الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدوارد سعيد: القاهرة ونجيب محفوظ وتحية كاريوكا

سعد محمد رحيم

2017 / 7 / 20
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


يناقش إدوارد سعيد في كتابه (تأملات حول المنفى.. ترجمة: ثائر ديب.. دار الآداب/ بيروت.. ط1/ 2004) بتفاصيل مطنبة أحياناً، ونفّاذة في الغالب، قضايا حسّاسة تتعلق بالسياسة والتعليم ونظرية الأدب والاستشراق والمحنة الفلسطينية. ويخصِّص فصولاً، وهي الأكثر طراوة وإشراقاً وإثارة بينها، للحديث عن مدن أقام فيها أو زارها وأصبحت جزءاً ملهِماً من ذاكرته كالقاهرة والإسكندرية، وعن ظاهرات أدبية وفنية مجسّدة في أشخاص استثنائيين كنجيب محفوظ وتحية كاريوكا. فيرسم بأسلوب حي متألق رشيق صورة للقاهرة، وأخرى للإسكندرية، في فيوض من المفارقات المبهجة والساخرة.
كانت مصر محط اهتمام الرحّالة والمستشرقين والباحثين عن الساحر والعجائبي والغريب. فكان "لاستمرار مصر التاريخي المدهش آلاف السنين من الوجود المدوّن أن يجذب على نحوٍ منتظم الرحّالة، وأصحاب الرؤى، والفنانين، والفاتحين الأوربيين". وبذا غدت هذه البلاد في القلب من الكتابات الغربية المهتمّة بالجهة الأخرى من البحر. وإذ بقيت مصر "هاجساً إمبراطورياً نفيساً يُسعى وراءه بأشد ما يكون السعي". فقد جرت معركة لا هوادة فيها في الغرب "لا من أجل مصر وحسب، بل من أجل الحق في تصوير مصر". في تمثيلها طبقاً لموجِّهات سياسية واقتصادية. لذا تكرّست طرق وآليات منهجية في تمثيل مصر، والشرق عموما، في تقارير الغربيين الاستخبارية، وتحليلاتهم في حقول الأنثربولوجيا والعلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة، واُختلقت تسويغات تفي بمتطلبات الإدارة لتتاح لها السيطرة على الأرض والاستمرار فيها. فيما شاب سرديات الأدباء والرحّالة الغربيين من مذكّرات ويوميات وسير ما يمكن وصفه بالاستيهامات، ونبرة الاستعلاء، وتلفيق ما يوافقهما.
ما يلتقطه سعيد هو ما فات الناظر الكولونيالي وهو يجوب أنحاء الشرق.. ما قصد أن يفوته لأسباب خاصة؛ سياسية، أو غيرها.. يفضح تلك الأحكام العمومية التي تُطلق بناءً على شواهد مفردة، وعلى مصادفات تواجه ذلك الناظر، وقد لا يكون فَهمها جيداً، أو استوعب سياقها.
إن مصر من وجهة نظره ليست "مجرّد بلد أجنبي آخر، بل هي شيء خاص. فما من أحد إلاّ ويلمّ بها بعض الإلمام". هذا الشيء الخاص روحي مضمّخ بعبق ماضِ فريد يحكي عن البدايات دائماً، ويكتفه غموض آسر وسار. وقد عاش سعيد شطراً من مراهقته وشبابه في القاهرة الملكية الكولونيالية، وشطراً آخر في العهد الجمهوري بعد ثورة يوليو.. على الرغم من أنه لم يختلط كما اشتهى وأراد مع مجتمع الأغلبية الساحقة بسبب انتمائه إلى الطبقة البرجوازية الغنيّة التي تحمل هويّة أخرى. فعائلة سعيد مقدسيّة نزحت إلى مصر عقب حرب 1948. وهناك دخلَ مدارس بإدارات أجنبية، تُدرِّس بالإنكليزية أولاً والفرنسية ثانياً.. يقول:
"كل ما في عالمي المتميّز، ذلك العالم الأقلوي الغريب والمفعم بالمفارقة، كان معالَجاً ،ومعَدّاً، ومعزولاً، ومقيَّداً، باستثناء ما يتعلّق بالمصريين المحليين الذين أصادفهم في لحظات عابرة من الحرية في الشوارع، في العربات، وصالات السينما، والمظاهرات، والمناسبات العامة". قاراً بأن لغة التواصل التي أحبها أكثر من غيرها كانت "اللغة العربية في لهجتها القاهرية"، لخفة دمها واقتصادها ونغماتها، وتعدّيها للوقار، وللضبط الكولونيالي.
تعدّ القاهرة فاصلة وجودية في حياة إدوارد سعيد.. نقطة فارقة في تاريخه الشخصي وتاريخ عائلته؛ "(منذ القاهرة) كثيراً ما قلت لأمي. ذلك أن (منذ القاهرة) هي بالنسبة لكلينا ذلك الحدّ الكبير في حياتي، وفي حياتها كما أظن". فنراه يقارن بين القاهرة في أمسها، حيث كانت لها خصوصية كوزموبوليتانية، تتجاذب فيها ثقافات ولغات وهويات وتتفاعل، وبين القاهرة الآن.. وإذاً هناك ما يفتقده فيها، وكما يقول: "عمل تعريب ناصر، وأمركة السادات، وأسلمة مبارك المتسامحه على محو ما ينطوي عليه ذلك التفاعل محواً كاملاً". ولا يختلف الحال كثيراً في ما يتعلّق بالإسكندرية التي كانت أكثر كوزموبوليتانية من القاهرة نفسها كونها بوابة مصر المفتوحة على العالم، وفضاء التقاء حضارات وسرديات وثقافات وأعراق وطوائف ولغات. فبقدر ما تبدو المدينة "مهجورة (اليوم) من غير جماعاتها الأجنبية الكبيرة، بقدر ما تبدو على أنها بلا عمل أو مهمّة تضطلع بهما". وهذا ما أشعره بالحزن والأسى.
يحكي سعيد عن مأثرة نجيب محفوظ بوصفه أعظم روائي عربي، وأول عربي حائز على جائزة نوبل للآداب. ويعود الفضل بذلك، بحسب وجهة نظره، إلى طبيعة مصر القرن العشرين التي ازدهرت فيها الرواية قبل غيرها، وأكثر من غيرها.
"لأنه على الرغم من كل حروب هذا البلد المولِّد للاضطراب، وثوراته، وانقلاباته الاجتماعية، إلا أن مجتمعه المدني لم يُكسف أبداً، وهويته لم توضع أبداً تحت طائلة الشك، ولم تستطع الدولة أبداً أن تستغرقه تماماً. والروائيون المصريون مثل محفوظ لطالما وجدوا ذلك المجتمع المدني بانتظارهم، الأمر الذي أتاح لهم أن يقيموا صلة مؤسساتية دائمة مع المجتمع عبر قصِّهم".
هذا هو الفضاء العام الذي أنجب نجيب محفوظ، أي القاهرة كمركز ثقافي عربي مستقر وخصب.. وبلمّاحية نبوئية يشير سعيد إلى قلق الروائي العربي، غير المصري، والموهوب. فما كان ممكناً لمحفوظ ومجايليه وتلامذته المصريين، يصبح غير ممكن على نحوٍ مثير للجنون والإحباط للروائي العائش "في مكانٍ متشظٍ، وبلا مركز، وعاصٍ علناً... (حيث) لا تستطيع أن تغادر بيتك وتفترض أنه حين تعود إليه إذا ما عدت سيكون كما تركته".
وتبقى مقالة سعيد عن الراقصة والممثلة المصرية تحية كاريوكا الأكثر حميميةً وإدهاشاً في الكتاب. فكاريوكا ترتبط بذاكرة سعيد الذاتية، هي التي شكّلت إيقونة إيروتيكية، وظاهرة، فضلاً عن جانبها الفاتن والمغوي، لها رمزيتها الوطنية، كما يعتقد.
كان سعيد فتى في الرابعة عشرة من عمره حين ذهب مع اثنين من أصدقائه إلى كازينو بديعة لمشاهدة كاريوكا وهي تؤدي فاصلة من رقص شرقي مثير. فكانت لتلك المغامرة وهجها الجنسي الذي أشعل مخيلاتهم.
"وعلم كلٌ منّا أنّه يعيش تجربة إيروسية هائلة الإثارة، نظراً لإرجائها الذي لا ينتهي".
ويعود سعيد بعد خمس عشرة سنة إلى القاهرة ليراها في مسرحية يصفها بالمخيبة والمبتذلة. ومن ثم بعد أربع عشرة سنة أخرى سيلتقيها ليتحدّث معها وهي مسنّة مسلمة تقيّة.. وبين هذه المحطات المتباينة يرى سعيد أن كاريوكا كانت "رمزاً لكلِّ ما هو غير مُدار، وغير مضبوط، وغير مختار في ثقافتها". حرّة، متحدّية، شجاعة في مواقفها وعلاقتها بمراكز السلطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة