الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الدار البيضاء الى عيون أم الربيع : حين يختلط جمال الطبيعة بتردي البنية التحتية

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2017 / 7 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



بسيارة صغيرة زرقاء من نوع بيجو 206 قررنا بمعية صديقي أن نخترق هذا المسار المتشعب الطويل، منذ مدة طويلة كان هاجسنا هو أن نكتشف المغرب، هذه ليست المرة الأولى التي نسافر فيها مع بعضنا، بل ارتطبت صداقتنا فعليا عام 2013، وقمنا بجولات متعددة في ربوع المغرب، فزرنا الأطلس المتوسط والريف والجهة الشرقية وغيرها من المناطق، منذ ذلك الحين كنا مسافرين افاقيين نؤمن بالتجربة الحية والمباشرة من خلال الملاحظة والتواصل مع الناس بطريقة عفوية وتلقائية، فبحكم أصولي القروية وتكويني الانثروبولوجي أعشق القرى النائية وأعشق الطبيعة حد الهيام، لذلك كان هاجسي على الدوام هو انغمس في الريف واصف وادون أحواله المعيشية من موقع المحلل العقلاني تارة ومن موقع العاشق تارة أخرى. توقفت رحلاتنا المشتركة لمدة سنة ربما لأسباب مهنية ولكن عدنا من جديد لكي نسافر مع بعض منذ أواخر 2016، في هذه الرحلة الأخيرة انطلقنا من نقطة الصفر على مستوى سطح البحر وبالضبط من الدار البيضاء، إن هذه الأخيرة لا تموت، تتميز بالحركية والعنفوان وضجيج السيارات يخترق الآذان، توقفنا في كورنيش عين الذئاب، والملفت أن الدار البيضاء تبدو كوسموبوليتية تجمع كل الثقافات وأصناف البشر من كل جانب ورأسمالية حين يتطابق ثمن البضائع في موروكو مول مع المعايير العالمية، والمرء حين يتمشى على الكورنيش ويلاحظ الملاهي التي تصطف على الشاطىء ويتناول جميع الأطباق العالمية في ماكدونالدز يشعر أنه تشرب الحداثة وغادر التقليد بلارجعة وكذلك حين يأخذ صورة مع الفيل الاصطناعي يشعر أنه سافر بسرعة إلى الادغال الأفريقية، كل شيء مصطنع، فما إن يخرج من هذه الأماكن ويعود هنيهة للتمشي على كورنيش حتى يلاحظ بائع الحلزون المتنقل و بائع الذرة المحمصة، وإن كان يتعامل بمعيار المكان الذي يتردد عليه السياح والغرباء، فالملاحظ أن القرية تخترق المدينة في المغرب والتقليد يسكن الحداثة، فهل هناك فرق بين انفجار قناة الصرف الصحي وانسياب المياه العادمة صوب شاطىء الكورنيش والمياه العادمة التي تخترق قرية سيدي بطاش النائية ؟ لا أجد أي فرق مطلقا، التقليد يسكننا على نحو فظيع والشكليات تطغى على جانب مهم من حياتنا، إننا تائهون في مسار لا نعرف أين نمضي ولا أين نسير، لا أريد أن أتحدث كثيرا عن الدار البيضاء، يمكنني أن أعود للكلام عنها في مجال خاص بها، إنها متاهة كبرى . في ذلك الصباح خرجنا من الدار البيضاء وتوجهنا صوب المحمدية (فضالة )، أهم مشكل تعاني منه المحمدية هو التلوث، بالإضافة إلى عدم رعاية المناطق السياحية، فكل مياه الصرف الصحي تصب في وادي المالح او في البحر، مع العلم أنه كان الأجدر أن ترعى جيدا هذه المناطق السياحية وخاصة في غابة وادي المالح تقبع مزبلة المدينة وغابة وادي النفيفيخ تفتقد لكل ضروب الرعاية، كان من الأفضل أن يهتم بهذه المناطق لما تذره من فوائد في تشغيل الشباب وتنمية المنطقة . لكن لا حياة لمن تنادي، لقد قال لي صديقي زيدان يوما : " إن المسؤولين يريدون أن يستفيدوا من مغانم المنطقة دون أن يخسروا شيئا، وهذا غير ممكن "، بعد أن صعدنا لمسافة 30 كلم، عرجنا شرقا صوب بنسليمان على طريق مزدوجة مجهزة بشكل جيد وسط غابات عذراء كثيفة وحقول العنب المتناثرة، بنسليمان عالم آخر في منطقة الشاوية، تصل المسافة بين المحمدية وبنسليمان إلى حوالي ثلاثين كلم على أرض منبسطة تتخللها بعض التعرجات، ولكن أينما وليت وجهي ينتابني اللون الأخضر الذي افتقدته في الدار البيضاء . حين وصلنا إلى بنسليمان كانت المدينة خاوية على عروشها، أغلب الحوانيت مسدلة، كنا في يوم جمعة من يوليو، الحرارة مرتفعة جدا والمارة نادرون على الأرصفة ويجلسون جماعات في المقاهي وعيونهم مصوبة كبندقية نحو كل أجنبي أو غريب، هناك ثكنة عسكرية في المدينة وأغلب العائلات يشتغل أبناؤها في الجندية، هذا هو هاجسهم جميعا، لأن جذر المدينة هو "القشلة" أي الثكنة التي أسسها الفرنسيون عام 1907 وكانوا يسمونها بكامبولو اسم الضابط الفرنسي الذي قتل في أحد المعارك المحلية ابان دخول الفرنسيين إلى المنطقة، بدون هذه المعركة الوحيدة التي لا نعرف عنها شيئا تبقى بنسليمان عارية يستبيح شوارعها أسماء القواد المتوحشين الذي نخروا المنطقة بتسلطهم منذ أمد بعيد، مازالوا متفرسين كالأشباح المخيفة، كالهياكل المقعقة التي لا حياة فيها، لكن موتها يجعلها حياة بحضورها المستدام في أفكار وسلوكات السليمانيين، رغم أن الخدمات متردية والبطالة متردية والحكرة تنفذ إلى الأعماق وحين تعلن عن وقفة احتجاجية لا ترى خلفك سوى الفراغ، إنهم مجبلون على الصمت والنوم، ما رأيت في حياتي مدينة صامتة صمت كمدينة بنسليمان، لكن ذلك يبعث الكآبة والملل، فلا نوافذ الأمل في هذه المدينة الكئيبة والمملة. تناولنا كوب شاي وقليل من الخبز المحشو بالجبن والبيض، جلسنا لبرهة واستقلينا السيارة، فغادرنا الطريق الاقليمية رقم 313 وأخذنا الطريق الجهوية رقم 404 المتوجهة إلى الرماني، تصل المسافة بين الرماني وبنسليمان إلى حوالي 70 كلم، توجهنا شرقا وبعد أن قطعنا مسافة 15 كلم من بنسليمان لم ينتابنا شيئا، الأرض منبسطة وتلاحظ على مسافة أراض زراعية وعلى يمينك تتفرس صخرة الحجيبة التي يصل علوها إلى 200 متر واسفلها يربض السجن المحلي المتاخم للسوق الأسبوعي الذي تسكنه الطفيليات واللقالق وأسراب الغنم، بعد ذلك دخلنا في دوامة من المنعرجات كأننا في الأطلس الكبير مع العلم أننا في هضبة بنسليمان التي تتميز بغابات كثيفة التي تتكون من العرعار والفلين وغيرها من النباتات، غير أن الملاحظ أن المياه السطحية منعدمة تماما، مررنا على وادي الشراط وهو واد يبلغ طوله حوالي 70 كلم ويصب في المحيط الأطلسي شمال بوزنيقة، لقد صار وادا جافا صامتا تخترقه جلجلات الزرزور، المنازل في هذه الربوع القصية مبنية بالتراب وفاقدة لكل معالم الحياة، يتعاطى الأهالي تربية الماعز والأغنام، أما خارج الغابة فهناك تربية الدواجن والأغنام في الحضائر وخاصة قرية سيدي بطاش التي تتموقع على هضبة منبسطة، لكنها قرية مهملة ويخترق شوارعها الماء العادم الذي يترك رائحة تزكم الأنوف . واصلنا طريقنا في اتجاه الشرق، خرجنا من إقليم بنسليمان وتوجهنا صوب مرشوش، اخترقنا من جديد الغابة الكثيفة والطريق المتعرجة والمطلة على حافة خطيرة، الطريق شبه فارغة، كنا نمضي في صمت موحش وسط الغابة العذراء، استرحنا قليلا في عين "الصبيب" أو عين "الودح" التي تقع على مسافة قصيرة من قرية مرشوش، وجدنا أطفالا شبه عراة يستحمون في صهريج للماء أسفل شجرة فارعة، هناك استرحنا قليلا، ثم واصلنا سيرنا. تعتبر مرشوش قرية صغيرة تسكنها قبائل زعير وتتوقع على هضبة منبسطة تجعلها تطل من بعيد على الرماني الواقفة على غور عميق. بلغ عدد سكان مرشوش حوالي 11 ألف نسمة خلال إحصائيات 2014 ولا تبتعد كثيرا عن الرماني والوصول يكون من خلال اجتياز منحدر طويل يتعقبه اجتياز واد المشرع وهو أحد روافد واد أبي رقراق إلى جانب واد كرو حيث تلتقي هذه الوديان الثلاثة شرق عين عودة مشكلة سد محمد بن عبد الله . حين وصلنا إلى الرماني توجهنا جنوبا عبر الطريق الجهوية رقم 401 صوب الزحيليكة، بعدها انحدرنا شرقا نحو مولاي بوعزة وسط جو مشمس وخانق وأعلى الطريق لاحت كتل من الصخر الضخم المتناثر، اجتزنا وادي كرو، كان شبه جاف ومياهه داكنة ملوثة وعلى ضفافه يرعى الماعز وتحت أشجاره الوارفة كان الرعاة في نوم عميق ويضعون إلى جانبهم عدتهم التي تحوي المياه والطعام، نحن في الشاوية نسميها " بالموزيط" . شعرنا بطول الطريق من أيت رحو الى مولاي بوعزة واكلموس، اركبنا شابا وجدناه في الطريق متوجها إلى بوكلموس، كان الحوار شيقا، تأسف كثيرا على غياب الشغل بالمنطقة وتأسف أكثر على مغادرته المدرسة، يقول أنه لا وجود لمقاولات أو مصانع، والناس تعيش على تربية المواشي في تربة الصنصال القاحلة حيث لا تساعد على الزراعة رغم وجود الآبار على مسافة قصيرة، يؤكد الشاب أن كل شباب المنطقة رحلوا للعمل في مناطق بعيدة من المغرب ولكن هو يفضل البقاء مضطرا لأنه له أسرة يعيلها رغم قساوة الظروف، كما تأسف على تبعية اكلموس لبني ملال لأن المسافة طويلة بينهما والتي تصل إلى 147 كلم، كيف لمن يريد أن يتطبب ويدرس أن ينتقل هذه المسافة كلها وحتى إذا عثر على وسائل النقل ؟ نتغنى بالجهوية الموسعة دون أن نكون قادرين على بلورتها واقعيا، إن الشاب القروي يتحسر على مغادرته للمدرسة ويحث الشباب على التمسك بالدراسة، يقول أنه لم يجد من يوجهه وعرف قيمة الدراسة حين أراد الانخراط في الجندية فوجد أن مستواه هو السادس ابتدائي وهو المستوى الذي لم يساعده في الدخول إلى هذا السلك، فشعر بخيبة كبيرة جدا . غادرنا اكلموس في الثالثة بعد الزوال، على شارعها الرئيسي لفتني مقر حزب الاتحاد الاشتراكي لم أر يوما هذا الحزب قاد وقفة من أجل تنمية القرية، ربما هو موضوع كديكور ليس الا . تسكن خنيفرة بين الجبال وعلى تربة حمراء ويخترقها وادي ام الربيع الذي يبلغ طوله حوالي 600 كلم وينبع من 47 عينا تقع بحوالي 25 كلم عن مدينة مريرت . حين وصلنا إلى خنيفرة تناولنا وجبة غداء واسترحنا قليلا وبعد نصف ساعة توجهنا شمالا عبر الطريق الوطنية رقم 8 صوب امريرت وهي مدينة تبتعد عن خنيفرة بثلاثين كلم تتموقع في قلب الأطلس معظم سكانها امازيغ ومن أبرز قبائلها ايت عبد الله وصل عدد سكانها سنة 2004 إلى 35 ألف نسمة ولها جامع كبير بني منذ الثلاثينات من القرن الماضي وبالقرب منها مدينة قديمة بنيت في العهد الموحدي، يستعمل القرويون في هذه المنطقة الوعرة البغال وعلى جنبات الطرق نجد المغروسات وعلى المنبسطات بعض الحقول الزراعية كالذرة والحصيدات المتناثرة . لما بلغنا مريرت توجهت بنا السيارة شرقا عبر الطريق الاقليمية رقم 7304 وسط منعرجات ضخمة وبعد مدة قصيرة لاحت عيون الربيع : منازل متواضعة مبنية بالقش، في طريقنا صادفنا أطفالا بالبسة رثة تعتريهم الهشاشة والفقر . يجرون حفاة يحملون البنادير ويبيعون اللبن والنعناع على جنبات طريق مغبرة ومنفرة، بعض منهم يتسول ويحتاج للمال، ربما عائلاتهم البائسة هي التي دفعتهم إلى ذلك، الأولاد مجرد مشاريع اجتماعية لم يولدوا غاية في ذاتهم وانما وجدوا بسبب نزوة جنسية أو بسبب مساعدة أوليائهم كحال الطفل الذي التقيناه يساعد والده، لقد غادر المدرسة بسبب الفقر، الفقر المادي يعطينا فقرا فكريا، عموما عيون ام الربيع جميلة طبيعيا ولكنها بائسة اجتماعيا، ومسؤولو المنطقة اهملوا تنمية المنطقة والخسارة الكبرى هي اهمال الرأسمال البشري . هذا ما يجب التفكير فيه من أجل أي ثورة فكرية .

عبد الله عنتار / 15 يوليو 2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا تعنى تقنية الاستمطار؟ وما علاقتها بالأمطار التي أغرقت ا


.. استمرار الاحتجاجات الطلابية الأميركية المؤيدة لفلسطين




.. حديث السوشال | مطالب بإلغاء عيد الأضحى بالمغرب يثير جدلا


.. نشرة الرابعة | أمطار متفاوتة على عمان.. ووصول أول رحلة مباشر




.. نشرة الخامسة | قطر تراجع موقفها من الوساطة.. وقانون رواندا ي