الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجبر والأختيار والحرية في التكليف

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2017 / 7 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الجبر والأختيار
والحرية في التكليف


يعبر عن عذه القضية أيضا بمصطلح (الحبر والتفويض) في الأدب الفكري الإسلامي، ممضمونه أن الجبر حالة إلجائية قهرية تستند على زعم أن (أن الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها والامتناع منها، وخلق فيه المعصية كذلك)، أما النظرية المعاكسة والتي تتبنى مضمونا ضديا عن مبدأ الجبرية فتقول (هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول ينسب عادة لزنادقة الرأي وأصحاب الإباحات المطلقة).
أصل المجادلة في الموضوع يدور حول قدرة الإنسان أن يؤمن بقضايا أرادها الله ورغب الناس فيها على أنها بعض ما يصلح وجودهم، فالله يرسم الخريطة الوجودية لها بناء على علمه لا بناء على رغبة الإنسان ثم يجعلها في مضمون محمول فكر ديني للتذكير بها دوما، على أن يترك الإنسان في حريته يختار منها ما يثبت أما إيمانه بالضروري الطبيعي العقلي الموافق للمحمول النقلي أو يكفر بها، مع أن الله لا يترك الأمر خاليا من قرار نهائي يميز بين الخيارات ونتائجها وفقا لما طلبن منا أن نتذكره ونتعقله {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الجاثية22.
إذن الأمر هنا يعود بمجمله لمفهوم كون الله عادل في ما يريد ولا يكلف الإنسان خارج ما تكيف وتكون عليه العقل الإنساني، إذن هي جدلية العدل والظلم ولا علاقة لها بما كان أو يكون على أنه مكتوب أو مقدر أو أنه مجرد أستجابة لقوة الغيب المكنون الذي لا تفسير له، يقول المستشار محمد سعيد العشماوي في بحثه للموضوع من زاوية العلم فقط، أن الجهل بالقوانين الطبيعية ومتبنيات العلم المجرد نتاجه أن نؤمن بالقضاء والقدر على أنه من المعجز الإدراكي (محاولة التوفيق بين متعارضين هي إرادة الله المطلقة وعمل الانسان الحر، وهي مشكلة لا تحل إلا بإلغاء أحد طرفيها، وقد رفض الفلاسفة والعلماء صورة لله مادّيه مقصورة ضمن العالم المادي، فقالوا ان الانسان حر وأنه هو الذي يسيطر على أقداره، ورفض آخرون هذه الحرية وتعلقوا بصورة اله مادي، ليس كمثله شئ، في نطاق العالم المادي، لكنه لا يخرج عن المادة التي لم يستطيعوا تصور غيرها، وبذلك انتهوا الى ان الانسان مجبور على ما يفعل مقهور فيما يقوله، وهو ما انتهي بهم الى تصوير الجزاء على انه بلا قاعدة وانه من إطلاقات الله) .
ترواح اليقين الفكري التراثي بين حتمية الألجاء كونه أمر مرادي مقصود في حد ذاته، وبين أنه جزء من الحقيقة الغير قابلة للتأويل من جهة{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}الإنسان 30، وبين من يرى أن الله يضع الشروط والأحكام والإنسان هو الحر في أن يأخذ بها أو يحاول الأبتعاد من دائرة الألتزام لأن مراد الله خياري{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} الكهف29، وكل منهم له تبريره وسنده النصي المأول وفق متبنيات العقيدة الذاتية، السؤال هل من الممكن الجمع بين الفكرتين بحيث لا نثبت تعارض وتقاطع وأن كل منهما تدور في فلكها الخاص.
إذن الموضوع من الظاهر المحمول فيه تعارض بين ما يشاء وما نشأء وبالتالي حقيقة التعارض موجوده، وعندما نقرأ نص قرآني ونتدبره بإمعان ونحاول أن نلج في قصدياته الدلالية نكتشف أن الإنسان في ناحية ما يكتسب هو حر ومسئول عن خيارة ومطلوب للمحاسبة إيجابا وسلبا {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}المدثر38، ولكن قبل أن يكون الإنسان رهين بعمله، هل هناك مقدمات لجعل الكسب يسير وفقا للطريقة التي جرى فيها؟ السؤال ذاته هو متعلق بنص {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}الأنفال 23 .
القائل يقول أن الكافر مثلا أن الله بعلمه الخاص علم أن الشخص المعني لا يستجيب وهو الذي منع عنه فرصة أن يثبت العكس وبالتالي فإن جزء من إرادة العصيان للكافر لم تتحقق بأفتراض أنه (قد) يستجيب فهو محكوم بتقرير أولي، هذا التقرير هو حكم سابق للكسب من جهة وبما يعني من إجبار غير مباشر، وبين أنه لم تتحقق له الفرصة المتساوية مع أقرأنه ليثبت أنه متساو معهم مما يخل بالعدل الرباني.
في نص أخر نجد تناول الموضوع في محمله يتجه إلى مراد قصدي أخر، قد يكون متعارض من النص والفهم السابق {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}الإنسان3, هنا الله يهدي أي يمنح الجميع نفس الفرصة بكونهم جميعا إنسان مجرد من عنوان ما, هذا العنوان هو لأساس في نتائج التقرير والحكم، فالإنسان بحكم كونه مخلوق بعقل فهو مجبور من جهة أنه يملك العقل أن يستدل بصورة ذاتية على ما هو ضروري وما هو طبيعي، هذا الجبر يسمى الجبر التكويني.
هذا الجبر التكويني هو سلسلة من الإرادات المتتالية والمتصلة مع بعضها ربطا بالعلية الأولى، فهو كائن مخلوقا جبرا عنه حينما ان لا شيء بمعنى لا يملك صفة الشيئية بعامة والمقررة بخاصة {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}مريم67، ثم بعد ذلك جعله عاقلا أي قابلا لأن يتحمل مسئولية وجود العقل، لذا وصف الدواب بعدم العقل تميزا لها عن الإنسان الممنوح عقلا {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}الأنفال22، بعد أن منحه العقل جعل هذا الكائن المجعول محل خطابه وتكليفه وبالجبر محل ومستوعب الهداية دون غيره من مكونات الإنسان {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }البلد10.
لهذا الحد كان الإنسان مجبرا وتحت الإشاءة الربانية التي لا تقوم معها أي أشاءة أختيارية للإنسان، لأنه كائن ولد هكذا إنسان عاقل ومتعقل للضروري والهداية وقادر على التمييز بين خيره وشره، فلا يمكن بعد ذلك أن نسند له أو عليه صفة الجبر فيما يتعامل معه على أنه جبر حتى تنتهي حياته جبرا، تبقى هناك قضايا محكومة بغيبتها على أنها من القضاء والقدر تفسر كذلك ليس لأنها فعلا في ذات الدائرة، ولكننا في الجانب الأخر منها، جانب الجهل أو عدم العلم بالعلة والسبب كما في الأرزاق أو ما يعرف بحكم الصدفة المحضة.
من القاعدة السالفة يمكننا فهم ما تناقض من مفاهيم ظاهرية بنيت عليها أفكار كلية دون ربطها بسياقها ومن ثم أستخراج الفهم التام منها، الله خالق بإراده وهو الذي يشاء ما يريد وفقا لعلات قد لا ندركها بموجب القراءات اللا سياقية، ولكن حينما نعود للمنهج ونبني أستقراءاتنا للفكرة ذاتها، نستنبط أن أساس كل ندركه نتيجة كسب الإنسان وعمله وتخطيطه مبني على إشاءة وإرادة الإنسان لا على إشاءة الخالق بمعزل عن عقله ووعيه.
الحرية إذن تتجلى في هذا المضمون ومنها يمكننا أن نبلور فكرتها من الفهم السابق من قراءة النص الديني معا، النص ذاته عندما يطلب من الإنسان إحداث فعل أو الأمتناع عن فكرة أو عمل أو صورة يمكن أن تحدث في لحظة ما، إنما يمارس دور القانون الوضعي في دائرته الخاصة، الفرق بين دائرة القانون ودائرة الدين أن الدائرة الأولى تقرر الجزاء بشرط الحدوث مجردا من كل رابط أخر وحتى على الشروع فيه، بينما النص الديني أيضا يشترط الجزاء بتمام الفعل لكنه مؤجل لرابط أخر وقد يستطيل المنح الزمني بأنتظار التوبة والرجوع عنه، هذا الفرق مهم في منح مدى الحرية مجال للتجريب طالما أن باب العودة مفتوح لبداية جديدة قد تزيل جزاء المخالفة وتلغيه أيضا.
الدين يفهم النظام الحياتي وفقا للمعادلة التالية أمر أو حكم يتبعه ألتزام أو تفريط يرتب جزاء وثواب ما، لكن لا يشترط أن يكون الجزاء معجلا بالحدوث، إنه يسترخ ويرخي لنا الأمر طويلا أما لإعادة فهم التجربة ومن ثم التقرير النهائي، أما المضي في النتيجة أو أستكشاف الخطأ ثم العودة عنه، وبذلك ترك لنا الحرية مرة أخرى في أن نعالج مشاكلنا وفقا لتطور الوعي بالقضية ومن ثم فهم مركب لها وتلمس النتائج، أما القانون فهو صاحب التقرير المعجل بلا حتى أدنى فرصة للنقد أو التراجع عن نتيجة الفعل.
الحرية في نظر الدين ليست أن تفعل ما تشاء مع تحملك مسئولية الفعل سلبا وإيجابا، وإنما أيضا أعطت بعدا أخر لم تدركه كل الفلسفات والأفكار الوضعية حينما منحت حقك في خيار التجربة بناء على قدرتك على النقد الذاتي بوعي، فليس مهما أن تؤمن بحقك في الحرية بل أن تراجع هذا المفهوم في كل مرة تخوض فيها تجربة من طراز خاص، الحرية في الدين متواصلة ومتجددة ومستعدة لأن تمنحك القدرة على التصحيح.
فحتى الحرية في ما تفهمه الفلسفة الحضورية ترتبط قضيتها بالإرادة والمسئولية، فلا حرية بلا إرادة ولا إرادة بلا مسئولية، من هنا مثلا نجد من يربط الركنين في أطار فكري واحد (يرتبط مفهوم الفلسفة في التخلّص من الإكراهات المختلفة، سواء كان لها طبيعة بيولوجية، أو اجتماعية أو نفسية، ونظراً لكل هذه الجوانب المتباينة، والتي يستند عليها مفهوم الحريّة، فإنّ تحديد المفهوم يضع العديد من الصعوبات، فإذا كانت خصماً للحتمية، فهذا يعني أنّها ستُلقى في أحضان الصدفة، ولكن إذا كانت تخضع لسيطرة قانون ما، فهذا سيجعلها خاضعة لمفهوم الإرادة موضع التساؤل، بحيث أن الإرادة تتطلب الحديث عن المسؤولية، فبدونها لا يمكن السيطرة على حرية الإرادة، ويمكن التعبير عن هذه العبارات عن طريق عدد من الإشكالات الفلسفية) .
فالحرية وفقا لعموم الفهم الفلسفي ليست أن تفعل ما يمكن خارج ما يجب أن يكون متسقا مع طبيعة الوجود البشري المتكامل، بل هو التخلص من القهريات التي تمنحك القدرة أن تكون إنسان حقيقي، لكنها في ذات ليست قضية مطلقة مجردة عن أطارها الموضوعي الذي هو جزء من نظام الحياة، هنا مثلا نؤشر حقيقة عبر عنها الفيلسوف موريس ميرلوبونتي بقوله (أنّ الحرية شي نسبي لأنّ معرفة نظام الظواهر يوضح لنا أنّنا منسجمون ومندمجون مع العالم اندماجاً وثيقاً لا يمكن فصله، وبالتالي فإن الوضعية التي نكون فيها تلغي الحرية المطلقة عند البدء بالفعل وإنهائه، وهنا يمكن للإنسان إدخال تعديلات لها علاقة بالإرادة على وضعه الموجود) .
هذه التعديلات في ظل نظام محكوم بالقانون قد تكون فيه الفرصة ضئيلة للحدوث في النتيجة، ولكن يمكن تعديلها كفكر مستخلص عند الفرد أو الغير دون أن يتخلص من بقايا النتائج المعدلة، في الدين القضية ممكنة وأكيدة بالتوبة {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}المائدة39، التوبة في الحقيقة فرصة ثانية وسانحة لأجراء التعديلات الممكنة في التجربة وتصحيح السيرورة للحرية مرة وللإنسان مرات.
يمكننا أن نجزم بقراءة النص وفهمنا لموضوع الحرية والتكليف والجبر أن الدين مع خيار الحرية مطلقا، ولم يقيد الإنسان بالقهريات التي لا تتلائم مع قانون الوجود وضرورات النسبية في المحافظة عليه، أما كل ما نقله التراث الفكري الإسلامي عام والمحمدي خاص من تعارض بين الجبر والحرية وإلجائية التكيف لأن الله يشاء مجرد قراءة تدور في الفكرة الذاتية للقاريء، فالله لا يقول {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}الإنسان30، بمعنى أن لا تكونوا أحرارا (تشاؤون) إلا بعد أن توجودوا كوجود كامل بقهر خارج الإرادة البشرية بما يشاء الله أولا، فهو حرية وإرادة ومسئولية ترتبت عن أمر قهري ضروري وواجب حتى تمارس حريتك بعدها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - و ما تشاؤون الا ان يشاء الله
ايدن حسين ( 2017 / 7 / 13 - 08:48 )
استاذ علي .. تحية
قتل اصحاب الاخدود النار ذات الوقود
اذ هم عليها قعود و هم بما يفعلون بالمؤمنين شهود
لو أمنا بالجبرية .. فان الله هو الذي احرق المؤمنين في حادثة الاخدود .. لانه لا يعطي للانسان فرصة اختيار اعماله بل يفعلون ما يشاؤه الله بالضبط
لا يبقى لدينا الا ان نقول ان الانسان هو الذي يقوم باعماله بمحض ارادته
اذن ما الداعي الى الاية .. و ما تشاؤون الا ان يشاء الله
هل القران عميق الى هذه الدرجة .. لا اظن
بل هي تخبطات محمد .. و قوله الشيء هنا .. و قوله ضده في مكان اخر
و احترامي
..

اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #