الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-شال أحمر يحمل خطيئة -نصوص لا نسوية--

سمير الأمير

2017 / 7 / 18
الادب والفن


"شال أحمر يحمل خطيئة "نصوص لا نسوية"-
قراءة فى قصص "سعاد سليمان" *
بقلم/ سمير الأمير
لم أعتد على حيادية تناول النصوص الإبداعية بمنأى عن مبدعيها أو تناولها بغض النظر عن رؤيتى للمبدع ذاته كنص، لذلك لا أبالى كثيرا حين يتهمنى أحد بأن قراءاتى للنصوص مشوبة بالذاتية، على العكس لا أعير أدنى اهتمام لعمل لا يدل على صاحبه وربما أتشكك فى مصدره وغالبا ما تتأكد شكوكى فأكتشف أن الكاتب نهل من ينابيع ليست ينابيعه، وغالبا ما يترك " المنتحل" أثرا يدل على جريمة انفصاله عما يكتب ويكون هذا الأثر كافيا للانصراف عنه، قرأت قصص وروايات إدريس ومحفوظ والقعيد وصبرى موسى وسهير المصادفة ورضا البهات وأحمد صبرى أبو الفتوح وصنع الله إبراهيم وحنان الشيخ وأحلام مستغانمى وغيرهم باعتبارها رسائلهم فى الحياة، وتعاملت معها سواء بالانفعال بها فقط أو بالانفعال بها والكتابة عنها باعتبار رؤيتى لها تشكل جانبا من رسائلى فى الحياة أيضا، ومن البداية أقول أنه لم تكن لى علاقة قوية بما تبدعه "سعاد سليمان" قبل هذه المجموعة التى لم تبادر هى بإهدائها لى وإنما طلبتها منها مدفوعا بالرغبة فى التعرف على النص الإنسانى لسعاد سليمان تلك المرأة التى تحمل ملامح شديدة المصرية وتجلس على المقاهى الأدبية بالعاصمة محاطة بأصدقاء يصغون لها بسعادة، هذا بالإضافة لاطلاعى على بعض ومضاتها القصصية القصيرة جدا والتى أغرتنى برغبة قراءة نصها هى كإنسانه من خلال الإطلاع على نصوصها الإبداعية، ولعل غلاف المجموعة القصصية يؤكد ما ذهبت إليه من ارتباط بين نص الكاتب كآدمى من لحم ومن دم وبين نصوصه ككلمات وحروف فقد حمل الغلاف اسمها فوق عنوان المجموعة وببنط مساو إن لم يكن أكبر، إذن فلن نقرأ هنا نصوص سعاد سليمان فقط وإنما سنقرأ سعاد سليمان ونصوصها معا
أعترف أيضا بأننى توقعت أن أقرأ نصوصا نسوية تشبه نصوص هذا النوع من (المبتدعات) اللائى يحلو لهن تناول القضايا النسوية فى مواجهة مع هذا " الذكر" المتطاوس، القاتل، المغرور، الازدواجى، المنتهك ،المتحرش، المتسلط، الفارغ و الضحل إلى آخر ألفاظ الإدانة فى المعجم النسوى المقدس، لكن القصة الأولى خيبت توقعى فالبنت تخاطب أباها الذى خدعته أمها مع كل أصناف الرجال وحولته إلى مجرد " دورق فارغ" قائلة " أنت لون الحنان يا أبى، ولكنك لم تنتبه، مهرتك الصفراء التى اصطفيتها لا تليق بك" وسنلاحظ هنا دخول الرمز القصصى " الدورق فارغ" الذى يرمز لتفريغ المرأة للزوج من مضمونه ومن حقوقه فى نسيج القصة باعتبار أن الزوجة تستعمل " الدورق" بوضعه فى الشرفة كعلامة على غياب " الزوج" ليتثنى لعشاقها الصعود لمضاجعتها، إن سعاد هنا تؤكد على مخاصمتها لهذا الضجيج النسوى الذى يبرر خيانة المرأة بسطوة وتسلط الرجل، الإدانة الوحيدة هنا للأب على لسان ابنته أنه لم ينتبه " ولم يتوقف عقله دقيقة للتحليل والتفسير، إذن فهى إدانة لغياب الوعى، فقط لم استسغ كقارىء مخاطبة البنت لأبيها بعبارة" يختفى الدورق باختفائك"، إذ قام القص منذ البداية على فرضية ظهور الدورق باختفائه ومن ثم ناقضت العبارة الصورة التى حاولت القصة بناءها فى خيال القارىء منذ البداية، فالقصة جميلة واعتماد أسلوب مناجاة الابنة للأب عمق من فجيعة الخيانة ومن اشمئزازنا من الزوجة التى لم تدرك أنها خانت أمومتها وهى تخون زوجها، وسنلحظ أيضا أن الابنة حاضرة كمتكلم والأب أيضا حاضر كمخاطب بينما الزوجة هى حاضرة فقط كموضوع للحكى، أى أنها مستبعدة بإدانة البنت لها، فالبنت ترى أنها هى الغائب الحقيقى عن دورها كأم وكزوجة وهى تقنية بارعة جعلت السرد بليغا إذ طابق مقتضى الحال.
فى قصة " دموع فراشة" سنلحظ أيضا ما يؤكد رؤيتنا السابقة من أن الكاتبة/ البنت ( لا يهم ) تواصل تعلقها بالأب فهو الذى تتوجه له بالكلام أيضا وهو ما يشى " والله أعلم" بنظرة القاصة نفسها للأب كملاذ من انتهاكات العالم، تقول البنت فى قصة " دموع فراشة "" أكلوا نصيبى ( يا أبى)، انتهكوا سريرى وألعابى ( يا أبى)، ولكن المشكلة هنا أن الأب لا يسمع فينهرها، تماما كما لم يع الأب مصيبته فى قصة الدورق الفارغ، ولعل ذلك يذكرنى بطفلة كنت أنا مدرسها وهى بعد فى سن الخامسة حين رسمتنى بأذنين طويلتين، فعاتبتها حينها قائلا "لم ترسميننى بأذنين أكبر من جسمى" فردت ردا لم أنسه من يومها وقالت " لأنك لا تسمعنى يا مستر"!
فى قصة " عين زجاجية لرجل وسيم" سنشهد براعة إبراز " التناقض " بين العين الحية والعين الزجاجية فى وجه المحارب القديم وبين رؤية المجتمع للتشوه الأخلاقى للراقصة والتشوه الفيزيقى لعين المحارب، لقد رفض المحارب المرأة الوحيدة التى يمكن أن تكون قد قدرت له تضحيته فى الحرب ومضى فى ضلاله ونقده لسطحية من رفضوه دون أن يدرك أنه أيضا يعانى من نفس السطحية وتنتهى القصة وهو لاه عن تناقضه بينما يتساءل " هل يعيبه نصف العمى وهو المقاتل بدون سلاح؟ " حيث ألقوا به فى أتون الحرب سنة 1967كما أوحت القصة ( ربما)، وتستطرد القاصة "وبإصرار يكرر مع أخريات، يرفضنه، بينما تقف المحبة العاشقة الفخورة بعينه الزجاجية، لا يصله صهد جسدها المحترق حبا ولهفة ولكنه أبدا لم يرها إلا شبحا عابرا من جانبه الأيمن "، لقد فعل المحارب القديم نفس الشيء وتماما كما أن من حاول الزواج منهن لم يقدرن تضحيته، لم يقدر هو المرأة الوحيدة التى عشقته كما هو.. بلاغة القص هنا تكمن فى "عتبة الوعى" التى تجعلنا ندرك أن علينا أن نتأمل أنفسنا لنعرف أن ثنائية القهر والقهر المضاد تغلفنا جميعا وأن المظلوم قد يكون ظالما فى نفس الوقت.
على المستوى العام -كما هو واضح فى قصة " سنابك الخيل"- هناك لحظات تاريخية قد تجعلنا ندرك وجودنا معا فنحتشد ومعنا كل تاريخ وعينا بقيمتنا ونمضى مستدعيين كل رموز حضارتنا باتجاه الميدان الذى أصبح وجوده مجسدا لمعنى اسمه، ولكن لأن القهر له أيضا تاريخيته ورموزه وحشوده وهمجيته فليس غريبا أن نصحو على هتك أستار الميدان وسنابك الخيل، هو إذن تاريخنا العائش بينا والذى يضم محمد على الذى مازال يرانا فلاحين فى دائرته السنية وناصر الذى يخرج علينا من صور يحملها الحالمون، وعلينا إذن أن نكتشف طريقا لكى يكون للحلم خيل وسنابك أيضا وهو ما لم تقله القصة صراحة وإن كانت نهاية المشهد تشير إليه حتما
فى " قلب موشوم على قدم" تعود بنا "سعاد سليمان" لرؤيتها الفريدة ككاتبة حررت نفسها من ضلال الأفكار المعلبة حول علاقة الرجل والمرأة لتحذرنا من النساء اللائى يتجبرن رافعات رايات الضعف، وفى النهاية نحن أمام رجال يمكن جدا أن يكونوا منتهكين بشهوات نساء شبقات نهمات لا يشبعن من ارتشاف الجنس حتى آخر قطرات دم الرجال الذين يكونون تحت القصف فى واقع الأمر بينما " تتوجهم العنقاء" ملوكا مخدوعين، غير أننا فى قصة " قلب موشوم" نجد الكاتبة تجري القصة على لسان رجل أدرك خيبته وتمرد على قاتلته، وفى قصة " كتلة من الطين " سيتحول الأب( ذكر) الذى تخطفه عروسة البحر ( أنثى ) إلى كتلة طافية من الطين يشكل بها الأبناء بيوتا وسدودا ويمضون غير عابئين بما تبقى منه، ولا يعنى هذا أن "سعاد سليمان" تخون نوعها لتدافع عن رجال وقعوا تحت وطأة غدر النساء وقسوتهن ففى قصة " شمعة صفراء وحيدة " سنشهد تعلق الأنثى " العروس" بالشموع البيضاء بما ترمز إليه من صفاء ونقاء استشرافا لحياة زوجية سعيدة وبين تعنت " الذكر" وإصراره على أن يضيىء الحياة بشمعته " الصفراء"، وكانت النتيجة أن " الشمعة الصفراء التى ظلت تراقبها فى شمعدان صدىء كانت شاهدة على حياة " بذات اللون" حياة تقوم على تبادل الكراهية لا التفاهم والمحبة"، سعاد سليمان إذن لا تخاصم المرأة ولا تتجاهل كونها أنثى وهذا ما تؤكده أيضا قصتها الكابوسية " بقعة دم فاسدة" التى تتناول فيها هاجس الأنثى التى يختصر المجتمع شرفها فى بقعة دم " غشاء بكارتها، إنه كابوس يشبه كابوسها فى قصة " طعام الفقراء" ولكنه ينتهى إلى كارثة مفادها أن إصرار المجتمع على التأكد من عذريتها هو فى حد ذاته انتهاك جماعى لتلك العذرية " أياد كثيرة تدب أصابعها فى رحمى، تخرج الدماء حارة، وألم دائم يسكن أعماقى"
كل هذا لا يعنى أننى أناقض ما قلته من أن قصص "سعاد سليمان" لا يمكن إدراجها تحت مسمى " الأدب النسوى" إذ أن تحرر الكاتبة هنا من الكتابة " الأستروجينية" واضح وجلى، ففى قصة "موطىء الوصول" سنرصد بعين الابن عبر الكاميرا التى ظلت مفتوحة بعد حديثه مع أمه " كيف صدمته تلك المتطهرة حين نقلت إليه الكاميرا فجيعة أن أمه " تمارس العادة السرية " بتفحش وغنج فتفجع الابن المغترب الذى يستدعى مشاهد انصرافها عن زوجها " الأب" بحجة التطهر والصلاة وبحجة " اعتلال المزاج" رغم أن الأب كان وسيما ونظيفا، ولعل قصة " ابتهالات الشبق" تحمل فكرة مشابهة وإن كان الرصد هنا بعين " الابنة" التى تستدعى خبرة أمها فتفسد زواجها وكأن الكاتبة تحذرنا من مغبة الاغتراب عن ذواتنا وإعادة إنتاج خيبة أهالينا فى علاقاتنا الحميمة المتفردة والتى لا تشبه فيها علاقة علاقة أخرى.
لن يفيد كاتبة جادة كسعاد سليمان كثيرا أن أدعى أن كل القصص قد نالت استحساني بنفس الدرجة فقصص " ك " حفائر" و" مفارقة" وربما بعض " الأحلام" التى تم كتابتها كقصص لم تغرنى بالبحث عن مواطن صدورها رغم قصرها مقارنة بغيرها لأن الذهنية فيها واضحة فى الصياغة بالرغم من أن الأحلام عادة ما تكون مفعمة بالخيال المعقد وبالرموز التى تستغلق على الكاتب والقارىء معا مما يجعلها مغرية بالكتابة، ولكنى أقرر هنا أننى ضد كتابة الأحلام طالما هى مفهومة وواضحة !
ولعل " الحرفة" والذكاء ينقذان مشهدا عاديا مكونا من بضع كلمات ويفجرانه تفجيرا مدهشا فيتحول إلى قطعة فنية بالغة الروعة ففى قصة " تشابه" وسأكتبها هنا كاملة:- "سحقنى الفزع عندما مرت العربات فوق جسدها الصغير، وكأنها شخصية كارتونية، انتصبت مبتسمة لا تحاول الهروب، فى انتظار مزيد من الصدمات، وبعدما تجاوزتها، نظرت خلفى، تفحصت ملامحها، كانت تشبهنى تماما"، هل يمكن أن تفك رموز المشهد دون عبارة " كانت تشبهنى تماما" التى أضاءت النص البالغ القصر الذى يكتنز تجربة الإنسان فى الحياة بأكملها، لا أظن.
تكتب "سعاد سليمان" إذن عن " تيمات" إنسانية كتابة تهدف لتحرير المرأة والرجل معا، فقصة" متلازمة البطاطس" تتناول الحياة بين جيل يضج بحياته الفقيرة ويكرهها ويريد أن ينطلق حرا و جيل يخضع لمقتضيات الضرورة ومسايرة الفقر بغية الاستمرار فى الحياة و قصة " طعام الفقراء" تتناول الطعام الذى لا يغنى ولا يشبع من جوع والذى صار تكراره كابوسا يشبه " الكابوس الشهير" الذى نعرفه جميعا، إذ لم يفلت أحد من كابوس " غيابه عن امتحان الثانوية " أو " عدم قدرته على الكتابة فى امتحان الليسانس" رغم مضى سنوات علي الواقعتين وربما يكون الأبناء بل والأحفاد أنفسهم قد تخرجوا ولكن الكابوس يظل جاثما على صدور الآباء، إنها إذن حياة الفقر الرتيبة المكرورة التى هى كابوسنا فى الصحو كما فى المنام والتى تختصر " أبواب الحياة " فى "الصدفة" و"الغفلة" و"المحنة" و"الخيانة" ولا سبيل للفكاك منها إلا بغلقها جميعا فهى " أبواب للجحيم "، فالحياة قطعا ليست كأفلام الأبيض والأسود كما جاء فى القصة التى حملت المجموعة عنوانها"، وربما يكون "الشال الأحمر" الذى كان ثمنا لامرأة بريئا من الخطيئة التى نحملها له، وخلاصة الأمر سنظل نعاود الوقوف بعد أن تدهسنا الصدمات ولا بأس أبدا طالما بقينا على قيد الحياة أن نستعد لمواجهة الصدمات القادمة، بشرط أن تكون أيضا مفيدة كقصص " سعاد سليمان"
-------

* شال أحمر يحمل خطيئة، سعاد سليمان، روافد للنشر 2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي