الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم “البروليتاريا الرثة” لدى ماركس

سعد عبد الرزاق حسين

2019 / 4 / 22
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


متخصص في علم الاجتماع

يحتل مفهوم “البروليتاريا الرثة” أو “حثالة البروليتاريا”lumpenproletariat – ، مكانة هامة في فكر ماركس، خاصة تلك المتعلقة بالصراع الطبقي والتركيب الاجتماعي للمجتمع. واهتم ماركس في كتاباته السياسية والمبنية على وقائع وحوادث ملموسة بكل الطبقات والفئات التي كان لها شأن في الصراع الطبقي والاجتماعي، كتلك التي حدثت في فرنسا بين أعوام 1848 – 1852، وهي الفترة التي ابتدأت بثورة شباط 1848 التي انهت حكم عائلة أورليان، وتأسست على اثرها الجمهورية الفرنسية الثانية. وجاءت نهاية هذه الفترة بانقلاب نابليون الثالث على الجمهورية في كانون الاول/ ديسمبر 1852 وتتويجه امبراطوراً على فرنسا. وأهم كتابات ماركس السياسية، إضافة الى “البيان الشيوعي” هي: “الصراع الطبقي في فرنسا” (1850) و”الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” (1852) و”الحرب الأهلية في فرنسا” (1871).

وكما هو معروف، فإن إهتمام ماركس الأساسي انصب على نموذج واحد من المجتمعات والأنظمة ألا وهو النظام الرأسمالي، الذي تناوله بمزيد من التفاصيل في مؤلفه “رأس المال”، وبحث فيه أهم ملامح هذا النظام، من حيث نشوئه وتطوره ومستقبله. ولأجل ذلك استخدم منهجاً يدرس الرأسمالية كنظام اقتصادي عالمي، يشمل جميع البلدان التي دخلت هذه المرحلة، وللوصول الى نتيجة بحثه، فإنه استبعد كل ما في هذا النظام من عناصر ثانوية ومؤقتة، ومنها كافة الفئات والطبقات التي تتواجد في المجتمعات الراسمالية في مرحلته الأولية، وذلك بسبب ضمورها واختفائها خلال تطوره، ولم يبق إلا على طبقتين اساسيتين، هما: الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية. لكن هذا لا ينطبق على مؤلفاته السياسية التي تناولت بالأساس المجتمع الفرنسي خلال ثورة عام 1848 ومن ثم كومونة باريس 1871 حيث تناول وضع كافة الفئات والطبقات التي شاركت بأحداث الثورة والصراع الطبقي الذي قام على اثرها. وهكذا فإنه لم يتناول الطبقة البرجوازية باعتبارها طبقة واحدة وموحدة بل اهتم بكافة شرائحها التي كان لها مصالح مختلفة في الصراع القائم آنذاك. وميز بين البرجوازية الصناعية والصغيرة والعقارية وغيرها. وقد وصل عدد الطبقات التي اهتم بها ماركس الى حوالي ثماني طبقات او فئات، على عكس نمودج “رأس المال” الذي اهتم بطبقتين اساسيتين ومتناقضتين.

وتجدر الإشارة هنا، الى ان ماركس كان يهتم بموقف كل فئة او شريحة اجتماعية بموقفها من الثورة البروليتارية القادمة، وهو الأساس الذي استند عليه في تحليله للصراع الطبقي في فرنسا إبان ثورة 1848. إن الفترة الزمنية التي تناول فيها ماركس وضع الطبقات وصراعها، كانت متميزة من حيث “ان الذي الغى العلاقات الإقطاعية الريفية في كل ارجاء اوربا الغربية والوسطى كانت الثورة الفرنسية سواء من خلال أدائها المباشر او ردود الأفعال تجاهها، أو بسبب قوة المثال الذي ضربته، وكذلك من خلال ثورة 1848” (1).

أهم ما يميز فئة “البروليتاريا الرثة” عند ماركس إنها فئة تقع خارج علاقات الإنتاج الرئيسية في المجتمع (فلا تملك وسائل إنتاج ولا تبيع قوة عملها)، فهي توفر العيش لنفسها عن طرق مشبوهة وثانوية مثل السرقة والدعارة والقمار والتهريب والتشرد والقتل والسلب وغيرها. ومثل هذه الفئات موجودة في كل المجتمعات كما يشير ماركس الى ذلك في “الأيديولوجية الألمانية” 1848، “فقد وجدت في جميع العصور، والتي ظهرت بشكل واسع بعد إنتهاء القرون الوسطى، وكانت قد سبقت تشكيل الطبقة العاملة بشكل جماهيري” (2). لكن ما أثار ماركس منها هو موقفها من الصراع في فرنسا من حيث وقوفها كخادم مطيع للبرجوازية ومساهمتها في قمع البروليتاريا وإبعادها عن المسرح السياسي في حزيران 1848. وهذا ما عبر عنه ماركس في “البيان الشيوعي” :”أما رعاع المدن، هذه الحشرات الجامدة، حثالة أدنى جماعات المجتمع القديم، فقد تجرهم ثورة البروليتاريا الى الحركة، ولكن ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعداداً لبيع انفسهم الى المكائد الرجعية” (3). وبعد ان يشير ماركس الى المراحل الرئيسية الثلاث للثورة في فرنسا، يبيّن في “الثامن عشر من برومير” أنه في بداية الثورة او مرحلتها المبكرة في شباط 1848، التي شاركت فيها جميع الفئات والطبقات الفرنسية، بضمنها ممثلي الطبقة العاملة، إلا ان نتيجة لمكائد البرجوازية وشارل لويس بونابرت (نابليون الثالث) رئيس الجمهورية تم قمع البروليتاريا في حزيران من نفس العام من خلال تجنيد مليشيات ما يسمى بالحرس المتنقل المؤلف من حثالة البروليتاريا. “وانتصرت الجمهورية البرجوازية. فإلى جانبها كانت تقف اريستقراطية المال والبرجوازية الصناعية والفئات الوسطى والبرجوازية الصغيرة والجيش وحثالة البروليتاريا lumpenproletatiat المنظمون في حرس متنقل (mobile guard) والمثقفون ورجال الأكليروس وسكان الأرياف” (4). ويعرّف ماركس حثالة البروليتاريا بالمواصفات التالية: فإلى جانب “الذين بددوا اموالهم والمشكوك في وسائل معاشهم والمشكوك في أصلهم ومع المغامرين المنفلتين من أوباش البرجوازية الفاجرين كان هنالك متشردون وجنود مسرحون وزبائن سجون مطلقو السراح وهاربون من الأشغال الشاقة ونصابون ومشعوذون ومتسكعون ونشالون ومحتالون ومقامرون وقوادون واصحاب مواخير وحمالون ونساخون وضاربو ارغن وجماعو اسمال وسنانو سكاكين ولحامو معادن ومتسولون – وبإختصار كل هذا الجمهور السائب، المتنوع، غير المحدد الذي تدفعه الظروف هنا وهناك والذي يسميه الفرنسيون: la boheme” (5).

لقد جرى الانتباه لفئات البروليتاريا الرثة بشكل واسع مع دخول بعض البلدان الأوربية المرحلة الصناعية في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر، وظهور المدن الكبرى، وحتى هنا فإن دورها واهميتها اختلفت بحسب البلدان التي أنجزت بطرقها الخاصة والفريدة احياناً مرحلتها الصناعية. وتبرز هذه الفروق خصوصاً بين أهم بلدين في القارة وهما بريطانيا وفرنسا، حيث ان انتقال الفلاحين الى المدن وتحولهم الى طبقة العمال الحضرية في بريطانيا تم بشكل هادئ ومنسجم مع تطور الصناعة فيها، اما في فرنسا فقد أخذت هذه العملية ابعاداً أخرى بسبب العراقيل التي واجهت صناعتها، وكذلك لكبر حجم طبقة الفلاحين فيها. ولا شك ان وجود حثالة البروليتاريا وفعاليتها يظهر فقط في المدن، وخاصة في المدن الكبرى، فهي في هذا الخصوص من الفئات الحضرية بإمتياز.

ولم يكن في أطوار الرأسمالية الأولى أو حتى قبلها إمكانية استيعاب مدن يتجاوز عدد قاطنيها عدداً محدداً من السكان. فالمشكلة العتيدة التي استمرت لقرون عديدة منذ استقرار بعض المجتمعات الزراعية في أرض محددة بحدود القرن العاشر قبل الميلاد، كانت تتعلق بمشكلة تأمين الغذاء لسكان المدن الأولية التي كان يعتمد سكانها على المنتجات الزراعية القريبة من حولهم. فليس اعتباطاً على سبيل المثال ان حدد افلاطون الحجم الأمثل لسكان المدينة (الدولة) بـ 5040 من المواطنين فقط من دون العبيد. رغم ان هذا العدد مهم لفلسفة الرياضيات في العهد الإغريقي؛ حيث انه يقبل القسمة من كل الأعداد من 1 الى 10 من دون ان يبقى له باق كما يقبل القسمة على العدد 12 الذي كان له رمز ديني واسطوري لليونان القديمة، لكنه يدل ايضاً على ان عدد سكان المدينة شغل جميع فكر الفلاسفة والمفكرين لغاية العصر الصناعي.

لم تكن المدن ممكنة قبل اكتشاف الزراعة واستقرار الناس في المكان، قبلها كانت هناك جماعات هائمة يجمعها الصيد والقنص من أجل الحصول على غذائها. ومنذ ذلك الحين كانت مشكلة العدد المناسب للجماعة من المسائل المهمة التي تقرر بالتالي مسألة استمرار الجماعة وإمكانية بقائها، فلم يكن بالإمكان زيادة عدد أعضاء مثل هذه الجماعات عن العشرة او العشرين من الرجال والنساء، ولا يتم قبول اعضاء جدد بسبب ندرة مصادر الصيد وصعوبته. فكانت تهيم في الارض من مكان الى آخر للحصول على غذائها. كما لم يوجد بينهم اي نوع من تقسيم العمل، فلا وجود لزعيم او رئيس، ويتقاسمون ما يحصلون عليه بالتساوي، إذ ان اي نوع من عدم التساوي يعني موت بعض افرادها بسبب الجوع. وربما عنى ماركس بمثل هذا النوع من التشكيلات الاجتماعية الأولية بالشيوعية البدائية.

ومع ظهور الزراعة واستقرار الناس في المكان لفترة قبل ان تبور الأرض الزراعية والتفتيش عن اخرى، وامكانية تراكم فائض الانتاج الزراعي وحفظه لمواسم قادمة، اصبح من الضروري إجراء نوع من تقسيم العمل، بحيث اصبح بإمكان الجماعة التخلي عن بعض افرادها من العمل بإنتاج الغذاء لأعمال أكثر اهمية لبقاء الجماعة. أولى الوظائف التي جرى تحريرها من الانتاج المباشر للغذاء كانت وظيفة الحارس او الحراس الذين يحرسون مخازن تجميع الفائض الزراعي ويصدون هجمات الجماعات الهائمة الذين كانوا يحاولون الاستيلاء على هذه المخازن. وهكذا كان لبناء مخازن للمحاصيل الزراعية الفائضة عن الحاجة وتسييج ارض الجماعة بأسوار محكمة وحراستها من المهام الأساسية للجماعات الزراعية الأولية.

وكانت مدن العصور الوسطى منظمة بشكل دقيق من حيث موقعها وعدد سكانها وترتيب خارطتها ودور سكن فئاتها المختلفة. فمركز المدينة كان على العموم يتكون من باحة او ساحة تقع فيها الكنيسة والمباني العامة وتحيط بهم دور سكن الأغنياء ويليها سكن الفئات الأقل ثروة ثم يتبعها سكن المهنيين والعمال الذين تحتاجهم المدينة. “كان من الممكن ان يتجول الفرد في بضع دقائق من ساحة الكنيسة المحاط بها المباني العامة والمرور بمنازل الوجهاء للوصول الى الحقول” (6). وكان من المهم ان تكون المدينة مسورة ولها بوابات تغلق ليلاً. ويفضل ان تقع المدينة قرب منبع مائي نهري او بحري، بحيث يحيط بها الماء من ثلاثة اتجاهات، وذلك لأهميته من حيث الدفاع عن المدينة في زمن الحرب. كما ينبغي ان يكون خارج أسوار المدينة ارض زراعية خصبة تؤمن الغذاء لسكان المدينة.

وبقي الاهتمام بموقع المدينة وتقسيمها وتنظيمها واسوارها وعدد سكانها يشغل اهتمام قادة المدن وأثريائها لغاية مطلع الثورة الصناعية الأوروبية في القرن الثامن عشر. وبالرغم من ان النظام الإقطاعي الأوروبي كان يشجع الفلاحين على البقاء في الأرض وزراعتها سواء بالقوة ام عن طريق المغريات التي وصلت الى زيادة حصة الفلاحين من المحصول، ووصل الأمر في نهاية العهد الإقطاعي بأن تم دفع حصص الفلاحين نقداً. لم تكن مدن ما قبل الثورة الصناعية على استعداد لقبول هجرة الفلاحين، لصعوبة توفير الغذاء الكافي لهم. ولأجل ذلك قامت ثورة زراعية سبقت الثورة الصناعية، من خلال استخدام اساليب وتكنولوجيات جديدة في العمل الزراعي، كما ساهمت التجارة مع ما وراء البحار والمستعمرات بتوفير الغذاء الكافي لتحرير الفلاحين من العمل الزراعي وانتقالهم للمدن الصناعية الجديدة. وحتى المدن الصناعية الأولى كانت محددة بالمكان من حيث ان تكون قريبة من الأنهر او البحار، وذلك لاستخدامات الطاقة البخارية آنذاك ولغرض سهولة نقل البضائع عبر الأنهر والبحار.

لا يشكل الناس الهامشيون في المدن طبقة بحد ذاتها بل انهم فئات اجتماعية من بقايا الطبقات الذين تغيرت مكانتهم في المجتمع، أغلبهم من أصول فلاحية. وليس بالضرورة ان تكون هذه الفئات فقيرة، بمعنى انها لا تمتلك قوتها اليومي، بل ان من بينهم من يملك ثروات طائلة بحيث لا يمكن مطلقاً وصفهم بالفقر. ان ما يجعلهم في منزلة واحدة تقريباً هو ثقافتهم واسلوب معيشتهم وطريقتهم في كسب المال، التي لم تكن دائماً مشروعة، كما تضم هذه الفئة ايضاً العاطلين عن العمل او الذين يرفضون العمل او العمال المؤقتون الذين يغيرون عملهم بحسب الحاجة والطلب.

وهناك اشارات واضحة الى وجود هذه الفئات في كل المراحل التي سبقت الرأسمالية الصناعية. فإفلاطون في “الجمهورية” بمعرض حديثه عن الديمقراطية، كان قد أطلق على هذه الفئات نعت ذوي “العلة الطفيليون” parasitic drones، فكتب بأنه بالتناقض مع “الشعب” الذي يطمح بالضرورة الى “الانتاج لأنهم جديرون به”، فأن ذوي العُلة يكونون “حشد من طموحات غير نافعة”. وقصد افلاطون بهذه الفئة العبيد والمرتزقة الأجانب “الرعاع السابحون في كل البحار”، الأشرار المحرضون للشعب ضد الأغنياء. ويخلص افلاطون الى ان ذوي العلة لا يندمجون في اي جسم سياسي سليم، بل ينبغي استئصالهم منه؛ “انهم يهيجون النظام برمته مثل الصفراء والبلغم في الجسم، وينبغي على الطبيب الماهر والمشرع ان يحتاطوا منهم، مثل مربي النحل الحكيم الذي يحتاط من عضاتهم، وإذا ما فعلوا ذلك، ينبغي التخلص منهم ومن خلاياهم” (7) .وجاء مصطلح الرعاع mob من الأصل اللاتيني mobile vulgus، الذي يعني ايضاً الناس العاديين المتمردين أو المشاغبين. وخلال مراحل تاريخية كبيرة قبل الرأسمالية ظهرت هذه الفئات في المدن بين اوساط الفقراء والمتسولين والقوادين والمقامرين واللصوص وقطاع الطرق والقتلة وغيرهم، إلا ان دورهم كان محدوداً بفعل ندرة حركة الناس جغرافياً، وصغر المدن وأسوارها وتنظيمها المتقن وحذرها من المتطفلين والغرباء. لكن الظروف التي جاءت بها الرأسمالية في اطوارها الأولى من ازدياد حجم سكان مدنها، وهجرة سكان الريف الواسعة لها، وازدياد الفوارق بين دخول افرادها، وإفقار شرائح واسعة من سكانها، جعل هذه الفئات تلعب دوراً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً مميزاً. ولم يكن من الممكن دراسة هذه الفئات، إلا بعد ان اصبحت ظاهرة متأصلة في الطور الأول من الرأسمالية. لكن التطور الرأسمالي اللاحق كان قد ادمج الجزء الأكبر منها، من خلال تحويلهم الى الطبقات الحديثة للمجتمع الصناعي، وعلى الخصوص الى الطبقة العاملة.

ظهر الاهتمام في دراسة دور “الفئات الهامشية” او “الرثة” في منتصف القرن التاسع عشر، عندما اصبح لهذه الفئات دور سياسي مؤثر في التغيير السياسي الذي عرفته المجتمعات الأوروبية في تلك المرحلة، خاصة فرنسا التي واجه تحولها نحو الصناعة مشاكل وتعقيدات متميزة. ومما اعطى هذه الفئة امتيازاً يعود الى ان الصراع بين الطبقات والفئات والنخب السياسية الفرنسية الذي اخذ بسرعة قالباً راديكالياً حاداً، وكذلك بسبب وجود طبقة فلاحية كبيرة نسبياً. وربما تتمحور أغلب هذه الدراسات حول مفهوم “البروليتاريا الرثة” Lumpenproletariat لماركس، لكن هذا لا يعني بأن فلاسفة ومفكرين قبل ماركس كانوا قد اشاروا في كتاباتهم الى هذه الفئة. (هيغل) في إطار مناقشته حول الثروة والفقر في كتابه “فلسفة الحق”، كان قد أكد أنه من الممكن لنوع معين من الجمهور، تهديد النظام السياسي والاجتماعي القائم”. ويتكون هذا الجمهور من الجماعات الكسولة والهامشية ومن الأقليات. وكتب بأن “الفقر في حد ذاته لا يحول الإنسان الى غوغاء، يظهر الغوغاء فقط عندما يرتبط الفقر باستعداد عقلي، مثل السخط الداخلي ضد الأغنياء وضد المجتمع وضد الحكومة،..” (8). كما وردت الاشارات لهم في كتابات روسو وتوماس بين وسان سيمون وباكونين وفانون وغيرهم، ولدى بعضهم حصل خلط واضح بين مفاهيم “الشعب” و”الرعاع” التي تداخلت لوصف هذه الفئات. فالمفكرون اليساريون المؤيدون للثورة اطلقوا عليهم نعوتاً ايجابية كالشعب او الجماهير. وقد نعتهم المؤرخ هيبليت تاين Hippolyte Taine في كتابه “تكوّن فرنسا المعاصرة” بـ”الكسولين، والفاسقين، والمقامرين المحترفين، والمخادعين، والطفيليين، والمغامرين، والأشقياء، والمتمرسين في الرذيلة والجريمة،.. ودهماء المدن،.. والفلاحين الكارهين دفع رسوم الدخول، والمشردين، والمهربين، والهاربين من العدالة، والهائمين الأجانب، والسلابين، والمجرمين” (9).

وقد استعيض اليوم عن مفهوم “البروليتاريا الرثة” بمفاهيم سوسيولوجية حديثة مثل: الحشد crowd والرعاع او الغوغاء mobs وفقراء المدن urban poverty والطبقات الدنيا underclasses والطبقات الخطرة dangerous classes والغرباء او اللامنتمون outsiders وأولاد الشوارع الشعبية street folk والمحرومون اجتماعياً social outcasts والرواسب الاجتماعية social residuum ، وغيرها. وربما ان اهم ما يميز هذه الفئات هو سلوكها الواقع في إطار ما يسمى بالسلوك الجمعي.

وينشط السلوك الجمعي collective behavior عند اجتماع عدد كبير من الناس في مكان واحد، يواجهون فيها ظروفاً استثنائية غير عادية (10). ويشبه السلوك الجمعي السلوك المنظم من حيث تضمنه تفاعل مجموعة من الناس سوياً، لكنه يختلف عنه بعفويته واوضاعه المتغيرة باستمرار، مما يصعب أو يقلل إمكانية التنبؤ به. وإذا كان سلوك الافراد المنظم محددا بجملة من الضوابط والآليات كالقيم والمعايير والدوافع وغيرها، فأن السلوك الجمعي هو الآخر محدد بضوابط مماثلة. ويتمثل التباين بين السلوكين في ان السلوك المنظم هو سلوك يومي متكرر يواجه فيه الفرد اوضاعاً مألوفة متكررة. اما السلوك الجمعي فيقوم في ظل اوضاع استثنائية غير عادية وغير متكررة. فيظهر سلوك الناس الجمعي “لحصول خطأ ما في بيئتهم الاجتماعية. فالناس يفزعون، مثلاً، لمواجهتهم بعض الأخطار الشديدة. وينغمسون في حالات من الحماس والاهتياج والبدع بسبب الضجر مما يدور حولهم. ويقومون بالشغب لمواجهتهم أوضاعاً من الحرمان الحاد كارتفاع الأسعار التضخمي. وينضمون الى الحركات الثورية والإصلاحية لمعاناتهم من اوضاعهم الاجتماعية السائدة” (11). وينشط السلوك الجمعي في فترات التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويزداد فعالية في اوقات الأزمات عندما يضعف الثبات الاجتماعي أو عند اختلال النظام المعياري normative order في المجتمع أو عند عجز البنية الاجتماعية عن استيعاب التغييرات الجديدة.

إن احدى المميزات السياسية للفئات الواقعة تحت تأثير السلوك الجمعي هو استعدادها للانقياد وراء الحركات المتنفذة أو الشخصيات الكارزماتية، فيكفي ذكر بضع كلمات أو القيام بإيماءات معينة حتى تفقد هذه الجموع اتزانها وتتحول الى حشود فاعلة مستعدة لتدمير كل ما هو امامها. فهناك دائماً “كلمة” أو “صورة” أو “رمز” لها مفعول “كلمة السر” تسري بين جموع هذه الفئات وتنتشر بينهم بسرعة مذهلة، فتصبح دليلهم في إجلاء الغموض عن الاوضاع الاستثنائية أو غير العادية المحيطة بهم. “لبعض الألفاظ والجمل سلطان لا يضعفه العقل ولا يؤثر فيه الدليل. الفاظ وجمل ينطقها المتكلم خاشعاً امام الجماعات فلا تكاد تخرج من فمه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين وتعنو الوجوه لها احتراماً، ويعتقد كثيرون ان فيها قوة إلهية” (12(.

ولم تمر بلدان العالم الثالث بمثل هذه الأطوار التي عرفتها مدن أوروبا، فقد تمت هجرة سكان اريافها الى المدن في الربع الأول او الثاني من القرن العشرين، بسبب إغراءات المدن الجديدة من حيث توفرها على العمل وبسبب تدهور القطاع الزراعي بالمقارنة مع بقية القطاعات الاقتصادية، واكتظاظه بالسكان الذين اصبحوا يشكلون فائضاً وعبئاً عليه. ولم تواجه مدن العالم الثالث مشكلة توفير الغذاء، فقد عنيت بها التجارة الخارجية التي اصبحت الآن مزدهرة بفضل السوق العالمية التي تزود بلدان العالم بكافة المنتجات ومنها الزراعية، طالما يتوفر النقد المطلوب. علماً ان أغلب بلدان العالم الثالث كانت قد تحولت الى بلدان زراعية مصدرة لمنتجاتها نتيجة لتقسيم العمل الدولي الذي وضعته بلدان المتروبول في فترة الاستعمار.

وهكذا ظهر دور “فقراء المدن” حديثاً في بلدان العالم الثالث مع ظاهرة التحضر الواسعة والسريعة التي بدأت منذ منتصف القرن العشرين والمقترنة بزيادة سكان المدن (الحضر) بفضل الهجرة الريفية الواسعة لها. وحتى هنا فإن الدور الذي تلعبه هذه الفئات يختلف كلياً عن سلفها التي لعبته في البلدان الرأسمالية، وذلك بسبب اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحيطة ببلدان العالم الثالث عن تلك التي شهدتها البلدان الرأسمالية، وأهمها أن بلدان العالم الثالث لم تمر بمرحلة الثورة الصناعية. إلا ان في كلاهما ظهرت اهمية هذه الفئات في المراحل الانتقالية التي لم تتوفر فيها بعد الآليات التي تدمج فيها هذه الفئات بطبقات المجتمع الحديث (الحضر)، والى ظروف الاختلالات غير العادلة في توزيع الموارد. وإذا كان ارتباط فقراء المدن في البلدان المتقدمة مع الصناعة في مراحلها الأولية، فأن ارتباطها في بلدان العالم الثالث مع الهجرة الريفية الواسعة وجذب المدن لأهل الريف.

وتركت الهجرة الكثيفة من الريف الى المدن آثارا وظواهر بليغة ومركبة: كمشكلة السكن واكتظاظ المدن والازدحام وزيادة معدلات الجريمة، وتردي الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم وغيرها. كما كان لهذه الظاهرة أثر مميز على المستوى الثقافي حيث تراجع مضمون الحياة الحضرية الحديثة (13) لصالح قيم ومعايير الريف التقليدية والمتخلفة. او بكلام آخر تراجع ثقافات الطبقات الوسطى المدينية لصالح ثقافة فئات فقراء المدن ذات الاصول الريفية. وسياسياً، ادت هذه الظاهرة الى تهميش دور المواطن تجاه الدولة، حيث فقد امامها الكثير من حقوقه السياسية، وتحول الى “نفر” بين جموع غاضبة لا تفهم لغة اخرى غير العنف، وفرض عليهم الانتماء الى جماعات تدعو الى تحقيق اهدافها بالقوة.

إن تكدس المهاجرين الريفيين في أحياء فقيرة تفتقد الخدمات الأساسية تحيط بالمدن الكبرى أو بالقرب من مركزها، جعلتهم يكونون ثقافة فرعية متميزة تختلف عن كلتا الثقافتين المدينية والريفية، إن صح التعبير. واجتماعياً، لا تنتمي هذه الفئات الى احدى الطبقات الاساسية المتواجدة في المدن، بل تبقى مستقلة عنها، ذلك ان من اهم خصائص هذه الفئات هي طبيعتها الانتقالية، غير المستقرة.

تواجه بلدان العالم الثالث اليوم مهمة صعبة تتعلق بدمج فئات فقراء المدن بسكان المدينة وبالتالي بالمجتمع الأوسع. وتصبح هذه المهمة معقدة بسبب هلامية التطور الاقتصادي في هذه البلدان وعدم وجود آليات ناجعة لدمج هذه الفئات في المجتمع، فتبقى هذه الفئات مستقلة ومحافظة على تقاليدها وثقافتها الفرعية. وهكذا فإن العنف والجريمة اصبحت من صفات المدن القصديرية التي تعج بها بعض بلدان العالم الثالث. ولخص تقرير لجنة “إدارة شؤون المجتمع العالمي” مشكلة التحضر في بلدان العالم الثالث باعتبار ان معدلات التحضر لا تتناسب ومعدلات التصنيع والتمدن، “فالمدن تجتذب السكان في مرحلة تسبق قدرتها الاقتصادية على توفير فرص العمل، والمساكن والصرف الصحي، والخدمات الاساسية الاخرى. وهذا هو السبيل نحو التدهور الحضري، وما يعقبه من توترات اجتماعية وجرائم، وغيرها من المشكلات” (14(.

ولا شك أخيرا ان ظهور “الإسلام السياسي المتطرف” في المدن الاسلامية والعربية، لهو شكل آخر لظاهرة حثالة البروليتاريا الذي قصده ماركس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) Eric Hobsbawm,’The Age of Revolution 1789-1848’, Weidenfeld & Nicolson, London 1995, p.24

(2) Peter Hayes, “The people and the mob: the ideology of civil conflict in modern Europe”, PRAEGER Westport, Connecticut – London, 1992, pp.33

(3) ماركس، أنجلس، مختارات، الجزء الأول، دار التقدم ، موسكو، ص60.

(4) ماركس، مصدر سابق ص 148.

(5) ماركس، مصدر سابق، ص203.

(6) Eric Hobsbawm,ibid, p.11

(7) Peter Hayes,ibid, pp.xv

(8) Ibid, P.Hayes, pp.8,

(9) Hippolyte Adolphe Taine,’The Origins of Contemporary France’, The French Revolution, 2 Vols., trans. John Durand, Henry Holt, New York 1896, pp.125-26

(10) يقصد بالسلوك الجمعي، سلوك الناس الجماعي في الحشود ,crowdsوحالات الفزع panics والبدعfads والتقليعات fashions وحالات الحماس والإهتياج crazes والوله cults وغيرها. كما يظهر في الظواهر الأكثر تنظيماً كالحركات الاجتماعية social movements سواء الثورية منها أم الإصلاحية. انظر: Encyclopaedia Brritannica, volume 16, 15th edition, Chicago 1991, p.556

(11) Neil J Smelser, ‘Theory of Collective Behavior’, Routledge & Kegan Paul, London 1962, p.47

(12) غوستاف لوبون, “روح الاجتماع”، ترجمة احمد فتحي زغلول باشا، موفم للنشر، الجزائر 1988، ص 116.

(13) ويشير مفهوم الحضرية Urbanism الى اسلوب معيشة سكان المدن من حيث ثقافتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وقيمهم وغيرها التي فرضتها ظروف عيشهم المشترك ضمن المدينة الواحدة.

(14) “جيران في عالم واحد”, نص تقرير “إدارة شؤون المجتمع الدولي” وسلسلة عالم المعرفة، الكويت 1995, ص 49 – 50.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024