الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوارد الفكر -6-

جميل حسين عبدالله

2017 / 7 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوارد الفكر
‏-6- ‏
وإذا كانت لحظة الانتظار التي طالت آمادها، قد استوحشها الإنسان الباحث عن إكسير السعادة، والطالب لكنز الحياة، لكونها تدل على المخاض الذي يعيشه ‏الوعي في تركيب ‏الصورة الذاتية للعالم الجميل، والكون الأصيل، وترتيب القيم المستوجبة في الهوية لنشاط التفاعل، وحيوية الانفعال، فإن إرجاع الأشياء إلى ‏وظيفتها التي وجدت لها في سلم ‏الموجودات، وتدرجها مع محاضنها المعتدلة الأحوال، والخطوات، سيجعلنا بين خيارين: إما أن نقدس الإنسان الذي تفجعه الآلام، ‏وتربكه الهزائم، ‏ونترك التاريخ يكتب حرف ذاته بزفير المحرومين، وصراخ المنبوذين، وإما أن نحاربه بشقاوتنا، ونهدم صوته، ونقلع صومعته، ثم نبني على أنقاضه ‏‏معبدا لتقديس القوة الضارية، والفاتكة. وإذ ذاك، تكون لغة ترقبه لسؤر الأمل شقية، وعصية، ونظرة تخرصه لوجع المستقبل حادة، ونافذة، لأننا إن لم نختر أحدهما ‏في طي المسافة بين المدارات ‏المتباعدة، والمآلات المتنافرة، فإن ذلك لا يعني سوى عدم قدرتنا على فهم حدود الصراع الذي تراكمت تجربته في وعاء الزمان، وجراب ‏المكان، إذ هو لم ‏ينشأ عن فراغ، ولم يتقعد على ضياع، لكي نظن أنه قدر محتوم على البشرية، وقضاء نزل على الكون بلا روية، فيفضي بنا إلى الاستكانة لمشاعر ‏الموت ‏المتجهمة، والاتضاع لسوداوية الحياة المتعفنة، بل هو جهد واصله الإنسان حين أراد الاستحواذ على مياه بئر الهناءة العميقة، والاستيلاء على شجرة ‏الخلد ‏العتيقة، لعله يكون باسطا، أو قابضا، ويصير حضنا، أو حصنا. ‏
فلا غرابة إذا احتاج ذلك إلى صراع قاتل في كثير من أدواره، وطائش في عظيم أطواره، وافتقر إلى ضجيج يموج في قاعه غلط الغوغاء، ولغط الدهماء، لأنه لن ‏تقوم ‏به صفة القوة في كنف كيانه المتضرم ألما، وأملا، لكي تتحدد ماهيته بما تضيفه إليه من صفات، وما تسبله عليه من لذات، ما لم يكن قابضا على ‏زمام الضعفاء، ‏وماسكا بأعناق الفقراء، وباسطا ذيل مسرته لمن رقص في ماخوره بعري، وخلاعة، وشرب خمرة الوجل في خانه بذل، وحقارة، لأن ‏القوي في طيش غرته، ‏واغتراره، هو أكثر استحضارا لمضمون الصراع من غيره، وأقوى استنجادا بما تضيفه العظمة إلى دائرته من تميز في ملامحه ‏المرفهة، ومفاتنه المنعمة، إذ محتوى الصراع ‏الممزوج بالقوة، والمتواطئ مع ضعف الطمع، وخسة الجشع، هو ما يحدد لغة العالم في عبث الافتراس، ‏وفوضى الاستغلال، لأن ما ينشأ بين الجوانح من كمد، وما ‏يتفجر فيها من بدد، لن يكون إلا تألما بما يحدث من نكسة في ترتيب موازين القيم، ‏وتفعيل دورها الأخلاقي، وتأثما بما يتولد بين الديار من إحن تفضي إلى التعارك، ‏وتوجب التحارب، وتؤدي إلى ميلاد علاقات لا تربطها إلا آصرة ‏الحاجة، ووشيجة المنفعة، ولا تحددها إلا موجة الصراع، وظلة المنافحة، إذ ما يشهده الإنسان من ‏ظواهر أنتجها التصارع حول الحظ المكسوب ‏بالكبد، والسآمة، هو ما يجعله يوقن بأن الزمن الرديء، يلفه ضباب داكن، وسواد قاتم، يعتم الآفاق المفتوحة على عالم ‏الكون، ومحيط الطبيعة، ويعمِّي العيون عن ‏النظر إلى الشأو البعيد في الفضائل المعنوية، والأخلاق الإنسانية. ‏
وهذا ما يربك خطوط المسير، ويعطل جهاز التفاعل مع الأشياء الموجودة للإغراء، والمخلوقة للإثراء، ويوقد نيران النزاع حول المفهوم الذي يحد المتعة بحدود مجمع ‏‏على حقيقتها المشتركة، لأنها تعبر عن المعنى المفقود في الواقع المر مذاقُه العفن، وتفصح عن حاجة الكائن البشري إلى فضاء ينضح بروح كل ‏الطاقات، والمهارات، ‏والكفاءات، لكي تصير بصريح جهدها قوة فاعلة في الخير، لا أداة منتجة للخراب، والدمار. ولذا، فإن ما يكون بين ‏أيدينا، ثم يفوت جرمه من حيازتنا، فنتفقده بين ‏ما هو مكشوف لنا، ولكننا لا نجده متصفا بأوصافنا، ثم نرسم له صورة في الذكرى، وننقش له ‏تاريخا في لوحة الوجود المثلى، هو الذي يعلمنا كيف تكون الأشياء ‏لذة، وكيف تغدو متعة، وكيف تستحيل عذابا حين نحتاجها، ونتعب في تطلابها، ‏وكيف تكون عدوا لذودا حين نعاركها، ونبتغي الانتصار عليها، وهي تفر من بين ‏أيدينا، وتهرب إلى من حولنا، وكأنها ما عرفتنا في زمن من ‏الأزمنة، وما مرت بأيدينا في حال من أحوالنا البهية، وما أقمنا لها أعيادا بين ديارنا التي فارقنا حلمها، ‏وغدت أطلالها مبددة لما نرقبه من مجهول، ‏وننتظره من خلاص ينتشل آمالنا من لعنة الخذلان، وسبة التوهان. شيء مربك للنظر، وهو في مرامه معقد اللغة، ‏وعصي الترجمة، لأنك لا تكاد تحس ‏بشيء جميل، إلا وهو يغيب، ويذوب، ثم يغدو غصة أليمة في نفًَس الإنسان، ونفثة في صدره المفجوع. فهل خلقنا لتؤلمنا ‏أحزان الوجود، والصيرورة، ‏والموت.؟
‏ لم يكن مرادا للذات أن تعيش متألمة بالأوجاع، ولا تحيى متبرمة من الأوضاع، لأنها ما وجدت إلا لتكون دليلا على غموض قضية الخلق، ودقة سبك ‏النظام، إذ ‏ذلك ما يصيرها لغة لرموز محيرة بألغازها، وإشاراتها، لأنها في اللحظة التي يموت إحساسها بما تراه من عنف، وخلاف، ينفجر من غورها صوت ينطق بلغة وعيها ‏‏بما هو مطلوب، ومرغوب. لكن، هل يدل الصراع على معنى الافتراس من جهة، ومفهوم الاستنجاد من جهة أخرى.؟ ربما ما يعانيه الإنسان من قلق فيما ‏يشهده ‏من قبح، ودمار، وجبن، وهلع، هو راجع في صيرورته إلى تحول طال كثيرا من قيمنا، وأخلاقنا، وتغير جال بين مرابعنا بالشقاء الذي يعصرنا، ويردينا، لأن ‏ما ‏لبسناه في حاضرنا من أسمال تدل على فرارنا من سلوكنا الرث، وأفعالنا الرديئة، لا يغرس فينا إلا غصة السؤال عن محتوى القضية، وفحوى ‏ما تدل عليه من ‏مقاصد، وغايات، وهو أغلى ما نملك معانقته بين الديار الذي فقدت المعنى، وانتهى فيها صون الإيمان بالقيمة، إذ غاية ما انتهينا إليه ‏من سفالة في أخلاقنا، ونذالة في ‏أفكارنا، هو ما يدل على التغيير الذي طرأ على كثير من بنانا النفسية، وقوانا العقلية، لأننا نتحرك من دائرة كانت ‏محل اعتبار في سياق متجاوز الحقيقة، إلى فضاء ‏متسم بالعنف، ومباين بالسرعة، ومجاف لإنسانية الإنسان، وحرده في الكرامة. وذلك ما ألزمنا بوظائف لا تقوم بذات الإنسان، ولا تنتسب إلى ‏تاريخ أحلامه التي ‏يستهدي بها جمال الحياة في الكون، بل تصهره في قوالبها اللئيمة، لكي يكون بدون إرادة، ويغدو بلا رأي، ويصير بلا قاعدة، لأن كثيرا مما ينظم ‏علاقاتنا، ويبني ‏أسس استقرارنا، لم يكن لنا فيه اختيار، ولا تدبير، ولو بدا لنا أن نريد ما نأمله على بساط الوجود، لكانت رغبتنا في السلم ‏العالمي هدفا، وغاية. ‏
لكن ما ينزف به العناء بين موارد هذا الكون الشاحب الرؤية، والطائش الصولة، لم يظهر لنا في أوليات تفكيرنا إلا خوف الإنسان من شح السماء بمطرها، وبخلها ‏بآلائها، وضنتها بنعمائها، لأنها توحي ‏في شحوبها إلى سخطها، وغضبها، وتعرب في صلادة منعها عن قوتها، وعنفها. وإذا تجهمت الآفاق في عين الإنسان المدقق في ‏الآفاق، وصارت مخيفة ‏للآماق، فلا محالة، لن تكون حياض الأرض إلا مقبرة جماعية، يدفن فيها الأمل بالتدافع، والتزاحم، ويغرق فيها كل قارب ينتظر منه ‏الخلاص، والفداء، لأن مشاهدة ذلك برؤية العين، والإقرار به، ‏وإدراك ما تقوم به السباع الجائعة من افتراس في الغاب، والأفاعي الخبيثة في البحر، هو سبب في ‏استظهار ما تنطوي عليه الحياة من أنياب ‏الزمان، ومخالب المكان، إذ قصارى ما يدركه في لذاته من تقلب، وتبدل، وما يلحظه في ساعاته من تغير، وتحول، أن ‏يوقن بأن الكون يعيش لحظة يفترس فيها ‏القوي، والضعيف، ويستنجد فيها البائس، والمحظوظ. وإذ ذاك، سيعرف لم نزفت الدماء على سطح البحر.؟ ولم تسقيها ‏الأرض جذور أقحوانها.؟ شيء ‏يبدو مع حمرة الشفق مؤلما، لأنه عالم تشرق فيه الشمس على برك منتشية بأشلاء البشر، وجماجم الحيوانات، وحرائق الغابات، ‏وحطيم الديار، وهشيم الأماني الخائبة، والأحلام المخذولة. فهل يمكن لدم مغدور أن يكون غمامة ‏سوداء على الرؤوس، تنادي بالنجدة، والاستغاثة، وهي لا ترنو إلا ‏إلى محتد شبح الحياة بين الأطلال الدارسة.؟ لعل ما يختفي من صوت في الإنسان، والحيوان، والشجر، والحجر، والبر، والبحر، والأرض، ‏والسماء، هو الذي يتراكم ‏كمه في الميزان، ويتجمع، ويتركب، لكي يكون كيفا يفند أكذوبة العائلة الإنسانية، ويبدد كل المفاهيم التي لا تحمل روح سلالتها في الطبيعة، والكون، لأنها لم تكن حقيقة ‏عند من أرغمنا على تقديس ما في غوره من نهب، وسرقة، وخداع، ولن تصير متعة عند من ‏هدمت داره بالصراع، والأحقاد، والكراهية، إذ بمقدار ما يتغول الحلم ‏في الأقوياء، تخلق عند الضعفاء حراشف خشنة، تقي الذات، وتحمي الحوزة، لأننا حين نفقد آدميتنا في صراع الإرادات الضارية، نتحول إلى كائنات عدوانية، ‏تختفي وراء أقنعة تلف كثيرا من التجاعيد التي تكتب عليها رسوم الألم في الذاكرة البشرية.‏
‏ أجل، تلك هي الحقيقة التي أوغرت صدر التاريخ حين نزف الصوت البعيد من وراء ظلمات الألم، ونطق الوجع العميد بما يدبره من لواعج الخوف، لكي يملأ الأرجاء ‏بأنينه، ونحيبه، إذ اعتباره للحياة ‏بأنها مأتم قائم النوح، والبكاء، لن يمهد له إلا سبيل السؤال عن نشوة الفرح، ومتعة المرح. فهل خلق ليكون شقيا، وتعيسا.؟ أم ‏أريد به ما لم يختره، وهو يطلب بسعيه لبسة أخرى غيره.؟ ربما قد يغري هذا المأتم ‏بشيء من الرحمة، ويدني إلى فيض الذكرى التي صورت سمو هذا العالم في ‏إنسانيته، لكن ما قست به الأيدي من حيازة، ومناعة، وما تجمهرت ‏حوله الإرادات من غصب للخيرات، والمسرات، لم يخلق إلا أرحاما أنجبت الحقد، وفرَّعت ‏الكراهية، لأن الإنسان لا يشعر بذاته الخارجية، ولا ‏يحس بأنها ماهية متكاملة، إلا إذا تماست مع غيرها، وأيقن بحظها في الوجود، ونصيبها في الحياة، إذ في تقابلهما ‏يظهر الاتصال، والانفصال، وفي ‏تنابذهما يحدث الاختلاف، والصراع. وهنا حدث العراك حول مسمى الوجود في تجاعيد الذات، وتلافيف القضية. فما هي حصة ‏كل واحد منهما.؟ ‏ربما في سياق الحتميات التي نازلها الإنسان بعجزه عن درك ما فيها من إصرار على إخضاعه لما تدل عليه من قهر، وما توحي به من جبر، لم يجد ‏بدا من أن يتعامل مع كل المطلقات التي ودع سرها، ولم ير لها أثرا، بما يقتضيه كمد البحث عن شيء يصون به ذاته من الانهيار، والتبدد، ويحمي به حظه من ‏العبث، والفوضى، لأنه في محيط الهلع، والفزع، لم يلمس لطفا في الأشياء التي هي قبور حلمه، وأوكار فقده، ولم يحس بين أغواره بأمل في نيل جمالها، وكسب تمامها، ‏إذ إخفاقه في تنزيل الصورة على مادتها، وإحجامه عن فهم ما فيها من روابط، وما تدبره من صلات، لم يعلمه إلا كيف يقبل بالهزيمة، ويرضى بالنكسة، لأنه لم يدخر ‏في شعوره مع طول الزمن إلا حزنا، ووجعا، ولم يحتكر في كسبه مع عناء الجلب إلا غصة، وألما. فكيف لا يستغرب ما يراه من كتمان لأمداء روحه التي حرَّمها ‏الحظ البائس، وهي موجودة فيه بالجبلة، والرغبة، وإن لم يخلد آثارها في خصوصية زمنه الكاسر.؟ ‏
لعل رغبة الأقوياء في محاربة الوعي الذاتي، ومقاومة كل تمرد ينزف بصوت الألم البشري، هي التي ميزت بين مظهرين في صراع الأغنياء للفقراء؛ ‏فالأول حين حاربت ‏المدنية البداوة، وغالت في هدم أنساق تواجدها، وأنماط تفاعلها، لأن العالم ومهما تبرج بأسمال إنسانيته المزيفة، وتبختر بما يبرزه ‏من أخلاق مزدوجة، لم يصر في انفعال ‏عناصره مع بعضها إلا شعوبا ضعيفة، ومتخلفة، لا تمتلك قرار مصيرها على الأرض، ولا حق وجودها الحر ‏بين الكيانات المختلفة، والهويات المتعددة، وشعوبا قوية، ‏ومتقدمة، لها حق قيادة الكون، والريادة فوق الطبيعة، وتدبير ما في الحياة من موارد، ‏ومشارب، ولو تلطف القوي في بعض المراحل التي يقطعها بأحلام عريضة، ‏ورضي بحرية الشعوب التي تحبو نحو الغد بآمال خابية، لأن انصهار ‏الإنسان في مركب جمعي، يحقق لكل فرد حقه في الكرامة، وواجبه في السعادة، لم يكن محل ‏وجود في صيرورة الروابط التي تصل بين الأنواع، ‏والأعراق، واللغات، لكي تغدو موردا يحتضن كل الاختلافات الحادثة في سنخ النوع البشري، إذ لم يصح ذلك ‏في حبك رسوم العلاقات التي انبنت ‏على الاستلاب، ونهب الخيرات، واتسمت بالتخويف، وزرع الإرهاب، لأن تركيب معنى الصلة الجامعة فيما بينهما، ونسج ‏أبعادها، واتجاهها، لم تراع ‏إلا قوة القوي المنفعل المزاج، والمندفع المجال، ولم توال إلا قدرته على ضبط آلة التحكم، وفرض نوازع التسلط، إذ لو كان هذا الادعاء ‏قوي الحجة ‏على ما يستدل له به من خصال محمودة، وخلال ممدوحة، لكان للإنسان الفقير بين رياض الكون محل يثري إحساسه بالكينونة الناعمة، ويغري ‏‏بالشجاعة في كسب لغة الألفة، والتآلف، والمحبة. والثاني حين عادى الغنى الفقر، ولم يأبه بما يتأسس عليه من أوضاع مؤلمة، ولا بما يتولد فيه من ‏أفكار مطلقة، لأن ‏تراكم التجارب السيئة بين المناكب الكاشحة، وتعاقبها بين الهزائم الكاسرة، لن يمهد السبيل إلا إلى مناحي البحث عن طريق الحرية، ‏ومهيع الانعتاق، إذ أجلى شعور ‏يذود عنه الإنسان في حوزته، ويحميه في دائرته، هو إحساسه بحق وجوده بين الموجودات المقابلة له بالمصاهرة، ‏أو بالمفاصلة. ‏
وذلك ما يجعل العراك حول المعنى دائريا، ومتسلسلا، ويمنح كل واحد حق شعوره بالذات بين بؤر الاختلاف حول الحدود التي تضمن الحق لجميع العناصر، ‏والفئات، لأن ‏الصراع بمقدار ما يحمي الأغنياء، ويضيف إليهم قوة، واستعلاء، ويلف أعيانهم بالرفاه، والبذخ، والدعة، فإنه يصنع مغاني للبائسين، ومرافئ ‏لليائسين، ‏إذ وجود قدر ذلك بين أقدار النزاع، وأسبابه التي تفجر عنفوان عنفه، وغليان خوفه، لن ينهيه مطلق يصح التآلف عليه، ولا خطاب ‏يمكن له إن توافق فيه المقال ‏مع الجدوى، أن يجمع الشتات على مشترك مقبول، ومقصد مرغوب، إذ المطلقات في خصوصيتها المعنوية، وحقائقها المادية، لا تكون ‏دائما قابلة لقيام معنى الاتحاد، ‏وبناء تصور الائتلاف، لأنها لا تتحرك بذاتها المحتوية على أسرار قيمها، وأخلاقها، ما لم تكن محل إجماع بين كل ‏الأطراف المطلوبة بالوفاء لها، والالتزام بما تتضمنه ‏قيمتها من معان، ومحتويات. لكن، هل حياطتها بسور التخويف، وتحصينها بشقوة الصراع، هو ‏الذي يجعلها ناموسا يفرض الإلزام، والاحترام.؟ ‏إن يقين الإدراك ‏لحقيقة الإنسان، وحتميات وجوده، وضروريات بقائه، يوحي إلينا بأنه لا يمكن له أن يستقر على حال واحدة، هي سبب جرحه، وعلة حزنه، لأنه مفتوح الانفعال ‏على ما يدبره من سياقات خارجة عن ذاته، ومتحدة مع سيره، ومتسقة في سربه، فإما أن يعايشها بمقتضى إرادته، فيحدث في عمقه ذلا لها، ويكون بذلك حفيا بما ‏يناله من شؤمها، ولؤمها، وإما أن ينفر منها، ويعاديها بمعاندته، ومكابرته، ولو تبدت له في بهرج استغنائه، أو زخرف استقوائه، فتكون معرفته بقيمة ذاته أشرس ‏شيء يذود عن حياضه، ويحمي أنواءه بقوته، وإن ضعف عن ذلك، واستكان لعاصفته، فإن ما يختاره من سكينة، وما يبرمه من طمأنينة، لا يعبر إلا عن كونه كائنا ‏بشريا، يرتجي أن يخلق من التناقضات طريقا إلى برزخ الكليات الجامعة لحقيقته، والضابطة لناموسه. ومن هنا، فإن ما يحترق بين الذوات من معان، وما يتلاشى ‏فيها من مبان، لم يكن في كثير من أحواله ابتلاء يستوجب الاستسلام، والاستكانة، بل هو نطق الإنسان بما يفصح عن ماهية كيانه، وهويته في سياق الزمن ‏المتسابق نحو نهر الحرية، لأن انتقال الحلم من جمهورية الوهم إلى مدينة الحقيقة، هو الذي يوسع السبل حول دورها، وسكانها، ويغذق مراحها ومناخها بالوفاء، ‏والأمل. وهناك، يكون المكان والمكين في اتصال، وتلاقح، وانسجام، لكي ينادي الإنسان بنداء الكرامة، والعدالة، والمساواة.‏
إن دراسة ما نسميه مطلقا بحد من الحدود، ونحسبه ذلك يقينا، وتصديقا، لا يفيد إلا في تحديد المعنى المراد منه، والمقصد المتوجه إليه، لأن ما يمكن أن يكون ‏حقيقة عند ‏جماعة، قد يصير خرافة عند جماعة أخرى، وما يجوز له أن يكون نسبيا في تمثل المورد، وتشكله في حقائق الوجود، قد يحق له أن يكون سببا ‏لازما في ‏الظهور لمعنى من المعاني، أو علة لحدوث الحقيقة المطلوبة باللغات، والمجلوبة بالنيات. ولذا تتحدد المطلقات بمجالها الذي يرسم حدودها بالمواطأة، ‏ويستكنهها ‏بالاتفاق، والمواصلة، فهي عند الراهب بمعنى مقدس، وعند غيره بمعنى آخر، قد لا يفيد ما تتراشق الألفاظ المحبرة في حياضه، ولا ما تتعارك الهمم الفارعة القوام في ‏ميدانه، لأنها تفصح عن مكنونات ‏الوعي البشري في الخصوصية الفكرية، ومكوناتها الثقافية، ومركباتها الاجتماعية، إذ صياغتها برأي واحد، يكون الأوفر كمالا من ‏غيره، والأتم معنى مما عداه، لن ‏يحولها إلا إلى صراع، وحرب، وقتال، ولن يجعلها إلا متطرفة، ومتعنفة، ومشتتة، لأنها ستكون في صيرورة تفاعلها مع الآخر قسرا، ‏وجبرا، وستغدو في جريان أثرها جحيما لا يفترض كُن الاتحاد، وعش التآلف. وإذ ‏ذاك، لا يصح لنا أن نسميها مطلقا إلا باعتبار ما فيها من قوة، وما تنزف به من ‏عنف، ولا أن نحارب عنها إلا لأجل ما تحتويه من أمراض ذواتنا، وأعراضها ‏الحقيرة، إذ لا يحق لنا أن ندعي إطلاقها إلا في دائرة معينة، هي التي تستهدي بها إلى ‏وسائل الامتلاك، وأدوات الاستغلال.‏
‏ ومن هنا، فإن الصراع بهذا الفهم الذي ينير سبيل ديار المعرفة، إذا كان دليلا على طبقة اختارتها الطبيعة لامتلاك خيرات العالم، والسؤدد بها على غيرها من ‏الطبقات ‏الاجتماعية، وسواء تم ذلك بالحق الإلهي، أو بالكسب المادي، فإن ما يعيشه العالم من مآس تتوالى على الإنسان المنكوب في ذاته، وتتعاقب عليه في ‏داره، هو ‏الذي يوجه الشعوب المقهورة إلى نوازع المواجهة، ويفجر فيها حمية المجابهة، ويغرقها في آسن البرك الملوثة بالدماء، والأشلاء، لأنها بما تتقوم به من أصوات ‏غاضبة، وأحداث نافرة، تخزن صمت ‏نضالها في رصيد الذاكرة البشرية، وتحميه بما تنفخه من روح في عراك الشارع، وصراع الأشباح حول ضوء الشمعة الباهتة، ‏لكي يصير معنى حقيقيا في الوعي الجماعي، وإدراكا في الحقل البشري، ثم يغدو خلاصا للأبدان المتألمة، والأعيان المتأففة، وفداء لها من تغول الإرادات بالأطماع، ‏والأوجاع، إذ هذا الرصيد الذي ‏يتشكل وعيه بقوة معناه الوجودي، وهو كل ما سال مداده بين الأرواح الخامدة، ولو لم يكن محل إدراك في التجربة، ولا موقع ‏الرغبة في النتيجة، هو الذي يراكم جهورية صوت النداء النازف على الدروب المعولة ‏بالصراخ، ويبني شعار الحياة الكريمة على نهاية حدة الصراع، وخفوت أنماطه ‏المعبرة عن مدى شراسة حلقاته المتنافرة. ولذا، يصير المطلق محددا بما ‏يفرضه الوعي بالواقع من تجسد في محيط ذاته، وتمثل لجوهره في حركة كيانه، لأنه في تماسه مع ‏حقيقة الإنسان، وتفاعله مع أحلامها، وتواصله مع ‏آمالها، يمنحها شرارة الوثبة إلى الأمام، وقوة التفكير في الخلاص.‏
وإذا غابت المسميات التي تحاربنا على إطلاقها، وتناجزنا على إثباتها، وهي غير مؤثرة في صلاح واقعنا، ولا فاعلة بالخير فينا، ولا محددة بالحرية ‏لخيارنا، تحولت ‏كثير من آليات الاستعباد إلى متحف التاريخ، ومزبلة النسيان، وربما من شدة ضرورة فنائها، ولازمية إنهائها، لا تخلو من صراع ‏مميت، ولا من دماء تسيل رقتها ‏بين الأودية، وتشرب من صبيبها أفلاج الغدران، لأنها في نهاية الشتات، واحتدام الصراع حول المعنى المراد تحصيله في الحياة البشرية، ستتجه نحو لحظة المجهول ‏التي طال ‏انتظارها بوعي آخر، لا ينشئ الصفات من خارج الذات، ولا يبني هرم الحرية إلا في استقلال الكيان، وتشبعه بمعنى الحياة الكريمة، إذ لا معنى للحياة إذا ‏فقدت متعتها، ولا جدوى للقيم إذا سلبت سعادتها، لأنها لا تحتاج إلى حقيقة لا تقدسها، ولا إلى طبيعة لا تفقهها. وما دامت تستمرئ مقامها بين غصص جغرافيا ‏الوهم، فإنها لن تحفد إلا إلى ما يجدد رؤيتها، ويطور نظرتها، عساها أن تشهد في أدوات البناء ما يضمن بقاء صروح عزها، وحصون مجدها، إذ هي في لحظة ‏الانسجام مع ذاتها، والتفاعل مع هويتها، لا ترغب إلا في شواهق ما تحن إليه من آمال ترخي خمائل جمالها على ربوعه، وجدائل كمالها على ثغوره، لأنها تأنف من ‏أن تعيش بجسد لا تحركه روح، أو أن تلامس واقعا لا ينتظم فيه الفعل على واجب الحب، والحياء، والعفة، إذ ذاك، هو ما يطهرها من أنانيتها الفردية، ويطعمها ‏بمعاني الجماعة الخالدة.‏
‏ ولذا سيغدو المعنى غير منتسب إلى اللغة التي أدرك الإنسان خدعتها، وعقَل مكرها، لأن الخضوع لنظامها المشكل لتنظيمات خاصة في الفكر، ‏وترتيبات معينة في ‏الممارسة،لن يحدث ما هو متآلف عليه عند الوضع الأول لكل ميثاق، وعهد، لأن ما داخلها من تحريف المعنى، لم يصيرها في حقيقتها أداة فاعلة بالتواصل، بل سلاحا ‏يفري ودج مخالف ما تلاءمت عليه من تحديدات ضيقة، لا تراعي ما في تعدد الألسن من سلم، وأمان. وإذ ذاك، سيتحدث الإنسان بكل لغة، وسينطق بكل ‏لسان، وهو ‏يعبر عن خلاصة التجربة التي أبلغته إلى بؤرة المفاهيم المشتركة في الكبد البشري، وأوصلته إلى مشاتل المعاني المكونة لنظرته إلى شجرة السعادة، وريحانة ‏الفضيلة، لأن فقدان الثقة في ‏المطلقات التي ظهر اختلال توزان حقائقها مع ما تصنعه من توحش في الموارد، وهمجية في المسالك، هو هدم لإطلاق الصفات التي ‏تسبل بدون مظهر خارجي دال على ‏ماهيتها الإصطلاحية، يكون هو الدليل على النقاء في طهرانية المعاني الباطنية، لأن ما تضفيه على الذات من لباس الطهارة، لا ‏يصير حقيقة لازمة للاقتداء، والاهتداء، ما لم ‏يكن جوهره متولدا من نقاوة الضمير، وسلامة السير بين المشاعب المتعفنة بالأخلاق الدنيئة . وإذا قبل الوعي بأن ‏يصنع جهاز الحقيقة المحددة في الذات ‏الواعية، وجهوزيتها على الفعل المطلوب حده بالغاية الجميلة، غدا متدينا بدون قيود، وسياسيا بدون حدود، ومفكرا بدون ‏جمود، وفنانا بدون مدود، ومنافحا بدون قعود. وهكذا في كل ما يكسبه حيوية ‏الحياة، وعنفوان طبيعتها في الكيان، والهوية، لأن خلاصة الصراع بين معاني ‏الحقائق، وصفاتها، وعصارة النزاع بين الأضداد المتعاندة في برزخ الجمع، والوحدة، هو ما أفرغ الأشياء من مدلولاتها القديمة، وأقحمها بين أجران الامتحانات ‏القاسية، لكي ‏تهدر بهدير الإنسان الباحث عن كن السعادة في جوهر كونه، وعالمه، والطالب لحظه في طيب كلية واقعه، وحاله، إذ قيمةُ ما يحن إليه من شهود ‏لحقيقة المعنى، وميزةُ ما يسترفد نواله من جون المجهول، لن يكون محل قبول في توثب انتظاره الشرس، ما لم تدل دروبه على ما يطفح في عمقه من سمو ‏الرغبات، ‏وعلو اللذات، لأنها في قصارى جهدها المتبتل، تستحسن الهزيمة، وترضى بها، إذا لم تدل بحجتها على الجبن، والمذلة، وتستصحب الألم، وتحن إليه، إذا غدا خفقانا ‏في قلب المتوسل إلى مهاد العشق، ودوح الوفاء، إذ ما يحصل من تجاوز النتيجة لنص قضيتها، وتنافر الذات لموضوع واقعها، لا يكون في غالبه تحريفا، يرتوي منه ‏الولهان بأطياف المنى، بل يوحي بفعل الحر، وإرادته الخيرة، لأنه ما تخالف الطريقان، وتناحرا في المطالع، إلا بما يتضمه كل واحد من بسالة الإنسان في تحقيق قباب ‏ذاته المسجورة بالأحزان الغضة، والمسعورة بالأحلام البضة، إذ غايته في نصبه، وجهده في كبده، هو تسلق المعالي، ولو بقسط أمل ضئيل في عمق المعاني، وإن لم ‏يقابل الشيء ظله، وتوانى عن الوصال في لحظة الافتقار إليه، وتناءى عن الهمس بين غمرات الطلب له، لأن تباطؤه عن تحقيق كنهه في ماهيته، وتثاقله عن حيازة ‏عينه في جرمه، له مناط آخر غير ما أهدي في طريقه من صريح المهج اللاهجة بالاستغاثة، والنجدة، وربما من شدة الحرص عليه، يغيب أثره فيما دق من جليل ‏النيات، ورقيق الغايات.‏
إن شعور الإنسان برغبته في وئام الكون، وإحساسه بواجب إهدار كل ما يكدر مزاجه، ويفسد سعادته، هو الذي يجعله يرغب في لغة العلم، ‏ويزهد في كل ما ‏يفسر الأشياء تفسيرا مطلقا، وأحاديا، لأنها معان سديدة، ومبان عتيدة، لا تقوم بفهم معين، لكي يكون ما عداه كفرا، ولا تتوقف سيرتها على سلوك محدد، لكي ‏يصير مخالفه مجافيا لناموس الحقيقة في الكون، إذ قوامُها فيما أسعدت به الكائن البشري من مهاد آمنة، وحقيقتها فيما تنفي به الخرافة ‏عن ماهيته الموجهة لإرادته، ‏وسلوكه، وتبعد به كنهه عن مواطن الضياع، وموارد التيه، إذ ما تُصوره في شدة ظهورها من تنافي الاسم للمسمى، ‏ودلالة الأشياء على ضدها، وفقدان معناها في ‏ماهيتها، لن يصير إلا سؤالا، ونقاشا، ولن يغدو إلا حركة مع الزمان، والمكان، لأنه في متاهة ما ‏صنعه التحريف، وما خربه التزييف، سيطلب الفكاك من معرة ‏الاستعباد، وسبة الصراع، إذ هو الكائن المتغير الأحوال، والحقيقة التي لا ظهور ‏لشيء أقوى منها في الطبيعة. وهو كل لسان يكشف عن ناموس الثبات في ‏الأشياء، وكل معنى يركب الوعي، ويرتب جهاز المعرفة، ويصبغ الحياة ‏بلون السكينة، ويمهدها بفراش الطمأنينة.‏
ومن هنا، فإن إحساس الإنسان بهذا المهيع المغذق الآمال، وشعوره بعنفوان حلمه بين الموارد الآمنة، لا يتأتى منه إلا نشاط البحث، وكبد الطلب، ‏لأنه لم ير حياته ‏إلا جسرا يعبره إلى لحظة زواله، ودقيقة فنائه، إذ هو الزمن المحير له، وهو في خيار اختياره لما يضفره من براءة، وشراسة، لم يرده إلا وهو سعيد، ولم يرغب فيه ‏إلا ‏وهي مديد. لكن العلم في صيرورة وقائعه التي تتالت مع ظهور قرن الاستعلاء، وبروز عصر الجبروت، وعهد الطغيان، لم يكن إلا مفجوعا بما هدمه طيش القوة من ‏مرافئ أمانه، وما اغتصبه من مجاني ‏سلامته، لأن ما طال المفاهيم من عبث، وما كساها من فوضى، لم يترك الديار إلا يابسة، ولا الخلائق إلا حائرة. وأنى لها أن ‏تزول عنها تلك العصابية في الفكرة، والسوداوية في الرؤية، وهي ترى ما أنتجه العلم من مواطن الاستعمار، أو مكامن الاستحمار، وما أقامه من حواجز بين ‏الأمم، والشعوب، إذ ما تلبس به القوي من طمع، وما تفتق عنه من هوج، لم ‏يكن إلا دليلا على سعار أحلامه الهاربة، ومخاط أذواقه الفاجرة، وهي في جوهرها لا ‏تستوحي إلا وسيلة السيطرة على الكون، وناموسه الأزلي، والاستيلاء على كل ما يمشي فوق الأرض من ‏متحرك، أو جامد.ولذا تنافرت النتيجة، والسبب، ‏وصار مرغوب العلم مكروها، لأنه لم يوجه الغني إلا في طريق استرقاق الفقير، ولم يقده إلا في إهالة التراب ‏على حظه من متعة الكون، ولذة بهجته، وغاية عشقه.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل أبو السباع .. 40 عاماً من إطعام زوار المسجد النبوي


.. بعد 40 عاماً من تقديم الطعام والشراب لزوار المسجد النبوي بال




.. الميدانية | عملية نوعية للمقاومة الإسلامية في عرب العرامشة..


.. حاخام إسرائيلي يؤدي صلاة تلمودية في المسجد الأقصى بعد اقتحام




.. أكبر دولة مسلمة في العالم تلجأ إلى -الإسلام الأخضر-