الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوارد الفكر -5-

جميل حسين عبدالله

2017 / 7 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوارد الفكر ‏
‏-5- ‏
قد نرى من الضروري أن نقول: إن ما يكشفه العلم اليوم من أطاريح تقسم العالم إلى اتجاهين متناقضين في حصر معنى الحضارة الإنسانية، هو مربك ‏لهذه الفهوم التي بنت مطلقاتها العقلية على الإطلاق، والتقديس، لأنها بمقدار ما ينكشف لها وجه الحقيقة على مرآة الكون، والطبيعة، والحياة، ‏والإنسان، فإن ما ينهدم في مشروع اليقين من قناعات، وما ينخرم في ميدان التفكير من تصورات، قد يؤدي عندها إلى رفض ناموس الوعي الذي لا ‏يرتكز على مقتضى التجربة، وفحوى الحدس، لأنهما يصوبان النظر إلى معان لم تكن محل المشاهدة في زمن التوليف الأكثر حضورا عند التأليف، ثم ‏انكشف عنها الغطاء، وزال عنها الشقاء، فصارت حقيقة جلى، لا يمكن لأحد أن ينكرها، ولا أن ينفيها، إذ في ظهورها الصريح على مرمر الطبيعة ‏الجميلة، وانجلائها على مشاهد الحياة الوديعة، واندهاش الرائي بما تكتنزه من أسرار باهرة، وانفلات كثير من الأسس التي تعاديها بسفه, وغرة، ما ‏يدفع إلى الإيقان بأنها حقيقة موجودة في الاعتبار، ولو تكن مرئية عند إرادة الوصف بالعدم، أو بالنفي، لأنها لم تغب إلا عن العلم بها، والحصر لها ‏بالاسم، والحد لها الوصف، لا لأنها كانت عدما، ثم صارت حضورا، وشهودا، إذ الجهل بقوانينها الموجودة في ذاتها المتحركة بفعل إرادة الزمان، ‏والمكان، هو الذي يفسرها بالعدم المطلق الذي لا يقبل الضدية، ويؤول كل ما ظهر منها بتجاوز ظواهر العلم إلى منتهى ما تفضي إليه خوارق القوى ‏الخفية. وذلك ما يؤكد استمرار جهل الإنسان بكثير من الخبايا التي تطويها الأشياء في مكتوم ماهيتها، ومعلوم هويتها، ويبني عشا لولادة وعي يعم كل ‏الطبقات المتصارعة حول الوجود، ويؤسس ليقين يتعدى كثيرا من التفسيرات والتأويلات المتسمة بالغيبية، والروحية، لأن ما انكشف له من مستور ‏الحقائق، وخفي الدقائق، ما هو إلا نزر يسير مما انطوت عليه الطبيعة والحياة من معان غامضة، ومبان غائرة، إذ كسب هذا الدليل التجريبي بالنظر ‏المحدد لرؤية العقل، ودقة النظر، وحدة الفكر، ينفي الإطلاق الوجودي عن كثير من المعارف القبلية، ويقيم منارة نسبية تضيء كل التصورات التي ركَّبها ‏الإنسان لما غاب عنه في عالم الخفاء. ‏
ومن هنا بدأت الأفكار التي صنعها الإنسان للمستور عنه تتبدد بنيتها، وتتلاشى وظيفتها، وكأنها في انكشاف الغطاء عن الوجه الآخر الذي يؤطر كلية ‏الذات، وجوهر معرفتها، وانسدال إزار العلم على كثير من أوهام التاريخ التي قدست المثال، ودفنت الظلال، ليست إلا مجرد خرافة لا يمكن الوثوق ‏بها، ومحض أسطورة لا يجوز الرضوخ لها، لأن صعوبة الجمع بين العدم والوجود في العقل، وحزونة ربط العلاقة بين الإثبات والنفي في الفكر، هو الذي ‏يجعل الحقيقة ملتبسة بأعراض الوهم، وأمداء الخيال، وأوجاع الحلم، لأنها صفات لا تستقيم في التركيب الأمثل، إلا إذا حصلت حقيقتها في كمال ‏الموصوف، ودلت على مساحة الاستثناء المكملة لجهاز المعرفة في الذات العاقلة. لكن إذا دلت على ذاتها، وقدست حقيقتها، وكانت امتلاء في صفاتها، ‏وخلاء في محتواها، فكيف يمكن للعقل أن يركب معرفة سوية، وما يعاديه غير طارئ على الماهية، ولا بعيد عنها، لكي يكون جوهر الذات هو الأصل ‏في حيازة جوهرة الكمال، وطرو الضد على كنهها لازما لتنافي الصورة لمادتها في التحديد، والتقدير.؟ ربما قد نكون مستغرقين في سديم الرؤية، وعماء ‏الفكرة، ما دمنا لا نطيق أن نمزج بين الأضداد في عقل الذات المدركة لحدود الحقائق المتعارضة، ولا أن نركب لها مدارا يحوي تنافيها في بناء المصائر ‏المشتركة، لكي يكون التقاءهما في برزخ المعاني المتجوهرة حول بؤرة الوحدة الوجودية والكونية استواء، واعتدالا، لأن ما حدث في صيرورة التاريخ ‏من بناء المعرفة بآلية الإطلاق في التصور، والتصديق، والحكم على أنها من عنصر واحد، لا يقبل التعدد، ولا التنوع، قد تبددت خاصيته حين قبلت ‏الذرة أن تدرك في الضدية، والثنائية، ورضيت الكواكب بأن تقطع من عقولنا شجرة الجوهر المفرد الذي لا يقبل التمثل الذهني، وهو في نزوع كماله الذي ‏يزينه بجماله، لا يكون حقيقة معتبرة في الإدراك القائم على طود المعرفة، ما لم يفهم بأنه المعنى الجامع لأسرار الوجود كلية، وتفصيلا. ‏
وإذا كانت هذه الجرمية الدقيقة في محيط الخفاء، قد قبلت صراع الاضداد على الوجود، والبقاء، لأنها أحست بالعجز في انفرادها، وشعرت بأن زوالها ‏في وأد غيرها، فكيف لا تكون صورة لمركب الإنسان الذي تعيريه صفات تنشأ من انحراف المعاني في جهاز الذات، وقيمها المعرفية، فتصير إرباكا لإدراكه، ‏وإعلالا لتصوره، واختلالا تنتج عنه دناءة الهمة، ونذالة الخلق، وسفالة السلوك.؟ إن صناعة جهاز المعرفة من صراع الأضداد، وتقابلهما في محيط الحقيقة ‏الواحدة، وهي كل المتنافرات الممتزجة في برزخ المعاني، يمنحنا كثيرا من التفاؤل، ومزيدا من الأمل، لأننا سنصل في التحديد إلى حقيقة واحدة، وهي ‏منتهى كل معارفنا القبلية، والبعدية، إذ هي المعنى الذي صغناه لحياة وجدنا متآلفين على دروبها، ومتناغمين مع أزوان ألحانها، ثم استعلى العجز لدرأ ما ‏تفشى في عمقه من رزء نقصه، فحول الوحدة إلى فرقة، والألفة إلى بغضة. وهذا ما يجعلنا نوقن بتعدد الآراء، ونسبية المحمول والموضوع في إسناد القضية ‏إلى العقول المتحاورة، أو المتصارعة، لأن ما أدركه الكائن العاقل من قبول الأشياء للضد، ورضاها بالنقص، واعترافها بالعجز، لم يؤثر إلا في المواقف ‏التي تجاوزت الإطلاق، لكي ترسم للكون صورة قابلة للصراع حول المفهوم الحقيقي لمعنى الحياة، والطبيعة، إذ خلاصة ما أفضى إليه عدم ثبات الشمس، ‏وحيرة الأرض، وحزن الكون، هو ما نشهده من اختلاف حول المعنى المنجز في الحضارة، والعمران، لأنها بنهايتها المعقدة، تدل على فلسفة الكائن ‏الواعي في بناء منازل سعادته، ومراحل رحلته بين الأكوان الجلية، والخفية. ‏
ربما قد يكون هذا غامضا في عقل الحشوي الذي لم يتصل الضدان عنده بين برزخ معنى التوحيد، لكي يكون المعنى وحدة في المثال، وكثرة في ‏التجسدات، ووفرة في التمثلات. لكنْ، لم يكن التصور المتآلف من المتناقضات كما يبدو بسيطا، لكي يقوم به دعي، أو يحارب من أجله هجين، لأن ‏حقيقة التركيب بين العناصر المتعارضة، وإحداث تفاعل في برزخها، هو السر الذي مُنحته الحضارة الغربية حين أوجدت مجالا قابلا لمقتضى الدين، والعلم، ‏والفكر، والسياسة، ولم يشأ القدر أن يستمتع به العرب منذ اغتيال صوت ابن رشد، وشنق كل حر يريد أن يثير السؤال في موقع الثبات، وحرق كل ‏كتاب يفجر حقيقة مجافية لما رُوِّض الإنسان على قبوله إذعانا، والإيقان به استسلاما، إذ ما ظهر من تركيب في علم النار، أو ما سمي بالخيمياء القديمة، ‏لم يكن في العقل البدوي إلا رؤية وجدانية لتفسير الظواهر الغريبة، وتعليلها بالخارق الذي امتزج فيه العلم بالخرافة، والدين بالتأويلات الباطنية، لأن ما ‏ظهرعليه من مستور الحقيقة، أو ما انكشف له من خفي الهيئة، لم يؤد إلا إلى سيمياء متفاعلة مع الظواهر بطريقة مبهمة، هي أقرب إلى ما اصطلح عليه ‏بعلم الخفاء، أو السحر، أو حجر الفلاسفة، أو إكسير الحياة، لأنها تربط الأشياء بما يحدث من انفعال بين الحروف، والألفاظ، والأسماء، والكلمات، ‏والجمل، والعبارات، إذهي البداية الأولى التي انتهت بإعادة صياغة مخرجاتها في تركيبات مادية، تتميز بقدرة انصهارها على الفعل للأشياء المستحيلة في ‏صور الأذهان البدوية، لأن ما يبرز من ذلك، وهو مترابط في تكوينه الروحي، والمادي، لم يؤد إلا إلى استحضار الاستطيقات الأربعة التي تكون منها ‏جوهر العالم في التصور القديم، إلى جانب عناصره الثلاثة الضرورية، وهي الملح، والكبريت، والزئبق، لأن تفاعل ما فيها من طاقة مختلفة، هو الذي ‏ينشئ روحا مستمرة في الأشياء، هي سر حقيقتها، ولغز خفاء ماهيتها. ‏
ومن هنا، تحولت العلوم إلى رموز مكتومة، وألغاز مخبوءة، لأنها تدل على التفسير للخفي عن العيون الذاهلة، والتأويل للجلي الذي يخلب الألباب ‏الحاذقة، ويسلب الذوات بالاندهاش، والحيرة الواجفة، إذ لولا استعارة الخفاء لما هو مرئي، وهو غير مفهوم، ولكنه خارق للناموس الذي صيغت منه ‏الحقيقة، لكان كل مشهود بعد الخفاء محلا للوعي، والمعرفة، لكن ذلك لم يحدث في سياق التاريخ العربي، لأن قراءة ناموس العلم على اعتباره إشارات ‏ترمز إلى معان ملغزة، ومغربة، لم يفض إلى إدراك حقيقي لمنطقه الذي يقوم به في تصوره، ويتقوم به جهاز مفاهيمه، وهي مادته المعنوية التي تجسد ‏ماهيته بين غيره من المعاني، إذ حقيقته فيما يزيل به عن جهل الإنسان الحيرة، والألم، لا فيما يجعله غرائب غامضة، وعجائب غائرة، لأن الانتقال إلى ‏الرمزية، واعتبارها تفسيرا لسر الوجود، ولغز الحقيقة، لا يكون قيمة تضيف إلى العلم معنى مستحبا، ومفهوما مستحسنا، ما لم يكن أثرها سويا في كل ‏مكوناتها التي تبني تصورا جديرا بالحياة فوق الطبيعة الخلابة، إذ الرمزية في استعمالاتها لقالب اللغة، لا تعد نجاحا في التعبير، ولا تميزا في الإعراب عن ‏التفكير، ما لم تكن سببا لسرحان الوجدان في حقل الخيال المتحرر من الحدود القبلية، والقيود البعدية، لأنه هو الذي يمنح العلم مهدا آمنا للتوالد، ‏والتناسل، والتكاثر، ويهب العقل قدرة على الافتراض، والتحليل، والتركيب، وإلا، كان الخيال طيفا جانحا، ولونا جامحا، وإذ ذاك، ينشئ مآتم للحزن ‏على أوجاع الدهر، وأوضاع الواقع. ‏
ولذا لم يكن العلم قاسيا فيما يهدم الشيءَ، ويبنيه، لأنه في اللحظة التي يؤسس قناعته الجديدة بمستور الحقيقة، لا يقوم إلا بعملية النسف لما انطوى عليه ‏من جهالة، وغفلة. ولذا استطاعت أوربا أن تكون لها حضارة بعدما زلزل كوبرنيك الثبات، وهرول بالعقل نحو الفضاء الوسيع، لكي يتعرف على النقص ‏فيما وصف بالكمال، والأزل. وهنا فقد الإنسان مركزيته، وتناءى عن محوريته، لكي يتركب مع التجربة في سياق آخر، ويسير مع ما يحرره إلى أبعد ‏الأمداء، والأفياء، لأنه حين أثبت لجوهر الشمس نتوءا، ونشوزا، فإنه قد جعلها كوكبا متغيرا، ومتحيرا، لا قرصا يمكن له أن يزول، ويحول، إذ تحوله ‏إلى بناء الضدين في برزخ العقل، هو الذي هاجر به إلى ديار أخرى، رأى فيها سرعة الأشياء، وحركة الجمادات نحو تمام الخلقة، وتطور الكائن الحي ‏بين مدار وجوده، ومراح نشأته. ومن ثم، إذا تغيرت نظرة الإنسان إلى الشمس، والأرض، والقمر، والكون، كان النور طافحا بين الديار، وساطعا ‏حول الرحاب، لأنه سيرى نبعه بعينه، وسيشهد كيف تكون الأنوار عمرانا، وحضارة، لأن تفسير الحقيقة بهذا التجلي البارز لظواهر الصناعة، هو الذي ‏يدفع بالعقول إلى استكشاف الخفي في نواميسه، والجلي من قوانينه، إذ هي نظامه الظاهر، ولو بدت محصورة في دقة التجربة، والاختبار.‏
لعل كثيرا مما غير بنية العقل في أوربا، وأغرى بثورات أعادت الإنسان إلى مهد أصله الذي فارق سكينته بين فواجع الصراع حول العلم، والدين، لكي ‏يرفع بين دياره الشاحبة شعار الحرية، والعدالة، والمساواة، قد وُجد له مثيل في تاريخنا العربي المعاصر، وشبيه يكاد من شدة تشبعه بهزيمته، أن يكون ‏نظيرا للعقل الذي لطخ وجه أوربا بدماء الحكماء، والفلاسفة، والعلماء الأحرار، لأنه بتغير المهد الذي ألِف جاهزيته بين المعارف، والثقافات المستبدة، ‏وتحوله من مطلقات المجتمعات البدائية إلى نسبيات الحياة المتمدنة، وانحساره عن الأسرة الممتدة للخلود إلى النواة المشكلة لجوهر حقيقته الظاهرية، ‏والمتغيرة، وظهور محاضن ترفع عماد علاقات أخرى لصيرورة الجماعات المتآلفة على نظم ونواميس وأخلاق معينة، يكون قد قطع أشواطا هامة في طريق ‏السؤال عن حقيقته، والبحث عن كنه سعادته التي لم تحدثها قيم القبيلة في حياته، ولم توجدها طفرته التي انتقل بها إلى عالم مفتوح الأمداء، والأجواء، ‏لأنه في إدراكه لواقعه، وإحساسه بما يموج فيه من صناعات، وما يخور فيه ثقافات، ولو كان ذلك انبهارا، واندهاشا، يكون قد شاكس مطلقه الذي ‏بنى نهاية العلم فيما هو موجود بالوجود، ومشهود بالأثر، وأسس مفهوم التقديس لما هو محصور بإدراكه للأشياء، ووعيه بعلاقاتها، وروابطها. ولهذا ‏كانت مواجهة عجزه عن اللحاق بركب الحضارة ضرورة لازمة لإرادته في تغيير الأحوال المتهدمة، والأوضاع المتعفنة، لعله أن يجيب عن أسباب علله، ‏وأوضار خلله، فيسوقه ذلك إلى مهيع الكمالات البشرية، لأن شدة حرصه على تحقيق هذه اللحظة السارحة في حدود وجوده، هو الذي يدفعه إلى ‏الانتظام في تيار يتحرك بسرعة، ويمشي غير آبه بما يزفر به الماضي من إطلاق، ومنطلقات، لكي يمتزج في خضم صراع يصيح في محيطه، ويتعاوى في ‏مداره، إذ لن يكون موجودا في سياق الحقيقة التي لبستها المدينة حين غدت مهدا بديلا عن فقره، ومراما يتجاوز نقص جهله، إلا بما وضعت به ‏نواميس نظمها من فلسفة في المعرفة، والقيم، والجمال.‏
‏ ومن هنا، يكون ما وصل إليه في سؤر المعاناة، وما تخلف فيه من شقاء الأزمنة الكئيبة، هو سبب لانتظاره لذلك المجهول الذي يستظهره في حصره ‏لمكامن هويته، ويستبينه في سيره بين مسارب رغباته، لأنه في كثير من لواعجه التي تبدد أحلامه الماضية، لا يتجاوز هذه اللحظة التي أسرته، والغصة ‏التي خنقته، وهي سؤاله عن أسباب التقدم، وعلل التخلف الذي تطيش سهام دفاعها عن ذاتها بالجهل، والخرافة، إذ وعيه كما تشكل مما تفرزه الحضارة ‏من صناعة، وتقنية، فإنه يتمددمع ما يستهلكه من الأنظمة الموجهة له بدون تفكير، ولا تدبير، ولا تقدير، لأن ما أحدثه ذلك من تغيرات في البنى ‏الفكرية، والثقافية، والمعرفية، هو الذي فاصل بين الطبقات المكونة للمجتمعات البشرية، وأغرق الشعوب النامية في تجاوزات عطلت آلية التنمية، ‏وأجهزة التحديث، وأدوات التمدن، إذ استئثار قوم دون غيرهم بالرفاه الذي تحقق لهم بوساطة ما تفرزه الصناعة من قوة، وسلطة، هو الذي ميز بين ‏مكونات المجتمعات المتطابقة في عجزها، وفقرها، وأبعدها عن مساحات توحدها على المشتركات، وتفاعلها حول الحقيقة الجامعة لكل القيم الإنسانية. ‏وذلك ما كان له أثر كبير في الوعي العربي، وغبن في إدراكه لحقيقته التاريخية، والاجتماعية، لأنه ولو تشكل من تراكمات متناقضة، وتجارب متعارضة، ‏ولغات متنافرة، فإن ما فيه من نفَس الشعور بالذات، وماهيتها المعنوية، والمادية، والرغبة في إنسية الإنسان، وكينونته المقدسة، قد هيأه إلى أن ‏يكون صوتا في مهد الولادة، وقفزة في ميدان الحركة، وربما من حدة الظهور، وشدة الخفاء، يغدو نحو التشكل الحقيقي، لكي ينتج عالما عربيا جديدا، ‏تسوده قيم المدنية، وأخلاق الحضارة.‏
وإذا كان الوعي الذي تراكم في التجربة البشرية، وهو في كثير من أحواله يجسد معنى الغريق الذي لا يملك في كبده إلا يدا طافية على سطح البحر، ‏وممدودة إلى مخلص يفد به القدر على المنتظرين لعطف الطبيعة، وحدب الآلهة، لكي ينجدها، أو تغرق في ساعة موت أنينها، وحنينها، فتدفن في بطون ‏الحيتان، وينتهي صوتها في الأكوان، وصورتها في الألوان، لا يتجاوز ما تولد من قمقم العقل المتمرد في الذات المتألمة، أو ما تكون من الخارج الذي نلبس ‏زينته، ونتبرج بأسماله، فإن ما نشأت بذور ألمه من عمق الإنسان، وداخل غور أقفاصه، وفي هيأة أحلامه، وصفات آماله، لا يكون في صياغته من ‏عقل التجربة، ووجدان المثال، إلا ثورة في المفاهيم التي تبني علاقته بهويته الشخصية، وذاتيته الجماعية، لأنه إدراك في محل الوعي، وقوة في مقام ‏الضعف، إذ هو العلم السديد بالنواميس، والقواعد، والكليات، والمعرفة الجامعة بالكنه، والماهية، والهويات. وذلك ما يمنحه صفة الموضوعية، ويجعله ‏قادرا على الجمع، و الإحصاء، والتأليف، لأنه يتأسس على دقة الملاحظة، وكبد التجربة، ويقين الخبرة، وهو في نتيجته المثلى، لاسيما إذا كانت محل التزام ‏أخلاقي، وإنساني، لن يصير إلا طريقا إلى كسب السعادة بشمول الحرية، وعموم التسامح بين كل الكائنات الزافرة بروحها في الوجود الكامل. لكن ما ‏ينمو من وعي بين أحشاء الواقع المتفاوت، والسبب المتنافر، هو القدَر الذي يمكن له أن يكون دمارا، أو بناء، لأنه يحتاج إلى ضبط للكينونة، وإرشاد ‏للصيرورة، ويفقتر إلى بناة أشداء في الاختراع، وأقوياء في الإبداع، يستخرجون من الطبيعة ما يرفع عماد الحياة السليمة، ويقيم للإنسان قبة يكسوها ‏جمال الاحترام، والقداسة. ‏
ولا غرابة إذا فقد الدليل في صراع اليوم الذي يدبرنا بأورامه، وآلامه، وضاع الاتجاه في التقدير، والتسيير، لأنه لم ينشأ وعيه مما تمتلكه الأشياء من ‏نظام خالد، بل تربى في حضن ما يتمخض عنه الاختلال المحتدم صراعه بين الذات، والموضوع، إذ لم يكن الاتصال جامعا بينهما في الحقيقة المعتبرة، بل ‏انفصلا بضياع البرزخ الذي يصهر الحقائق في مركباتها الحقيقية، لأن عدم وجود طبقة وسطى في الحقائق، تخفف من غلواء العراك بين الهبوط، ‏والصعود، قد يجعل الأشياء مطلقة، لا تحتمل إلا حرق الأرض للسماء، أو طي المسافات بين الآفاق، لكي يمشي الحلم الذهبي بين مهاد الطبيعة بعنفوان ‏الاستقواء، والاستعداء. وإذ ذاك، يصعب الوئام، ويعسر الالتحام، ويصير طالب الأعلى دونيا، ومحب الأدنى أثيرا، لأن تعطيل الواقع من ذلك ‏الوسط الذي يربط بين الأشياء المتصارعة، لكي يحبكها في مظهر قابل للتآلف، والتكاثر، لن يكون إلا فقدا للثقة في جيل يربو إدراكه بما يتجرعه من ‏سم زعاف بين غيابات النزاع المحتدم أوراه بما تتنازع حوله كل تلاوين الطبقات المتصلدة. وهو ذلك العنصر الذي تخرج من مدرسة اقتتال الضدين ‏حول مضمون الحدين، لكي يصير نارا تزلزل المطلقات المتعارضة، وتبلبل المتآلفات المتناقضة، ثم يغدو صوته حرا، لا يحاكي أحدا في ندائه، ولا في ‏شعاره. ‏
قد يكون ما يحدث وضيعا في عين تنتج وعيها من الخارج، وتبني سقف معارفها من التقليد، والاتباع، لأنها بغرقها في لجة الصفات التي تواضع الناس ‏عليها حين دلت الألفاظ على معانيها، ووضحت العبارات مضامينها، لم تشهد ما ينشأ في أحداثيات الواقع من نزوع نحو الذاتية، والانفراد بقرار المسير، ‏والمسير، إلا موجة يمكن لها أن تعبر إلى سطح الخواء، ما دامت لم تسر على طي المحدود الذي اصطفاه العقل التالد للعقول الضعيفة، إذ اقتصارها على ‏محصور ذهنها، ومعلوم فكرها، وموضوع قصدها، لن يفتح لها بابا للاجتهاد في محص مكامن المعرفة، وكشف مخازنها العتيدة. لكن هل تصح هذه القراءة ‏في سنن التاريخ التي منحتنا قوانين البقاء، وتصورات الفناء.؟ ربما قد يكون مغرورا من تشبث رأيه بأن الوعي البشري يمكن قصره على زمن من ‏الأزمنة، لاسيما في كون امتزجت فيه الحدود، وغدت بدون سدود، لأن تراكم التجربة التي أنجبتها الصراعات بين الفقراء، والأغنياء، وأوحتها حدة ‏الاقتتال على المعنى الأزلي إلى الأرواح الطازجة بالعناء، والناغمة بالمأساة، هو الذي يبني طرقا جديدة للفهم، ومناحى أخرى للمعرفة، ومسارات ‏للتداول المشترك للقيم، والأخلاق، إذ ما هو واقع محكوم بما يبنى فينا من أحكام عليه، لا يمكن أن يصير خرافة، أو أحدوثة، أو ألعوبة، لأن تموقع ‏الإنسان في كيان المجتمع، ورغبته في حقه من الوجود، والطبيعة، والحياة، هو الذي يتطور مع الزمان، ويتحول في المكان، لكي يكون فعلا تاريخيا، ‏وحدثا بشريا.‏
‏ وهكذا يصير ما ينطوي عليه الواقع من تناقضات سببا في نشأة وعي آخر، يهدم المتآلف عليه من مطلقات السير، ومنطلقات السلوك، ويبني مهدا ‏افتراضيا، ومجازيا، يحن إلى مواصلته بكل الوسائل الممكنة، والرغبات المستحيلة، لأنه في استعارته لكمال دوره، لا يعتبره إلا واقيا لبشريته، وحارسا ‏لإنسانيته. وذلك ما يولد في الإنسان قيما جديدة، تتسم بشراسة الأخلاق، وحدة عنف السلوك، لأنه بهدمه لما اختفى من مطلق في الترتيبات، وكشفه ‏لما تعرى في عمق التنظيمات، يرجع الأشياء إلى أصل معين في الذوات العاقلة، وهو الرغبة فيما يفجر معادن الصفاء بين أتون الحياة الإنسانية الكريمة. ‏لكن ما يبنيه من مثل فياضة على الموجودات المستعرة الصراع، والمتكالبة على النصيب الأوفر من أمارات المتعة، وآيات اللذة، يستحيل مع التجربة ‏مطلقا، لا يقبل الاختلاف في حده، ولا في رسمه، ولا الاحتراب حول معناه المكتشف كنهه بآلام اللحظة السارحة الجوانح، والسؤال الغض بالأحزان، ‏والفتش عن البديل الأكمل للحياة الردئية، والترتيبات الرثة، لأنه موجود بذاته لذاته، ومطلوب لما فيه من لبسة الجسد، وحماية العين من الإذلال، ‏والاحتقار. ومن هنا يكون استبيانه ذاتيا، واستظهاره قائما على بذل الوسع في كل ما يفكك عقدة الواقع، ويسبل عليها وضوحا ينفي صراحُه كل حزن ‏يعتاد الإنسان في انتظاره لمجهول الغد، ومخوفه، لأنه لن يتصف بذلك، ما لم يكن دالا على وظيفته في السيرة الوجودية، وكاشفا عن لحنه بين أنغام ‏الطبيعة الفاتنة، وهو ما يتحقق به في الحقيقة التي تحتضن آمال الكائن العاقل فوق بساط الطبيعة،وترتوي من نفَس تجربته الحرة ما يجسمها في صورة ‏قوة فاعلة، إذ ما يُنجز ذلك من وعي بالأشياء، ودرك لما تتكون فيه من عناصر، وأجزاء، هو الذي تتركب ضرورته في العقل المتفاعل مع ذاته، ‏والمتلاحم مع خصوصياته الطبعية، لأنه لا يكون حقيقة على تمامه، ما لم يدل على الكيان بأقصى ما فيه من رغبات، وشهوات. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53