الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية التراجيديا عند هيجل

علي عامر

2017 / 7 / 21
الادب والفن


نظرية هيجل عن التراجيديا
بقلم: سالفاتوري روسّو
تعريب: علي عامر
ما بين قوسين إضافة توضيحية من المعرّب

نظرية هيجل عن التراجيديا -مثل نظرية أرسطو عنها- تمثّل جزءاً مكمّلاً من نسقه الفلسفيّ. فكرة أرسطو عن التطهير على سبيل المثال, تعتبر أحد سمات فلسفته عن الفن: فالفن يحاكي الطبيعة في كلّ من غرضها وطريقتها, إلّا أنّه يستمر حيث تتوقف الطبيعة.
نظرية هيجل عن التراجيديا أكثر اندماجاً مع بنية وطبيعة فكره, إنّها جزءٌ أساسيٌّ من نظامه, بحيث توجد مبعثرة خلال مجمل أعماله وليست محتواة في عملٍ واحدٍ مفردٍ. جوهر التراجيديا عنده هو انقسام الروح النابع من اللحظة الثانية من العملية الجدلية (لحظة النفي). هدفنا هو اختبار صلاحية هذا الانقسام الأخلاقي كمادة للتراجيديا, وهي مهمة لا يمكن تحقيقها إلّا بعد أن نرسم النظرية في سياقها الصحيح.

التراجيديا ليست بظاهرة غريبة عن الأدب؛ بل إنّ نظيراتها توجد في الميتافيزيق, والدين, والحياة اليومية, وفي كل لحظة من الواقع حين يظهر الديالكتيك في حركته. ولكن, مهما اختلف الوسط الذي تظهر فيه, فإنّ طبيعة التراجيديا دائماً واحدة.

في الحياة وفي الأدب, تشير التراجيديا إلى انقسام الروح, إلى العذاب الذي ينالها بسبب تنافرها الداخلي, وإلى الصراع بين الكليّ والجزئي. هذا الصراع التراجيديّ, عادةً يظهر, حين ينفي الجزء الكلّ؛ مغترباً ومغرّباً ذاته بدفع من ضرورات طبيعته الخاصة, هذه الروح الجزئية, تصير أكثر حسماً مستشعرة قوّتها الساحقة فوق الكليّ. لذا, فالحزن الإنساني يصل عمقه الأعظم, حين يعمل التعارض بين الجزئيّ والكليّ على إظهار نفسه كمحسوس (يمتلك شكلاً عيانياً, وهذا لا يحدث إلّا باكتمال النفي أو الانفصال).
تبعاً لذلك, فإنّ الشخصية التراجيدية, هي تلك التي تغترب عن الذات الكليّة, هي تلك الشخصية التي تشعر بمخاض الانعزال وعجز طبيعتها المتشظيّة, مدركةً أنّ حياتها الروحيّة تمزّقت إرباً, ساعيةً للفرار من ذاك الشعور المؤلم بالآخرية الذي يتملكّها. تحاول بدون وعي العودة إلى ذاتها المغتربة (العودة إلى الذات الكلية).
{التراجيديا إذن هي عقوبة الفردية}.

طبيعة التراجيديا الآن واضحة؛ فهي تتكوّن من نفي بطولي للكليّ, يقود في النهاية إلى مركب من الكلّ ونفيه. يمكن أن تُفهم التراجيديا على أنّها اللحظة الوسطى للوحدة الثلاثية, الجزء المتوسط في دائرة ديالكتيكية واحدة. محاولة شرح التراجيديا بإستقلال عن قضيتها ونفيها, ليس إلّا تزييفاً لطبيعتها وإساءة فهم لغرضها.

وجد هيجل عدة أمثلة على هذه الحركة الثلاثية في تاريخ الأديان.
ففي الفلسفة الهندية, على سبيل المثال, كان براهما في الأصل كل شيء, مكتفٍ بذاته وكامل. هذه الطبيعة الوجودية للبراهما, شكّلت القضية, التي ربما رمز لها في تحديق البراهما في سرّته. ثم أتى وقت حيث تعب البراهما من وحدته وعزلته, ورغب بشيء آخر غير نفسه, شيء ما يمكن أن يتناقض مع هدوءه السرمديّ وملله اللامحدود. عندئذ قرر أنْ يصنع هذا العالم, عالم من الأوهام, يسمّى "حجاب مايا". شهقه وزفره, مشكلّاً دائرة من الأوهام؛ أصبح العالم عملية متشابكة ومتداخلة, فالحياة هي رحلة بدون معنى من تكرار الأبدية. تلك كانت لحظة النفي (نفي العالم الجديد لكليّة براهما الواحدة). تحدث المصالحة (العودة للوحدة بعد الانفصال) من خلال تعلّم أنّ هذه الحياة هي شيء آخر غير البراهما؛ ولا سبيل للخلاص منها, إلّا برفضها والعودة إلى وعي البراهما (عودة الجزئي إلى الكلي). حتى لو اعتبر هذا التصالح (العودة) ضعيفاً وغير ملائماً, فهو يحتوي رغم ذلك, على قضية ونفي قويّان.
في حياة المسيح المنوّعة, وجد هيجل المثال الأكمل على معادلة (القضية-نفيها-الناتج المركب), وبالتالي المثال الأكمل عن تراجيديا من خارج الفن الدراميّ. الولادة غير الاعتيادية للمخلّص, وطبيعته الإلهية شكلّتا القضية. بالنسبة للمسيح, فإنّ إدراكه لذاته كابن لله شكّل متعته المطلقة, أمّا إدراك طبيعته الفانية, فقد شكّل حزنه المطلق (هذه اللحظة الأولى: لحظة القضية). النفي والانفصال تم تصويره دراميّاً من خلال معاناة الموت على الصليب كنفي لألوهيته وتعبيراً عن انفصاله عن الله (اللحظة الثانية: لحظة النفي). هذا الكلام المؤثر عن الانفصال والأسى ظهر في كلماته: "إلهي, إلهي, لماذا تخليّت عنّي؟" أمّا إعادة البعث فهي مركب نفي النفي. حيث يظهر لدينا من جديد إعادة توحّد اللحم والروح, البشر والإله (اللحظة الثالثة).

في الفن, تُصَوَّر التراجيديا كصراع بين قوى من المفروض أنْ تكون منسجمة. تنمو الأوضاع التراجيدية من اختلال التوازن, من تصادم المصالح بين قوّة لامحدودة, وقوّة محدودة, بين مطلب كليّ من جهة, ومسعاً جزئياً من جهة أخرى. هذا التصادم يدمّر الانسجام بإغراق الروح المثالية في الاضطراب والتنافر. مهمة الفن, تبعاً لذلك, هي حماية الكليّ من التلاشي عبر تطوير النقيض, لدرجة كافية لعودة الانسجام ليظهر من جديد في النهاية (إيصال التنافر لحده الأقصى كطريق لعودة الانسجام).

الأمثلة المناسبة على هذا الصراع الذي يستعيد الوحدة في العالم الروحي, توجد في الفن الدراميّ فقط, لأنّ الرسم مثلاً لا يستطيع أن يصوّر أكثر من لحظة واحدة, والنحت لا يعكس إلّا الأفعال المكتملة فقط. أمّا الشعر الدراميّ, فيعكس التطوّر كاملاً: السلام الأصلي, الفتنة, إستعادة الوحدة المنسجمة.

في ظاهريّات العقل, حاول هيجل تقديم معالجة تاريخية لهذه الحركة الثلاثية, كما عرضت لذاتها في الأدب: بداية كملحمة (القضية), ثم كمأساة (النفي), وأخيراً ككوميديا (نفي النفي).

في المرحلة الأولى كان الوعي الكليّ غير متمايز وشامل: لم يكن هناك اعتباراً حقيقياً للفرد. آلهة الإغريق وأبطاله عكست ذلك إلى حد كبير, واجباتهم ورغباتهم مختلطة جداً, بحيث يصعب فصلها. في التاريخ الإغريقي, تكوّن محتوى الكل من مجمع الأبطال القوميين؛ في الأدب ظهر هذا كملحمة. الحفل الغنائي الجماعي كان الروح الفعلية للفرد: لم يكن للذات الفردية أي اعتبار, بل الاعتبار كان لتأمله, لأغنيته الكليّة. في الملحمة, حيث يعفي الشعر نفسه من عمله, تم تصوير القدر كنتيجة لقوى موجودة خارج البطل: إرادة الفرد كانت في رحمة القدر.

التراجيديا كانت نفي الملحمة. هنا تؤكد طبيعة البطل الخاصة ذاتها, تدخل في صراع مع كليّته, ناسية طبيعتها وواقعها التابع, مدركة نفسها كالمكتفية بذاتها. ولكن هذا الإستقلال المفترض, مازال محكوماً بالوحدة مع الكليّ, ما يولد شعوراً لدى الفرد بخوار قواه الحيوية, فينتحب على قدره. لأنّه نفي وانفصل عن الله: "يتضمن النفي من وجهة الإنسان الشعور بمحدوديته وفناءه وبعده الجاف عن الله." في النهاية, فإنّ هذه الكليّة المتعارضة مع طبيعتها ذاتها, لا بد أن تتوحد وتستعيد الوفاق مع ذاتها.

حين يكتمل أخيراً إلغاء المساعي غير المناسبة, ويتحقق انتصار المادة الأخلاقية في كفاحها نحو الانسجام, تظهر الكوميديا. الكوميديا تبدأ باستعادة الوحدة التي تظهر عند نهاية التراجيديا (الكوميديا نهاية التراجيديا), وتمنحنا يقيناً ذاتياً وسعادة عميقة بأنّه لن يحدث ما يزعج بعد ذلك. كتب أريستوفان كوميديات مماثلة, كما يمكن اعتبار فالستاف مثالاً جيداً على البطل المطلق الذي تحتاجه الكوميديا. الوعي الذاتي للبطل, يجب أن يتوحّد مع الوعي الكليّ, هنا تظهر الكوميديا. "يجب على الوعي الذاتي للبطل أن يخرج من قناعه, ويعرض نفسه كقدر آلهة الكورس والقوى المطلقة نفسها, وأن لا ينفصل من جديد عن الكورس." في التراجيديا, يدمّر الأفراد بعضهم بعضاً لعدم امتلاكهم أسساً صحيحة وصلبة؛ في الكوميديا فإن الفردية ليست مفترضة, بل ملموسة.

إذا تركنا هذه المقاربة شبه التاريخية, وذهبنا إلى الأعمال الدرامية نفسها, سنجد عيّنة عن هذه الدائرة الجدلية في ثلاثية أوريستيان. أول مسرحية من الثلاثية, أغامينون, تبدأ بسلام ووداعة وهدوء ظاهرين. هذا السلام, على كل حال, قريباً سيتدمر بمقتل أغامينون على يد زوجته كليتيمنيسترا. ذريعتها كانت, موت ابنتهمها إفيجينيا, التي ضحّى بها أغامينون قبل خروجه لطروادة.
في الكويفوري, المسرحية الثانية, تظهر صورة قوية للانفصال والتمزق. يطلب أبوللو من أوريستيس الانتقام من مقتل والده. علماً أنّ كليتيمنيسترا هي أمه, وقتلها هو اقترافاً لجريمة قتل الأم. تواجهه الحيرة التالية: إمّا أن ينتقم لمقتل والده بقتل الأم, أو أن يعصي الإله أبوللو, فيمرر جريمة قتل والده المدنسة بدون عقاب. في كلا الحالتين سيقع في الخطيئة. أوريستيس لا يمتلك شغفاً في الانتقام, إلّا أنّه مدفوعاً بمرسوم أبوللو الوحشي, يقتل أمه.
الآن يشعر "بالمرارة وتمزّق الروح" لإدراكه أنه اقترف الخير والشر معاً وفي نفس الوقت. هذا يظهر في الدراما بالجنون الذي طيّح عقله, بعد الجريمة التي اقترفها.

في "الصافحات" (كلمة استخدمت في أثينا لتسمية ربّات الغضب), وهي الجزء الثالث من المسرحية, تظهر النهاية السعيدة, وإستعادة الوحدة والوفاق بين القوى المتصارعة؛ حيث تم الوصول للسلام والتصالح على يد أثينا, المُحَكَّمَة. بهت الغضب, وبُرّئَ أوريستيس. من جديد, تعود الوداعة الهادئة بتوحد المضمون الأخلاقي.

لنرتحل الآن إلى أنتيجون, وهي التراجيديا المفضلة عند هيجل, والتي اعتقد أنها تصوّر نظريته الدراميّة على أفضل وجه. هنا يمثّل كريون قوّة الدولة وسلطتها؛ كريون ليس طاغية, إنما سلطة أخلاقية تسعى لتنفيذ ما تعتقد أنه صواب. أنتيجون, من الجهة الثانية, تقف مع الحقوق المشرّفة والعادات والتقاليد التي تنتمي لعائلتها. أفعالها تأتي منسجمة مع ما تفرضه العائلة, دون أن تتعارض مع الدولة, وتعيش في مجال كريون والسلطة المدنية. تجبر أنتيغون على عصيان الأوامر العليا. في حين يتوجب على كريون, الأب والزوج, أن يحترم حرمة علاقات الدم, وأن لا يأمر بما ينتهك
ورع وعفة الأسرة. نرى هنا كيف أنّ كلاهما على نفس القدر من الصواب والخطأ فيما يفعلانه, "كلاهما محكوم ومدمر بفعل مبادئه الذاتية التي تنتمي لوسط وجوده الخاص." على أنتيجون أن تتعلم أنّه بالرغم ما للأسرة من مكانة خاصة في الدولة, إلّا أنّه يوجد هناك حقوق مدنية أخرى خارجها.
وعلى كريون أن يتعلّم, أن للأسرة أيضاً مطالبها وحقوقها الخاصة. أنتيجون, ماتت دون أن تتزوّج, وكريون مدفوعاً من الكورس, اعترف بخطأه, وترك ليعاني خراب بيته بوفاة زوجته وولده. في نهاية هذه التراجيديا المؤثرة, نحن كمشاهدين, سنستشعر وزن كل طرف, وسندرك ضرورة تطوير مفهوم أوسع وأشمل عن الحياة (مفهوم يحل التناقض بين حقوق الأسرة ومطالبها وحقوق الدولة ومطالبها).

أنتيغون أظهرت نقطة أساسية لم يكلّ هيجل من تكرارها: أن كلّاًمن طرفيّ النزاع يحمل قيماً روحية ونبيلة, فالشرّ الخالص فارغ وغير مناسب للتراجيديا الدراميّة, يجب على الصراع أن يكون بين قوتين خيّرتين ونبيلتين: التراجيديا الجيّدة هي تلك التي تعرض للمضمون الأخلاقي في حرب مميتة (صراع مميت بين خيرين, بين فضيلتين). إنّها أشبه ببيت انقسم على نفسه, تنافس بين العائلة والدولة, أو بين نموذج مثاليّ وآخر, معكوساً في صراع بين شخصين, أو حتّى داخل نفس الشخص. عندما يكون الصراع بين شخصين, يكون كلاهما محكوم بالمبادئ الأخلاقية كالواجب والشرف, الإخلاص الأعمى لتلك المبادئ ينتج عنه مأساة مدمرة.

حل التراجيديا يتحقق من خلال دمار المطالب الفردية البحتة. مثل هذه الفردية, تعرّض المجتمع كلّه لخطر الدمار باكتفاءها الذاتي المنعزل, لذا من الواجب تذويب تلك الفردية. طبيتعها الذاتية الساعية خلف ذاتها, تأتي بدمارها, من حيث أنّ التصاقها بمصلحة واحدة فردية هو ضعفها وقوّتها معاً. نفي المطلب الفردي أحادي الجانب, عادة يعبّر عنه في الدراما بموت الشخصيّات, إلّا أنّ ذلك يعني أيضاً نفي المصلحة الفردية في الكل (إلحاقها في الكل وعودتها إليه, توبتها). ما يتم نفيه هنا هو صبغ الفردية بصبغة المطلق, حيث أنّ غرض التراجيديا هو إظهار ضرورة الكليّ والرؤية الشاملة (أظهار ضرورة الفرد في الكل).

إذا انتقلنا من اعتبار التراجيديا ككل, إلى تناول عناصرها منفصلة, نجد أنّ الفرديّة تنعكس في قناع الممثل؛ إنّه من خلال وضع القناع يختبر الممثل التراجيديا: "فما يجعله فريداً ومنفصلاً عن الروح الكليّة هو القناع". وتباعاً, بخلع القناع ينحل الموقف التراجيدي.
يظهر الممثل في دور مزدوج: إنّه يمثّل شخصية البطل المنتحلة وشخصيته هو, شخصيته المفترضة وشخصيته الحقّة. أو باستخدام اللغة الهيجلية, ظهور البطل أمام الحضور ينقسم إلى ممثل وقناع. هذا التمييز بين القناع والممثل, ليس إلّا تضخيماً لموقف أرسطو: الشخصية الحقيقية للممثل محتواة في التراجيديا تماماً مثل ما تُحتوى الشخصيّات الدرامية والجمهور (التراجيديا تحتوي على شخصية الممثل الحقيقية, شخصيته الدراميّة, والجمهور).

دور الكورس هو عكس كليّة المشاعر والأفكار وشغف الدراما: إنّه الوعي الأخلاقي معلِّقاً على ما يحدث؛ هدفه الأسمى هو ضمان صفاء الدراما والفكر السليم عند الجمهور. رغم عدم قدرته على اتخاذ دور نشط, من حيث انّ أعضاءه سلبيون ومنزوعو الفعالية, إلّا أنّ الكورس يحقق ذاته من خلال إيصال حكمه إلى الجمهور.
إنّ عبثية النظرات أحادية الجانب للحياة, تبعث في الجمهور الرعب, فيتلفت الجمهور إلى الكورس بحثاً عن العزاء والسلوان.
يصطف المشاهد, ليس مع البطل –كما اعتقد أرسطو- بل مع الكورس. المشاهدون "يشربون من كأس جوهر الكليّ." يتعلمون عقيدة اللا-ذاتية, يغادرون المسرح مهدهدين بدروسه, وقد طغى كفاح البطل على مشاكلهم الخاصة.
اصطفاف الجمهور مع الكورس يعني اصطفافه مع البطل أيضاً, من حيث أنّ الكورس يعكس الجزء الذاتيّ من البطل. لذا, فإنّ الساحرات في ماكبث, اللاتي يذكرننا بالتراجيديا الإغريقية, ليست إلّا تمثّلات موضوعية لقلب ماكبث وأغراضه الدفينة؛ شاهد حتّى كيف يكررن كلماته نفسها. الشبح في هاملت, يمكن اعتباره أيضاً تمثلاً لشكوك البطل ورغباته. بكشفه لروح البطل, يقرّبها الكورس للجمهور, ويقرّب الجمهور منها, ما يذكّر بذلك الوقت حين كان الجمهور يجلس في دائرة المسرح.

هذا يقدّم سؤالاً عمّن يختبر إستعادة الوحدة والوفاق (المصالحة), أهو البطل أم الجمهور؟ نظرياً, فإنّ الجوهر (الكليّ) هو ما يستعيد وفاقه. هذا يمكن إدراكه من كلٍّ من الجمهور أو البطل: بالتأكيد فالاثنين واحد. حين يختبر المشاهدون إستعادة الوحدة والوفاق, تسمّى موضوعية؛ وحين يختبرها البطل أو الخصم, فهي ذاتية. ثلاثية أوريستيان مثال عن الخبرة الموضوعية, أمّا أوديبوس كولونيوس فمثال على الخبرة الذاتية. من الصحيح القول بأنّ الفن هو لمن يتأمله ويستمتع به, ولكن يجب أن لا ننسى أنّ هيجل لم يحبذ ضياع العلاقة بين القضية ومن يمثلها. اعتقد أنّ أوريستيس وأنتيجون يتمتعان بالتأثير والأهمية فقط بقدر تمثيلهما للقوّة. لا بد أن تمتلك التراجيديا هدفاً؛ وإلّا ذابت, وجاءت بنهاية محبطة للغاية.

معظم التراجيديّات تنتهي بتضحية الشخصية التي تعرّف نفسها بامتلاك القوّة؛ أحياناً تكون التراجيديا, عن شخصيّة تعاني وتكابد تقلبات الفؤاد, بحيث تولد (المصالحة-اللحظة الثالثة) في عقل البطل نفسه. فالشخصية الدرامية يجب أن تكفّر عن الذنب الذي اقترفه قلبها, لحظة لا بد من وجودها في الدراما, هذا التحوّل الداخلي يظهر أكثر كتطهّر خارجي.

لا يمكن للمرء إلّا أن يشعر أنّ العجوز أوديب حقق نوعاً من إستعادة الوفاق والتصالح من خلال إدانته لنفسه, وتشوّهه, وحياته المتقلبة. كانت نظرة صحيحة لجيب الذي قال عنه: "بتفكيره في حقائق حياته العظيمة, دنسه وطهره, أمسى ينظر لنفسه ليس كطاهر ولا كدنس, بل كفرد مزقته الآلهة إرباً لتؤكد من خلال ذلك على قدسية إرادتها."

فكرة هيجل عن الذنب, فكرة فريدة ولا شك: أن تفعل يعني أن تمزّق روحك, أن تفعل يعني أن تقترف ذنباً. كل الأفعال مثقلة بالذنب والمعاناة؛ البراءة ليست إلّا غياب الفعل.

هل يجب على الخصم أن يدرك فعله الخاطئ سلفاً؟ الحالة ليست دائماً هكذا (ليس بالضرورة أن تعي الشخصية صواب او خطأ فعلها سلفاًو بل بالعكس فإنّ حكمها الأخلاقي المسبق يقتل الروح التراجيدية)؛ هيجل نفسه يعترف بأنّ أوديب لم يميّز والده في الرجل الذي قتله, كما لم يميّز أمّه في المرأة التي تزوّج. آجاكس كان غاضباً حين ذبح الخراف, كذلك هرقل حين ذبح أبناءه. هيجل أصاب حين أكد على أنّ الأبطال لن يترددوا في تقبل عاقبات أفعالهم, وأنّ اقتراف الذنب سيأتي بعقوبته حتماً. أوديب تقبل بكل استعداد اللوم والعقاب على قتل أمّه وسفاح محارمه تلك الأفعال الدنيئة التي فعلها دون قصد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا