الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين في زمن الكوليرا

سامي عبد العال

2017 / 7 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هذه المرة تأتي الكوليرا دون حبٍ بخلاف عنوان الرواية الأشهر لجارسيا ماركيز(الحب في زمن الكوليرا). تأتي وهي تدمر مظاهر الحياة الإنسانية في اليمن السعيد!! فهل مصادفة أنْ تخترق الكوليرا أجساداً نحيلة هي أغلب الشعب اليمني، وبالوقت نفسه تأكل بلادَّهم حربٌ ضروسٌ بين أطراف اجرامية ؟! لقد استغل الفيروس البيولوجي وجود الفيروسات الأيديولوجية التي تحرك المعارك من الجوار(العربي الوهابي× الفارسي الشيعي). وأخذ في الانتشار تاركاً وراءه رُكاماً من الضحايا. ناهيك عن آلاف المصابين والهائمين وراء التعافي من لعنته القاتلة.

بحسب تقديرات دوليةٍ: يعيش قرابة العشرين مليون شخص على المساعدات. وسجلت وزارة الصحة اليمنية بالتعاون مع الصليب الأحمر أكثر من خمسين وثلاثمائة ألف حالة إصابة وأكثر من ألف وسبعمائة حالة وفاة.... وما زالت نسب التقديرات لا تتوقف.

ذلك الوضع الباثولوجي ( المرضِّي ) أظهر انهياراً لمنظومة الصحة والمياه والغذاء في المجتمع اليمني. وسط انعدام أيَّة بنية أساسية خاصة بمصادر المياه النظيفة والصرف الصحي والخدمات الإنسانية. وطبعاً لا تختلف ظروف تلك الدولة عن باقي الدول العربية إلاَّ في الدرجة. بدليل أنَّه قد ظهرت الكوليرا بالأمس القريب في المجتمع العراقي الذي تخيم عليه حرب الطوائف والمليشيات.

لعلَّ مضيقَ " باب المندب" اسمٌ على مسمى. فكل الويلات السابقة تؤكد أنَّ التسمية ليست اعتباطاً. باب المندب هو باب اليمن على العالم كلِّه. أصبح لافتة لتلك المنطقة المنكوبة وقد تحول إلى واقع صارخ يندب أوضاع دولته التي أمست كارثة في إقليمها شمالاً وجنوباً.

هل هذا زمن القحط والجوع والخوف والعطش الأسود باسم العروبة والإسلام؟! إنَّه لعار ما بعده عار على الوجوه التي تشاهد ولا تفعل شيئاً. والعار المضرَّج بالوقاحة سيلتهم هؤلاء الذين يمزقون شعباً عارياً حافياً ثم يستنطقونه تحت الحاجة بأنْ يؤيد التدخل العسكري!! ويجعلونه ينتظر اللقيمات والهبات الملكية والأميرية داخل أجولة وعبوات مدموغة بأختام مقدسة. ثم تعتبرها الفضائيات الموالية إغاثة لا ثمناً، رحمةً لا شراءً للجراح، نهوضاً من الكبوة لا إذلالاً، مساعدةً لا قهراً، بناءً لا تلطيخاً للكرامة !!

وذات الشأن حدث عندما انهالت الأسلحة الفارسية على الحوثيين وتقوية أوضاعهم بلاهوت الحروب الشيعية كما أظهرت لافتات المحاربين ومركباتهم على الأقل. وهاهم الأخرون كجماعة ينتظرون المساعدات والمعونات من مصادر بعينها.

حالاً سنعرف أنَّ الكوليرا ليست إلاَّ مرضاً خفيفَ الوطأة مقارنة بالكوليرا الدينية. عندما يتم تتدين الصراع عبر دولة لا ناقة لها ولا جمل في تقاتل من هذا النوع. وأنَّ القراءة البعيدة للأحداث ستطلعنا على كون المعتقدات الدينية عندما تدخل عباءة السياسة تفتك أقوى من جميع الأمراض. وهذا هو المعنى العميق للكوليرا صناعةً واستعمالاً في حسم الخصومات السياسية. وكأنَّ الكوليرا كفيروس حضر عرضاً في الأجساد اليمنية الهزيلة ليبرهن على فصائل دينية منها أشد شراسة.
إذن من الذي يقتل في اليمن... كوليرا الدين أم فيروس الكوليرا المعروف؟!

من تلك الزاوية تعتبر اليمن مأساة حية ( أو ميتة ) على ظهر الإنسانية الراهنة بامتياز صفيق. مازالت تعيش في تعاسة بحجم التاريخ الذي حمل اسمها( اليمن السعيد). أين السعادة وسط الكر والفر لسيقان مليئة بالعروق والجروح في الجبال والوديان والقرى والمدن؟ بإمكانك أنْ تلخص المأساة في المشاهد التي تكرر عرضها الفضائيات يومياً!!

أحدهم يجرجر رجليه نحو الخراب البادي أمامه باتساع البصر. وغيره يحاول الإمساك ببقايا قذائف تحت الأبنية المنهارة والأجساد البشرية الممزقة. ونساء يحملن أطفالهن لا يدرين أين يذهبن ولا كيف يتجنبن الخراب الساقط من الأعلى!! تحول الناس إلى أشباح، العيون والقوام والأذرع، والأفواه والصدور جميعها ملتصقة بلا لحم على العظم الهش. هل هؤلاء جثث متحركة تحمل البنادق والقاذفات داخل فوهات الجبال أم صور لهياكل تظهر وقت السراب؟! والأنكى أنك تسمع التكبيرات بعد أصوات المدافع والرصاص الحي. أيَّة تكبيرات مع رائحة الموت التي غطت القارات الخمس؟

اليمن هذا الجرح الذي مازال ينزف دون رحمةٍ. تشبه – مع كل تقدير إنساني لشعبها العظيم - غابة يركض فيها الناس ركض الوحوش في البرية. ورغم البطانة الدينية التي تؤسس لهذه العبارة إلاَّ أنَّها أقرب عبارة توصف الحال. لقد نال منهم التجويع والفساد والاستبداد ما نال من عدة مجتمعات بجملتها. واتصور أنَّ حال اليمن مؤشر الترمومتر الذي يقيس مستويات الانهيار العربي في عالم اليوم.

ودون انهاء الصراع وبناء الإنسان ونشر الفكر الحر والإبداع الإنساني فقد تصير الأمور إلى تدهور مزمن. ودون ترسيخ أطر الدولة ومؤسساتها وآلياتها ومفاهيم المواطنة وتأكيد الحقوق الإنسانية والعدالة فلربما يتسع نطاق الفوضى. اليمن يحتاج إلى وقف العنف فوراً والرجوع إلي الحياة الطبيعية. بجانب ذلك ضرورة معالجة المشكلات في حدود التماسك الداخلي وتاريخ المجتمع. واختراع أهداف سياسية وتنموية عامة تؤدي إلى الالتفاف حولها.

هنا بدت الحرب هي الكوليرا الحقيقية التي حلت بالبلاد. ولكن سبقتها وتبعتها ( كوليرات ) مختلفة. فالحرب اليمنية - السعودية قائمة على الصراع الأيديولوجي كما ذكرت. على اعتبار استمرارية التحارب التاريخي بين السنة والشيعةً برغبة الطرفين. وبالتالي أتت الوهابية بشعار الحوثيين أصحاب المليشيات ضد الدولة غير الموجودة أصلاً. والتي أُرهقت وتمزقت نظراً لكونِّها قد خرجت للتو من ربيع الفقر. إذ كانت قبيلة صالح تهيمن على " الثروة والسلطة والسلاح". وعندما اُجبرت على الانسحاب من المشهد لم تكن تلك هي اللقطة الأخيرة للخلاص من النظام السابق!!

هكذا كان ثمة فيروس أصيل في المشهد: كوليرا الدين السياسي. وظل صالح طوال فترة حكمه يربي وحشاً أمام الوحش المجاور. وحش الحوثيين كطائفة بأنياب لاهوتية شيعية في مقابل الوهابية السنية التي تتربص به. والكوليراتان تتمددان في آسيا العربية إلى أبعد نقطة. وحكومة الوهابية ما إنْ سقط عبدالله صالح حتى أخذت في تحسس اليمن كاملاً كدولة بها انفجار شيعي لا محالة. وحاولت نزع صالح من كرسي السلطة وهي تعلم أن برميل البارود سيشتعل عما قريب. لدرجة أنَّ الوهابية ضخت – قبل عواصف الحزم الدينية- أموالاً ضخمة لتسيير دفة الحياة نحو التغيير المباشر. وتمَّ الاستعاضة بحكومة جديدة ورئيس جديد (عبدربه منصور هادي) والذي مازال يجلس جلسته الوثيرة والواثقة أينما ذهب!!

لأنَّه من جانب كوليرا الدين يستطيع المضاد الأيديولوجي ( الوهابية) الإحساس بأعدائها هنا أو هناك. لقد كانت الوهابية ذكية في تحويل عنوان الصراع المسلح إلى عنوان ديني منذ تدخلها. وكذلك فعلت السياسة الفارسية بترسانتها الدينية ومجمل الخطابات التي تدعمها.

وهنا يجب ابراز عدة نقاط مهمة.
1- تمَّ إحياء ذاكرة الصراع السني الشيعي إلى حد الهوس. وهي ذاكرة تنحاز في الأدبيات التراثية لصالح السنة. بحكم المساحة الواسعة من البشر المنتمين إلى هذا المذهب. وبفضل التداول الخطابي للكراهية المسيَّسة تجاه الشيعة. لقد رُسمت صورة مجنونة لهم باعتبارهم كارهين للصحابة وشاتمين لهم ومعتدين على طهرانية السلف الصالح. كل هذا صُهر في آلة دعائية تطلق فتاوى القتل والتحريم وإنكار الوجود الشيعي مهما يكن. بالمقابل كانت إيران تتدخل عن طريق دعم الحوثيين بالسلاح والعتاد. بينما تركت الخطابة لرموز سياستها في المنطقة مثل شيوخ حزب الله والمرجعيات الدينية أثناء المناسبات والطقوس.

2- وُسع نطاقُ المواجهة من خلال التحالف العسكري بين مجموعة من الدول العربية دعماً ومشاركةً وتأييداً. وباختلاف المواقف جاءت أخبار الحرب لتعم أرجاء العالم العربي. بينما اختفى الوضع اليمني الخاص حتى تقزم. ومعه ضاعت حقيقة الأحداث عن قرب. ولم تكن هناك تغطية اعلامية لأحوال الناس العاديين ولا لسير الحياة اليومية. فلا صوت عربي يعلو فوق صوت المعركة. بينما هو في الواقع (لا صوت يمني يستغيث) يعلو فوق صوت الرصاص!!

3- بدت الوساطات التي تدخلت تليفزيونية وحسب. ولا تجد هناك دعماً لإنهاء الحرب. نظراً لتمسك كل طرف بمواقفه المحسومة أيديولوجياً تاركين الموضوع للإنهاك والنفس الطويل.

4- الحرب أفضل الوسائل لتخريب العقول. لأن الكل سيقتل الكل حتى وإن كانت أطافها معروفة. ففي مجتمع قبائلي كاليمن لن تكون هناك قوة محايدة. لأنه ما أسهل إدخالها في المعادلة.

5- تأخرت آفاق الحسم والانتهاء من العمليات العسكرية. وهو ما فتح المشكلة على المجهول. سواء بتدعيم موقف الحوثيين أم بزيادة التدخلات الإيرانية في المسألة. ولا يخفى على المتابع دخولها ضمن دائرة الصراع الدولي حول منطقة الشرق الأوسط. فهناك منظمات دولية باتت تكرر الحديث عن انتهاكات القانون الدولي وعن الأوضاع الإنسانية وعن جرائم الحرب في اليمن.

6- طرح الصراع كيف سيتم كنس الأدمغة وإعادة تشكيلها من جانب الطرفين؟ حيث تناثرت الأخبار عن الخوف من برمجة الحوثيين للأجيال القادمة بواسطة مناهج دراسية تؤكد على عقائدهم وسياساتهم ومواقفهم. ثم جاءت ذات الأخبار لتؤكد على ضرورة معالجة المشكلة بمناهج وهابية مضادة في الخلفيات والرؤى والمعارف التعليمية... أين الاختلاف إذن، أين الإنسان؟

7- الأيديولوجيا الدينية غطت الواقع اليمني. جعلته مقبرة وأفرزت كراهية مضاعفة لأطراف الصراع الدائر. والمفارقة أن الصراع كان خارجياً ثم سرعان ما شق اليمن نصفين بالعمق من علاقاته وقبائله وأنسابه وقراه وأقاليمه. واضحت خريطة الأحداث أيديولوجية قبائلية بذات التمترس الديني.. لأنَّها القوة التي تؤثر وتتكتل إلى قصى حدٍّ.

8-أَلاَ يحق للرأي العام العربي والعالمي أنْ يعرف: ماذا يحدث في اليمن؟ وما هي المصادر الموثوقة التي يمكن معرفة طبيعة الأمور من خلالها؟ فالوسائط المتاحة ضاعت نزاهتها بين مؤيد ومعارض ومستغل وبائع ومشترٍ شيعة وسنة. مما جعل الكوليرا لا تخطف الأجساد فقط بل تخطف الوعي أيضاً.

9- كيف يمكن لليمن كمجتمعٍ أنْ يخرج من فكي الكماشة الوهابية- الشيعية؟ من الذي يستطيع إعادة اليمن إلى نفسه مرة ثانية؟ وهل هناك آفاق للحلول الإنسانية بعيداً عن انحيازات من هذه النافذة الدينية أو تلك؟

10- ينبغي الانتباه إلى استحالة ابتلاع الدولة – أية دولة- من قبل جماعة ولا فئة ولا قبيلة ولا قطاع شعبي. كيف ستهضمها هذه الكيانات؟ إن محاليل أيديولوجيا الدين لن تنهي الكوليرا بل هي المرض نفسه. لأنَّ عملية الهضم بمساعدتها تحول دون بناء مجتمع شامل لكل الناس بلا فرزٍ طائفيٍّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اليمن الحزين
أبو هاشم ( 2017 / 7 / 17 - 11:28 )
الوهابية وآل سعود دمروا الأخضر واليابس في اليمن. لا نريد مساعداتهم ولا طعامهم.. نريد من هؤلاء الأفظاظ البعد عنا.... النصر لأحفاد بلقيس وحضارة سبأ

اخر الافلام

.. بعد 40 عاماً من تقديم الطعام والشراب لزوار المسجد النبوي بال


.. الميدانية | عملية نوعية للمقاومة الإسلامية في عرب العرامشة..




.. حاخام إسرائيلي يؤدي صلاة تلمودية في المسجد الأقصى بعد اقتحام


.. أكبر دولة مسلمة في العالم تلجأ إلى -الإسلام الأخضر-




.. #shorts - 14-Al-Baqarah