئام الرابط بين الأفراد، والجماعات، لأن صناعة الحياة، وحماية ناموسها، ‏ورعاية مجالها، هو الغاية السامية لكل فكر قادر على الاستثمار في دنيا الإنسان، وفي سعادة حياته، وفي تحريره من القيود المكبلة لعقله، ‏وحواسه. ‏
كلا، بل الحياة ليست إلا شعورا بالوجود، ورغبة في السكينة، وسعيا إلى الوحدة، وارتباطا بالطبيعة، وإذا فقدت ذلك الترياق الذي تخفف ‏به من وعثاء سفرها بين المنازل المتشاكسة، والمراحل المتعاندة، صارت فوضى عارمة، وعبثا ينفخ سعيَره عديم المعنى، وسفيه الجدوى. وهنا ‏يكون الصراع حقيرا، وقصده خطيرا، لأنه يبدد ما يرفعه من وظائف المباني، وينسف كل ما التحم من الآراء المتعاضدة على القيمة المشتركة. ‏فلا غرابة إذا استأسد بالدين فئام، وتنمر به أقوام، لأن خلوده في وقدة ذهن المنافح عنه، وعنفوانه في حمية المنتمي إليه، لا يأتي إلا من باب ‏الإكراه عليه بقوة الناموس المستحدَث لحماية طلاب التصريف بلغة السماء. إذ مجرد النظر في مقتضى كل ما اختزنه الكون من أفكار، وما ‏انطوى عليه الوجود من أسرار، يحمي الإنسان من معرة الزوال، ويقيه من الخلود إلى كل معنى تافه، ورديء. وإذا اغتنى الإجبار بقوة ‏القهر، واكتنز في عمقه صوت القسر، وافتقر العقل إلى ملكات الاستقبال، ومؤهلات الإرسال، ارتضى أن لا يكون رسول السلم بين الأكنان، ‏ولا وساطة خير بين الأعيان، لأنه لن يأتي منه إلا فساد الأخلاق، وهجين الأفعال، وإذ ذاك، سيغدو ما تواتر فيها خبره من خصال، ‏وفعال، لا يمتعنا بشرف الانتساب، ولا بوشيجة الانتماء، إذ لم يقابل النفاق الإيمان في التاريخ، ولم يتعانقا على ربوة العشق، لأنهما من طينة ‏متضادة، ونابعان من كبد الإنسان في استجلاء الحقيقة، واستجداء الطبيعة. كلا، بل نازل الإنسان الإجبار بجسارة، والعنت بشطارة، فكان ‏الخوف رديفه في الجلاء، والأمن صنيعه في الخفاء. ولذا، فإن وعاء الشيء لا يكون جوهرا لذاته، إلا إذا حمله بما تضمنه من كليته، ولا ‏يحتويه إلا إذا كان من جنسه، لأنه يدل عليه بالمطابقة، لا بالتضمين، وإلا، فما فائدة الأديان إذا حاربت ذاتها في قهر الإنسان، وغدت حياتها ‏مسكوبة بالموت، وغاياتها ممنوعة بالفوت.؟ ‏
وإذا كانت نتيجة متسلق شجرة الأماني متهما بخيانة القداسة، وصارت القصود لا تفي بما اتفق عليه الجمع عند صياغة العهد الذي يربط بيننا بأغلظ ‏مواثيقه، فكيف لطالب المجد أن لا يحتار، ولا أن لا يمتار، وهو يرى الولوغ في حمأة الهوان شرابا سائغا لتمام كسوة الفضيلة.؟ ربما، قد يقول الطفل ‏عندما يرى وصايا الآباء نصا غادره المعنى، ونافره المبنى، يا هذا: صه من جفاء العقل، وتعال نكرع خمرة المرح من دنان اللحظة، ونرقص للنجوم ‏المبتسمة بين الآفاق البعيدة، لعلنا نحيي رميم السعادة بين قبور الآمال الكئيبة. هناك يصير كل ما نستمرئ سبته خلقا سويا في الطبائع الموجوءة، ‏ويغدو ما نحاذر بطشته حرما ممرعا بالرغبات المكتومة، لأن عدم قدرة العقل على معانقة لحظات السمو فينا، ومنازلة همسات العشق بيننا، لا يعني ‏كوننا قد غدونا أهل عفة، أو ذوي مقة، بل يعني تيهنا بين فلوات الشهوات التي اختلفت بعدد أنفاسنا، وغبننا فيما نجنيه بين دروب أذواقنا، إذ لا ‏نعبر في تلك الفوضى إلا عما يحترق بين ذواتنا، ولا نظهر إلا ما يختمر في أذهاننا، لأننا لا نعبر بالإشارات إلا عما أحتبس في أعماقنا، ولا نومئ ‏بالعبارات إلا إلى ما توارى من رموز في ذاكرتنا. ‏
فلا غرابة إذا كان الولوغ في الدم البشري جمالا في عقل امتطى صورة الفرس الأبلق بين الأماكن المسعورة بدنس الإثم، ووجع الخطيئة، وكانت ‏السباحة في تهيام العواطف تقديسا لفرح البحر، وسرور الأمواج، لأننا لا نستمع بغموض البحر إلا إذا فقد البر صريح عشقه، وصحيح وده، وصار ‏محلا للتنازع على النصيب في المتعة المدللة، ومجالا للتحارب بين الشعوب المنهكة، إذ البحر في مجهوله، وهو عمقه البعيد عن الرؤية، ولو اختلفنا في ‏أنه قد يكون غرقا، أو قد يصير غطسا، وسواء من عقد عليه صفقة الياقوت، وسر المرجان، أو من تبرد به من سخونة الديار المفجوعة بسؤال ‏اليوم، ونقاش الغد، لا يكون فضاءه معبرا عن جمال غموضه في العقول الحائرة، ما لم يكن مستوطِن السهول منتشيا بشساعة المدى بين عينيه ‏المتوثبتين، ومترنحا برحابة المزار بين الأكنان الباسمة. ولذا، يكون التعبير صافي الدلالة عن ذواتنا، لأننا لا نتباهى إلا بما فقدناه، ولا نتعالى إلا بما ‏مُنِعناه، ولو تملكنا كثيرا مما تدافعنا حول بابه، لانتهينا إلى أن الأشياء المقرورة فينا، لن يستجيب منطقها، ما دامت منفصلة عن عقلها، ووعيها، إذ ‏الفرار من حدة الفعل إلى شرة العبث، لا يأتي منه إلا تضييع الزمن بين متاهات لن نصل فيها إلى نهاية، ولن نجني فيها غاية، لأن ما نستعجمه من ‏اتصال العقل بكلية الإنسان، هو سبب في احتقار الفعل، أو في تفخيمه. وما لم يكن العقل منظما لكيانه، وفي اتصال بقلبه، واستيعاب لحسه، لن ‏يغدو نظامه كتابا تقرأه الأجيال القادمة، لأنه لا يستوعب القانون، ولا يستظهر الناموس، وما لم يبن منطقه على أس ما وضع فيه من حياة، لن ‏يكون أثرا فاعلا في البشرية، ولا رسالة يحملها الزمن بين جوانحه، وأنظاره. ‏
وإذا كان الفصل مقصودا للتحريف، ومعلولا بالتزييف، فإن ما يعول به الراهب تحت قبة مجثمه، لن يثير حدة السؤال الحقيقي؛ وهو كيف يمكن لنا ‏أن نمزح في حضارة الإنسان بين وجدان القلب، ولغة العقل.؟ لعل إطفاء شعلة هذا السؤال الذي وجد في الكائن العاقل، وبكل الطرق الدنيئة التي ‏شهدها التاريخ البشري، يؤكد لنا دور الرهبان في صناعة الصراع الذي قادوه بسلاسل الشنق، وسيوف الإبادة، لأنه إن دل على الإله بما يدعي ‏من رسوم النقاء، واحتضن فيه الفعل الخير، والأثر الأصلح، فهل صافح الإنسان السماء، وصدق بأن في كيس الكاهن كنز آماله، ولذة أحلامه.؟ ‏ربما من سوء الحظ في كثير من الحضارات الإنسانية، أنها كانت في موقع إنصات لما يموج في محيط سهومها من أفكار، وأنظار، فاستمعت إلى الإله ‏المفارق للكون في كثير من مجامع المعرفة، ولم تستمع إلى الإنسان الذي دلت صورته على الكمال في عين الخليقة، فكانت حربا للدفاع عن صدى ‏الصوت، لا نفسا ساريا في فضاء الصمت. ‏
قد يكون هذا تحليلا بسيطا في عقل بنى مطلق القضية من تدافع الضدان، وتنازع الإرادات حول حصة البقاء، لأنه يتأسس على التقابل بين ‏العالمين المفترقين، والمتنافرين، لكنه عميق في نظر من شهد الإله بين جون الإنسان، وحرده بين المتناقضات، والمتآلفات، وأدرك في انصهارهما صورة ‏الجمال القدسي، لأن ما سمعته بعض الحضارات من ضجيج المعابد، وعويل العبيد، هو ذلك الوخز المنقوش بزوغان عيونها المتوثبة نحو الغد بأحلام ‏مجنونة، وأوضاع ممحونة، بل هو ذلك الشبح الذي يجر ذيل برنسه كالطاووس بين حدائق الأماني المكبوتة، ويتوشح صدرُه سيفا صقيلا تنزف منه ‏دماء البشرية المهدورة، ويترنح بعينيه الحادتين نحو الأفق المتنائي بين الأكوان الغامضة، والعوالم الغائرة. فهل سمعت الإله الحقيقي الذي لا يتحدث في ‏محرابه بالتخويف، والترهيب.؟ لو سمعته بين السباع الجاثمة بين يدي الإله، وهو في زينته التي تباهى بها فسطاطه، لما جعلته منفصلا عن حقيقتها، ‏ولا معاديا لأحلامها، لأنه يسري في الأشياء كالنسيم، ويجري بين المعاني كالرنيم، وهو في دقة دلالته على ذاته رياضي، ومهندس، وفي حدة برهانه ‏على فعله فيزيائي، وفنان، لأنه سريع النفاذ في الأحداث، والوقائع، والآخذ بناصية المعاني، والمباني، لكي يكون لها في النظام الكلي دور، ووظيفة.‏
‏ لعل هذا الإله يشبه العماء، ويكاد من شدة سرياليته أن يكون طيفا جانحا، ولونا خافتا، يتململ بين المدى الغارق في لجة السناء، وبؤرة البهاء. ‏أجل، قد يكون فيه بعض الغموض الذي تنزاح إليه الصورة حين يختلف ظلها، وجرمها، لكنه إله الفلاسفة الذين غرسوا بدماء الشهادة شجرة ‏الدهشة، لأنه في كل ما يتصوره البشر غير موجود، إذ هو الصورة التي انتهت إليها العقول عند ذبح خروف القربان، والمعنى الذي لا يعبر عنه ‏المبنى باللغة، والحقيقة التي يتيه في شدة جلائها كل تصور، وتحديد. فلم لا نقول عنه بأنه النظام الذي يسري ناموسه وراء الأنظار، والصوت الذي ‏يجري نسيمه كالضوء بين مسام الوجود.! لو قلنا بذلك، فقد أقررنا بأننا قطرة في بحره، ولمسة في عطفه، ومسحة في كونه، لأننا حين لا نحده بحد، ‏ولا نرسمه برسم، يكون الموجه لكل الثقافات، والحضارات، إذ لم نجعل له قبة، فيحتاج إلى بخور، وشمعدان، ولم نبن له حديقة، فيحتاج إلى تغريد ‏العصافير، ورقص الغواني، بل لا نحاجج من أجله، ولا نجادل في حقه، إذ رأس مالنا الذي نملكه، هو حضوره في كل المطلقات التي تزرع في ‏الإنسان بسمة الحياة، ونعمة الطبيعة. ‏
ربما ما زال في هذا اللحظ عماء، لأنه لا يفهم إلا بالثنائية، وهو كونه جاريا في الوجود، فيكون بذلك وجودا بالواجد، والموجود. لكن قصارى ‏الإدراك الذي يفضي إلى نهاية التصوير للمشهد الفلسفي في القول الألوهي، أنه الأشياء في ماهيتها، والجواهر بكل عناصرها، والصنائع بكل ‏معادنها، والمعاني بكل ما تتكون فيه من جلي الظهور، وخفيه، بل هو الطبيعة عند الطبيعيين، والضمير عند الإنسانيين، والمصادفة عند اللائكيين، ‏والجامع لكل الآلهة عند الإشراقيين، والتوحيد عند الرساليين، لأنه الأجلى فيما أدركه الإنسان بعد إيقانه بحركة القوى الخفية وراء كل جوهر ‏موجود. ‏
ومن هنا تكون الحضارة في استماعها إلى هذا الصوت إنسانية، وتغدو قريبة في الإدراك، والاستفهام، والاستمتاع، لأنها اعتبرت فيه تلك الصورة ‏النهائية التي ارتضتها البشرية في كدها الجسيم، واشتاقتها الجوانح الشفافة في مرحها العميم، إذ الإنسانية كملخص للقيمة التي هتفت به الديانات، ‏والحضارات، لا تعني ما استوحته اللحظة في عقول المترفين من معنى موءود، فتصير مظاهر في العطف، ومعالم في الحدب، لا كمالات في النفس ‏البشرية، ومقامات في التجربة الأخلاقية. كلا، بل هي المعنى الذي يضم تاريخ الإنسان، وحضارته التي أحس فيها بالسعادة الهنيئة، وعمرانه الذي سمع ‏صوته من روح نمنمات عشقه الرخيمة، وترنيمات ولهه الشفيفة، لأن ما تواتر من خبر ذلك بين الكراريس، ومنذ أن اكتشف الإنسان التمييز بين ‏الخير، والشر، هو الذي يعلمنا كيف نبني أساس الغد على المشتركات التي تآلفنا على أنظارها بالمواثيق الغليظة، وكيف نرفع لواء الكرامة بين أحلامنا ‏الوديعة، وكيف نغشى موارد الجمال بصفي أذواقنا السليمة. وإلا، ستكون الإنسانية شعارا يتدثره كل من ابتغى في حظوته أن يكون خطيب ‏الجماهير، وهو يعلمهم كيف سكر بخمرة نشوته حين أذرف دموع المحرومين بين مقابر البايئسين، وكيف أهدى قصيدته لدمعة الأطفال التائهين. ‏
أجل، إن ما يثير البكاء في الغوغاء جميل، وهو في عمقه دليل على قيمة جوهرة العقل العليل، لأنهم يبكون ذواتهم من غير أن يشعروا بحرج في ‏الدموع، ويجترون غصتهم من غير أن يدركوا سبة لما يفعلونه بالخضوع، إذ البائس لا يسكن صخبه صوت الحق، وهو هدير يمور من لسان مرصعة ‏أسنانُه بالذهب الوميض، أو بكاء من حلق مدسم بأطايب الطعام العريض، وهو يخبر عن الزهد المكنون في مسافحة الشهوة بجماع، والعفة المكتومة ‏في عب عقار اللذة بخداع، لأن صوتها لا ينزف إلا من عمقها، ولا يهطل إلا على قلاعها، إذ لا تكاد تسمع إلا صداها، ولا ترى إلا ظلالها، وما لم ‏يكن وصفنا دالا على موصوفها، فإن ما يأتي منهم لا يصد عدوا، ولا يمرع صديقا. كلا، لن يسكت صوت الجوع حكايات مفجوعة بالصبر، ومغبونة ‏بالقناعة، لأنها ولو أثارت العقل في نسبة الحوادث إلى عالم السماء، واستفزت السؤال بين حدود الإمكان، فإنها في هجوم الرغبة عند هيجان ‏العاطفة، تحس بتعاقب الحدثان على ظهر الأرض، إذ هي لا تعيش الاستثناء، ولا تحيى الألم، لأنها ما طلبت تفسيرا إلا في الموجود، وما رغبت إلا ‏في كشف المحدود، إذ لو كانت غايتها السؤال، لانتفى عندها الحد، والرسوم. فإلى أيهما ستميل في الطلب، والجلب.؟ ‏
وإذا كان المثال الأفلاطوني ينتج وعيا أرستقراطيا، وحسا نخبويا، لكونه تتشكل ظلاله في الخارج، وتنتمي حقيقة صورته إلى عالم غير متناه الحدود، ‏فإنه قد أخذ منحى آخر مع بيكون، إذ بدأ ينحو نحو الذات التي اغتالتها طلاسم الكهان، وسياط الملاك، لكي تكون هي التي تهب الإنسان وعيه، ‏وتمنحه أهلية صناعة مهد السعادة على بساط الأرض، لأنه قد أنتقل مما أفرزه صراع الدين مع العلم إلى حياض أخرى، ينتجع فيها مراحل غضة ‏بالسؤال، ومنازل بضة بالاندهاش. لكنه وعلى الرغم مما تفجر في تلك اللحظات من كشوفات، واختراعات، لم يبرح دائرة ما قد تولد عن الصراع ‏من عاهات في سيرة العقل البشري. وهو ما حدث من حروب بين اللاهوت، والسياسة، لأنهما في غياب الإنسان عن دائرة اهتمام كل واحد منهما، ‏لن يكونا إلا تسلطا على الرقاب، وتجبرا بين الهضاب، إذ سيف اللاهوت لا يمتشق إلا حيث يعلو صوت الباطن بالخوف، ويبرز سلوك الظاهر في ‏العنف، وسوط السياسة لا يجرد إلا حيث يكون نظاما يسوغ صراع الوجود، وعناد المواقع.‏
‏ ومن هنا تنافرت الآراء في الميتافيزيقا، فمن قائل بضرورتها، واكتفى بالتهذيب، والتشذيب، وقائل بانتهاء الدين للعلم، واقتضاء دورة الحياة لنظام ‏أرضي يصنعه الإنسان، ويخضع لعهده، ويمتنع بعقده، لأن حقائق الميتافيزيقا غيبية، وخفية، بينما حقائق العلم مرئية، ومشهودة. ولذا كانت الميتافيزيقا ‏في وئام مع السياسة، لأنها تحاذران الزوال في استقوائهما بالمال، والجاه، إذ لولا ما وقع من اتحاد على توقي الفوت، والوحشة، لكانت السياسة ‏عدوة للميتافيزيقا، وصديقة للمادة. وإذا كانتا في عداء، وشجار، كان للقتل مجال خصيب على ظهر البسيطة. وإذ ذاك، سيرتبط الخطاب بالأرض، ‏لأنها المهد الذي يجمعنا لإشباع غرائزنا، وإغذاق لذاتنا. وإذا تآلفت القضايا في الاجتماع على هذا النص المألوف بلغتنا، كان العقد الاجتماعي ‏مخاطبا بلساننا، ومناديا بندائنا، لأنه لن يصير متحدثا عنا، إلا إذا كانت روحه نازفة من أعماقنا، وما لم نوقن بأنه نحن في الطبيعة، كانت ‏الاستقامة عليه مداجاة، ومماراة. ‏
لكن ما حدث في ثورة العلم، أَنْ كانت آلة الطباعة مسيحا مخلصا، لأنها أخرجت الكتاب المقدس من تابوت الرهبان، وأوقعته في يد طلاب ‏الحقيقة من همود نجوم الفضاء، إذ ما حصل من سَجن صوت الإله بين دياجير الدير، لم يكن إلا وأدا للإنسان، وتعطيلا لدوره، لكي يكون جديرا ‏لخدمة حق السماء، لأن استفراد الكهنة بفك رموز المعبد، لم يجعل الكون إلا حطاما، وهشيما، إذ بجعل نزيف الكراهية سلما للوصول إلى الصفاء، ‏صارت الملاحم تقودها حماسة سدنة هياكل الإله بغرة، وسفاهة. ولذا، لو لم يبدع الإنسان بدعة حسنة أجمل من الطباعة، لكانت له ضمانة على ‏السمو في قدس الحقيقة، لأنها دفعت بالإنسان إلى سبر معالم الممنوع، وغمرات المجهول، فكانت سببا في قراءة التاريخ البشري، وعلة في بناء ناموس ‏الجماعة من تجارب الإنسان على الطبيعة المفتوحة.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah