الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوارد الفكر -2-

جميل حسين عبدالله

2017 / 7 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوارد الفكر
‏-2-‏
‏ وإذا كانت آلة الطباعة قد أغرقت الإنسان في لجة الطبيعة، وأوجدت عنده رغبة في الحرية، فإن ما فتقه عقل الصناعة من اكتشاف سِحْر ‏الفتوغراف، وسر الكهرباء، قد أخرج العيون من ظلمات الأكوار إلى نور الأكوان، لكي يسوق الأثيرُ إلى الإنسان ما يؤكد وجوده، ويخصب حياته، ‏لأنه بالنور تنقل بين المحيطات بلا نصب، ولغوب، وبالنور ترحل بين الشعوب بلا خوف، وعنف، وكأنه مبهور بما انفتح له من آفاق في بحر ‏الحقيقة، فصار ما يشهده عظيما في عقله، وجسيما في عينه، لأن ما وضَّح الرؤية بين سواد أفقه، لم يكن مما قتل فيه الإنسان باسم الإله، لكي يجد ‏الراهب خشوعه في تمائمه، وبكائه في تراتيله، بل كان خيط نور يواصل بين الثقافات، ويعانق تعارف الحضارات. ولهذا ارتبكت الآراء في عودة ‏الميتافيزيقا، أو في موتها، لأنها في تمحورها مع الإنسان، قد شكلت العقل الجمعي الذي لم يخلص للحقيقة الحسية، إذ ما هو غيبي، وخفي، لا يجوز ‏نفيه، ونبذه، لأن عدم إدراكنا للحظة النسيان في الأعماق، والأذواق، يجعلنا نوقن بأن فينا ذاكرة أخرى لا ندركها بالإحساس، ولا بالحواس. وما ‏دام استشعار ذلك غير مقدور لنا حصره، ولا موفور لنا قصره، وإن علمنا كثيرا من أسبابه، وجليلا من علله، وجهلنا فيه كيفية بنائه لذاته، وكمية ‏إنتاجه لأثره، فإن عجزنا عن وضع حد له، هو الذي نطبعه على العقل بمقتضى الإيمان، لأنه انطباع في الوجدان، وأثر في القلب المرفرف حول سماء ‏المعاني الجميلة. ‏
فلا غرابة إذا اختلفت الأنظار باختلاف الأماكن التي تشرح درس الغيب، والشهادة، لأنها تعبر عن موجة الوعي التي تغزو الإنسان، وتجتاح ‏الطبيعة، إذ بما يبديه الزمن من إدراك، ومعرفة، تتحول الكائنات العاقلة إلى أمم متقدمة، أو إلى شعوب متخلفة، ليس لها إلا عضلات مفتولة، ‏تعبد ما انكشف عنه جب الطبيعة من منة، ونعمة. ولذا كانت الأنساق الكبرى مرتبكة، ومتحيرة، تمشي أحيانا مقيدة، وأحيانا متحررة، إذ ابتدأت ‏بنفي اليقين السابق مع ديكارت، واعتبار أوليته في الأحكام الكانطية، لكي يكون ما انطوى عليه الشك المنهجي من مخاض موردا لبناء المعرفة ‏المطلقة بالكون الهيجلية، ثم انتهت بإثبات اليقين الراغب في الوصول إلى الشك مع العدمية، لأنه يعلِّم الإنسان كيف تكون الأشياء نسبية، لا تحتمل ‏الخضوع في ذاتها، بل يعتريها ما يستفز حقيقتها، فتتيه مع الفرسان المتبخترة بريش الوجودية، لكي تتكون الأحلام الهاربة في قوالب تحمل أنين ‏الإنسان، وسعار حزنه المكتوم بين غمرات غربته، ورعشات اغترابه. لكن ما يعاب على الفلسفة الغربية، أنها تحولت إلى جمود الآلة بما يضمره عقل ‏التسلط الذي التوى على الصناعة، فكان إنتاجها فارغا من معنى الإنسانية، وإن انتظمت قوانينها بمقتضاها، وانتحلت مظاهرَها بصفاتها. ‏
وهنا كانت الفلسفة جهدا حقيقيا لإثبات الطبيعة الحقيقية للإنسان، لكي يعيش في سربه حرا، وفي سبيله مأمونا. وتلك خصوصيته التي لا تحتاج إلى ‏جهد ينفعل معه، أو يؤثر به، لأنها طبيعته التي وجدت فيه، وحقيقته التي خلق لها، إذ بدون أن يبتغيها ملتفٌّ عليها بالقوة، لن تكون إلا سارية بين ‏نسيم الأماكن الهادئة. لكن ما تعاقب على الغرب من مآس، لم تتخلص منه في سيرها نحو الغد المجهول،لأنها لم تطق أن تتخلص من عجزها، وهو ‏ملازم لها بطبيعتها البشرية،وموافٍ لها في كل تقدم، وتطور. وأنى لها أن تقطع حيرة العقل عن طريق العودة إلى الوراء.؟ وإذا كان هذا لازما في ‏الذات، وأولية قائمة في كيانها، لأنها تعيش الزمن بأبعاده الثلاثة، وتحيى في المكان المتغير، والمتبدد، فإن كل محاولة في النسيان، لن تثمر إلا الوجع، ‏والألم، إذ الفصل لا يعني القطع، لأن الفصل لا يأتي إلا بعد الالتفاف على الوصل، وهو في حقيقته يعطي كل فص نصا في الوجود، والحقيقة، لكن ‏القطع، يعني بتر الصلة بين الأزمنة، وإحداث خندق بين أجزاء الحقيقة.‏
‏ لعل ذلك مما يخلقنا بدون تاريخ، ولا هوية، لأنه يمنع الوصل بين مركبنا الجمعي الذي نازلنا الدهر من أجله وحدانا، وزرافات، ويحصر معنى الجماعية ‏في دائرة الفردانية المتوحشة، والذاتية المتغولة، إذ ما ننشأ عليه من استقلال عن الجماعة، هو الذي يقطع كل وشيجة تربطنا بالتاريخ، وأحيانا ‏يفصل بيننا وبين كل المهاد التي أنتجت ظاهرتنا البشرية، لأننا نغدو إلى زمن متخيل غير زمننا، ومكان متوهم غير مكاننا، وإذ ذاك، نتحدد بهوية لا ‏معنى لها في التصور، ولا صورة لها الافتراض، إذ هي الكونية التي تأسست على الربط بين الأزمنة ببريق الصناعة، وعرق الجباة المقهورة، والنظام ‏الذي يحمي الأقوياء، ويحرق الفقراء. وأنى لمن لم يصل بين أطوار زمنه أن تكون له هوية.؟ فهل سينسى الغرب تاريخه، وفيه ظلمات الفكر التي ‏شنقت الإنسان بحبال الدير.؟ أم سينسى أمجاده التي كتبت من كوبرينك وإلى نيوتن أعذب ألحانها الندية.؟ إذ لم نر شعبا قدم أرواحه ضحية ‏للدين أكثر منه، ولم نعلم حقيقة طال حولها أمد النقاش أجلى من اتحاد الأقانيم في معنى الإله، لكنه وعلى رغم ما أوجده صراعُه من مهاد للتجربة، ‏والخبرة،وحياض للمعرفة الحقة، ما زال يحن إلى ما خلفه ظهريا، ويئن لما بدده من تصالح الدين، والعلم، إذ فيه شيء من أنفاس تاريخه، وسر من ‏أسرار تفوقه، لأنه لا يمكن له أن يقرأ حاضره إلا متصلا بماضيه، وإلا كان ناسكا في محراب المادة، يعبد صلادتها، ويقدس سكوتها، وهو في غب ‏اغتراره بما لبسه من ريش، ينكر كيف نبعت من سؤال الذات عن السعادة، وكيف التحمت بالروح حين تآلفت الإرادة على التساكن مع فواجع ‏الطبيعة. ‏
فلا غرابة إذا ضحر من سرعة الأماكن، وضيق المدارات، وغبن الموارد، لأنها تحمل زفير صناعته، لا لحن حضارته، إذ لو كان ما أنتجه عُشا ‏لسعادته، لما انزوى إلى فك ألغاز اللغة، ورموز التعبير، عساه أن يكتشف الصوت الأول المردد في الكون، والمجلل بالطراوة، والعذوبة. ومن هنا ‏توقف الغرب عند ماهية الإنسان، ولم يتجاوز رسمه، لكي يكتشف أبعاد هويته في تمازج المادة، والروح، إذ لو درى أن ما يفوح بين الديار من ‏عطر، وما يشمه الإنسان من فيح، ليس إلا رغبة في كسب بهجة الأماكن المقرورة بأعياد السرور، وأيام الحبور، لأيقن بأن الكون هو الإنسان ‏الذي تهطل عليه امطار الهموم، وتهب في سوحه رياح الفهوم، وإذا جعله متحركا بحركته، كان ما يفضي إليه كل شيء في الوجود متعة له، لا شقاء، ‏وتعاسة. إذ لو قام العقل الجبار بتخليق صناعته، لما أنتجت في المستضعفين خرابا، ولا في المنكوبين دمارا، لكن ما يتراءى وهجه في عالمه الصغير، ‏لم يدل على رغبة الإنسان في حصر حدود ربعه، ومظاهر عرفه،إذ لم يألف الأرض إلا فسيحة، ولا السماء إلا رحيبة، لأن ما يربطنا بمهد المولد من ‏صيغة التآلف، هو ما صنعناه من أخلاق، وأعراف، تحمي الدائرة، وتسقي الزروع، وتفجر الضروع، وتنشئ بين سبل الأماكن سلما، وبين قصود ‏العقلاء سلاما، إذ هي التي آلفت بيننا في كل صفاء، وجمعت بيننا في كل عناء. وحين تعاندنا على أصلها، ونسينا فروعها، ظهرت فينا أخلاق مختنقة ‏بزفير الأنانية، وسعير الذاتية، إذ هي التي تبني قيما غير التي تعودنا على أمرها، ونهيها، وتهدم أنساقا دأبنا على رعايتها بأرواحنا، وأنفاسنا. ‏
وإذا كانت هذه العودة إلى مطلق الزمن من قدر الإنسان، لأنها هي التي تصبغه بطابع الوجود، وتكسوه ببزة الحياة، فإن العودة المجردة إلى زمن ‏معين في تاريخ البشرية، لا يكون نفَسا في الذات العاقلة، إلا إذا اتصل فيه المعنى بين الماضي، والحاضر، واتسع النظر فيه إلى ما يضمن وحدة ‏الماهية، واشتراك الهوية، لأن الفصل بين المركبات الُمحدِث تآلفُها للموضوع المحكوم عليه، لا يصير برهانا على صياغة القضية من كليات، وجزئيات، ‏إلا إذا كان كل فرد متمتعا بحده، ومصاحبا لغيره، إذ دراسة كل فرد في مادته، قد يمنحنا إدراكا بماهيته، لأنه الأقدر على جعله صورة، وعلى ‏تصييره ظلالا. لكن ذلك لا ينتج فعلا محددا بغاية، ومتجها إلى نتيجة، إلا إذا اتصلت روحه بسياقها الكلي في الكون، وكان الحاضر فيه موصولا ‏بذيل الماضي، وحواشي المستقبل، لكي تنصهر النار من فتيل الشمعة، وعود الثقاب، ويخرج من الماء النار، ومن الحديد الصوت، ومن العدد ‏الفضاء الرقمي. فالعناصر المركبة، وهي الآحاد، أو الأفراد، لا تتحقق المعرفة فيها إلا بالجمع بين الجزئيات، والمزج بين المتآلفات. وإلا، غزتنا ‏الفردانية، واستوحشتنا الأنانية، وهي في محل الجماعية تهمة، وإدانة، لأنها تنسج فينا اختلافا، وترسخ فينا تنافرا، إذ هي الضد الذي يكون إثباته ‏نفيا له، والصوت الذي يسوِّغ العيش للنوع، لا لجنس الإنسان، وذاته الحرة، والكريمة. لكن ما يمنع ذلك عن القول به، هو غياب المعنى في الأخلاق ‏المدبرة للغنى، والفقر، لأنهما في حدة هوج الاقتصاد الذي يحقق صون الكيان في المجتمعات البشرية، لا تكون إلا تابعة، ومنفعلة، إذ هي ما يسود ‏العلاقات عند استعلاء الأنانية، واستهجان الجماعية.‏
‏ ومن هنا، كان العقل الصناعي نافرا عن طبيعة السؤال الذي أنتج التنوير، وأبدع الحداثة، لأن تدبير الكون في كل الأفعال البشرية، لا ينشأ من ‏فراغ اللحظة عن الأحكام الجارية، لأنها هي ناموسه الذي يدبر الوجود في العدم، إذ ما يتقوم به الشيء في تصور الذات، ونظام الإنسان، ليس ‏هو ما يقوم به في كلية الوجود، وغاية الكون، وحقيقة الطبيعة، لأن ما ندركه في الشيء، هو ما يبني تصورنا، وينفي الجهل عنا، إذ ما نحكم به ‏عليه،لا يصير تكليفا إلا في جهودنا، لأنه لا يدل على تمام المعرفة بماهيته، ولا الإمعان في درك حقيقته، إذ ما يظهر منه في زمن، أو ما يغيب منه ‏في حال، قد يكذِّب حقيقة مطلقه فينا، ويصدق وصفنا بالجهالة، والغرور، لأنه ينجلي في كل زمن بحقيقة، فينصهر معنا في الإرادة، والإلزام. ولذا ‏استبطن الفعل الصناعي فلسفته، ودينه،وعقله، إذ بدون وجود خلفياته المركبة لجهاز معرفته، لن يكون نتاجه إلا فوضى تسوق الإنسان بلا جدوى. ‏فهو وإن مال إلى العدمية في الدرس اللاهوتي، فإنه ينحرف إلى العبث المسكونة أخلاقُه بمنطق أذواقه المتعددة، وأغراضه المختلفة، لأن ما سماه ‏عند احتدام نوازع الأثرة بالفوضى الخلاقة، ما هو إلا تسويغ لما هدمه من رسم الماضي، لكي يضع زمام الكون بين الآلات الصماء، والإرادات ‏العمياء. ‏
ولذا لا يحبط وزن عقلي أن أرى هذه المادية المتوحشة رغبة في المطلق، وإمعانا في حماية الذات من الفناء، لأنها بمقدار ما يتوارى الإنسان في ‏حمئتها بما تضيفه إليه بهجة الصناعة، فإنها تحتوي على الفرس المجنح الذي صنعه الخيال في أفق الوجدان، ثم صار مع شرود الحلم تمثالا للحرية ‏الطازجة بين الساحات العمومية، والواحات التي يسبل فيها الخلي أنظاره بلا مدود، ولا حدود، لأن التمثال، وإن على دل على عقل المأساة التي ‏أبدعت الفنان، وهي الألم الذي يزفر به الإنسان، وفحيحه في سواد الآفاق، وصديده في موارد النكد، والسآمة، فإنه يؤكد على وجود فضاء ‏فسيح في الذات، وموطن عميق في الكيان، يمكن له أن يحتوي على لحظات الفرح، ومساحات المرح. وهي تلك الساعات التي تعج بالمتخففين من ‏وعثاء سفر المادة في بحر الزمان، والمكان، لكي يزيحوا غلالة الهم النكد، فيتأمل الحكيم غموض البحر الساكن الأمداء، ويرقص الشاعر مع الطيور ‏المغردة على الأفنان الونانة، ويمرح الفنان بعناق الفراشات لأثداء الزهور الفواحة، ويترنح الكاتب برصيف المدن المزدحمة الأبواب المرتجة، لعله ‏يتذكر كيف كتبت ملاحم الشهامة في غموض فارس دون كيخوت النبيل، ويتأمل بأي معنى قادت الخيول سر الشوق بين جوليو، وروميت، ولأي ‏حقيقة ينتمي السوبرمان في روح نيتشه، وعشق زراديشت. هنا يكون التمثال دالا على الخيال، وهو من عالم الروح، لأنه يفصح عن مكنون ‏الإنسان الذي احتواه التاريخ، وانطوى عليه الحرف الرخيم. وهنا كانت حركة البشر دليلا على الحرية التي انزاحت عن صلادة التقنية، وغرور ‏الذكاء الصناعي.‏
وإذا كان الإله هو مظهر الكمال في الصورة التي رسمها الشوق للعالم الفوقي، فإن الحضارة هي أجلى ما جسد فعل الجمال في الكبد الإنساني. لكن ‏كيف انحرفا عن مساريهما، وصارا حروبا شعواء، لم تبق ديارا، ولم تذر أشجارا.؟ ربما قد يقول قائل بأن ما نشهده من مظاهر ثائرة، هو الدين ‏عينه، أو الحضارة نفسها، لأنه رأى فيهما ما يثمر السعادة المقيدة، وينشئ مهد الاستقرار بالأحلام المغردة، إذ هو لم يحس بوادعة الحياة إلاحين ‏تململت بين أحضان النعم الفاتنة، و لم يعتقدها إلا فيما تبنيه الآلهة من جنان الخلد الناعمة، ولم يرقبها إلا في انجرار الإنسان إلى ماخور المتعة ‏الناضجة. ومن هنا، فإن الخلد والمتعة حقيقتتان في الإنسان العاقل، إلا أن الأولى تحولت إلى عقيدة، والثانية استحالت عقدة، لأن ما نخاله خلدا، ‏لم يكن إلا مبرَّئا من عللنا، وأدوائنا، إذ هو اللحظة المتعالية عن ناموس الأرض المتعب الأوصال، والجوانح، والمتسامية بنظام لا تعب فيه، ولا ‏ضجر. وما نراه متعة، لا يتضمن إلا حرصنا على اللحظة التي تمتد فيها أيدينا إلى الأشياء بلا رقيب، ولا حسيب. وهنا تلتقي مادة الفكرتين، لأنهما ‏ومهما أبانتا عن التفاوت بين المقاصد، إذ الأولى تحاكي الروح، والثانية تصوغ المادة، فإن ما يجمعهما هو مدى الإطلاق في الصورة الكاملة لناموس ‏الأرض، وقانون السماء.‏
‏ ولذا، لا نستغرب متدينا يتلفع عقل ملحد، ولا ملحدا يتزين بعقل متدين، لأنهما يعبران عن الإطلاق في فكرة الخلد، ومعنى المتعة، إذ كل واحد ‏منهما لا يتحقق وجوده إلا بالقبض على تلك الصورة الذهنية المتناهية في الجمال، والكمال. وهما لا محالة، يتعاركان في أصل الوجود، ويتصارعان في ‏مساحة الحركة، ومسافات الفعل، لأنهما جناحان يحلق بهما الإنسان إلى عالم السماء، وريش يتباهى به في عالم الأرض. لكن وضوح هذه الصورة ‏يفسدها ما ينشق عن الجاهل بعقل الأشياء من أحكام، إذ قد يكون بعضها رحيما، وبعضها قاسيا، لاسيما إذا دل على صوت الإله، أو احتوى ‏على مطلق حرية جوهر الإنسان، ومجرد حلمه، وأمله، لأنه الأمكن في الاسمية عند تركيب معاني الأسماء، والأظهر حدسا عند تحديد الصفات في ‏صور الأذهان، إذ مقتضى الحقيقة أن نقول: إن الدين بهذا الرسم، لن يتحول إلا إلى غربة بين الديار التي تزينت لأفراحها بأبهج ما يغري العقول، ‏ويثير الأفئدة، لأنه سيمس في المظهر الفتان انحرافا عن مقتضى الخلد، وانعزالا عن خطة الإله الجارية تدابيرها فوق الأرض، إذ المتعة في لازم ‏الدين، ليست مطلوبة لذاتها، بل لما تهبه من أشواق الفرار إلى حصون السماء. وإذا كان الدين في تقابل مع الحضارة، وتعانق معها قبل الانقطاع، ‏ولم ينفخ معنى الخلد في مراحل السير البشري، فإنه سيكون حربا عليها، لأنه سيتحول إلى حاكم مرتاب في فعلها، ومغتاظ من صوتها، إذ سيغدو ‏كلاما في الروح، وصمتا في المادة. وهنا يكون الدين فاقدا لصورة الإنسان، وعلاقتها بعناصره المكونة لجرمه، لأن تمام وصفه بما هو محدود فيه، ‏وموضوع له. وإلا، فهل الحضارة نزفت من عمق غير عقل الإنسان.؟ وهل زفر صوت الإله من غير لسان الإنسان.؟
‏ أجل، كلاهما قد نشآ من جوهره، ومادته، وتفرعا في دائرة انتباهه، واهتمامه. وما يجمع بينهما من روح جامعة لمنبع الكليات، والقواعد، والروابط، ‏هو المطلق الذي غرد به البشر على عروش الآمال اللطيفة، والمجرد الذي رسمه كل طرف بصورة مواتية لسرحان أحلامه الرقيقة. ولذا يعسر الفصل ‏بينهما، ولا المزج المفضي إلى توهان حديهما، لأنهما بدون الإنسان، لن يكون لهما معنى، ولا أثر، ولا حضور. وإذا غابا عنه في صياغة جوهريهما ‏المعنوي، كانا خرابا، وعماء، إذ ما ولجنا غيابات الظلام، وتهنا بين بحار الغموض، إلا حين كان العقل جبروتا، وكان العاقل طاغية، لأنه في صعوده ‏إلى السماء، يتجسد من علامات الذات، وعلاقاتها، وفي هبوطه إلى الأرض، تنطبع قيمته بأمارات الملكية، والتسلط على الموراد المزدحمة. ولذا عبرا ‏عن الذات الإنسانية في مراحل السير إلى قيمتي الخلد، والمتعة، لأنهما ومهما كانا ظاهرين، وبارزين، فهما في خفاء العقل الموجه للسلوك باطنين، ‏وخفيين، لأن ما ينشآنه من ظواهر الأفعال، هو الحقيقة التي تدل على سمو الفكر، أو دنوه، إذ لا يجوز أن تُستوعب الصورة إلا بأبعادها، ‏وظلالها، وما لم يكن قدرنا وافيا بأن نعي ذلك، ونتعرف عليه، أنتجا صراعا مريرا، ونزاعا مديدا. فذا يدبره بالتكليف المكروه للإنسان، والموضوع ‏أثره للاستعداد القابل للتضحية، والفداء، وذاك يصرِّفه في كل ما يزيح القيود، والأغلال، ويرخي لسان الإنسان بنزيفه الذي يروي فيه ربيع ‏الكلمات، وخريف البسمات. فكيف يمكن للدين أن يدل على الإنسان، ما لم ينزل عليه، ويكون صوته في كليات مركبه.؟ وكيف يمكن له أن يظهر ‏وجه الحضارة، وهي قد تخفت وراء كل ما ارتجاه، ولو فيه ضرره، وألمه.؟
‏ لن يكون الدين مسعفا بالسعادة، ولا مفضيا إلى الهناءة، ما لم يكن حضارة ترتقي بإنسانية الإنسان، ولن تصير الحضارة قارب نجاة، إلا إذا جعلت ‏إسعاد البشر دينا مقدسا، وعهدا يصلها بروح العالم، والحقيقة.وإذا كانت طبيعة الاستعلاء المغروسة في الإنسان، لا تستقل بها جماعة دون جماعة، ‏بل هي عامة، وكونية، فلا غرابة إذا كانت محل حرب في الديانات، وعراك في الفلسفات، لأنها هي التي تهدم هرم الفضيلة، لكي يستحوذ على ‏الوجود طالبُه بالقوة، والشراسة. وهذه الطبيعة لم يطق العقل الفلسفي في الغرب أن يتخلص من وضرها، ولا أن يتطهر من عفنها، وإن أبدى ‏إنسايته في مساعدة الفقير، والمحتاج، لا في تعليم المحروم كيف يصطاد سمك الأماني من بركة الذات، وبحر الطبيعة. ولذا صارت الفلسفة التي ‏أنشأت الصناعة، هي التي تناضل اليوم من أجل وخر وحش الإمبريالية، لعله يتذكر العهد القديم، ويستحضر كيف اصطفت الأقدام في حيازة ‏الحضارة، لأن الوعي الذي يتشكل في الدورة التاريخية التي بدأت تفصل بين الغالب، والمغلوب، ولو توطآ على التمثيل في مسرحية الوجود الغامضة، ‏وتآلفا على التصديق بالأماني الخادعة، ما هو إلا نتيجة تراكمات لا نطيق حصر زحفها، ولا توجيه ما يتولد فيها من إدراك، ومعرفة، لأنها تدل ‏على الإنسان الذي فارق بداوته بغربة حضارته، وواصل ظاهره بخراب باطنه. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #