الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوارد الفكر -8-

جميل حسين عبدالله

2017 / 7 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوارد الفكر ‏
‏-8-‏
وإذا كان هذا سبة في المصير الذي ينزف بالمجهول من الغايات، وينفجر بالمعلول من اللذات، لأنه يدل على تيه الإنسان بين مخاض حياةٍ تجبره سلسلةُ حتمياتِها على يقين ‏الخنوع، والخضوع، وضياعِ المعنى الدال على حقيقة وجعه بين غوائل التزييف، والتحريف، وفقدِ الصوت النازف كمدُه بين ديجور الحزن لحروفه، وألحانه، فإن كسب المعنى ‏في شرود الذات عن محيط الذكرى، وتوهان اللغة بين غمرات الشكوى، لن يكون ميسرا إلا بعد صراع طويل، وزمن ثقيل، إذ لا نستشفع بما يتزين به الكلام من بزة ‏الوفاء، إلا إذا كان لحنا يقيم في الأعماق قبة للصفاء، ومعبدا للنقاء، ويشيد للمجد صرحا طافحا بأمارات الشهامة، وآيات الإباء، لكن إذا غدا حشرجة مكتومة في صوت ‏ممتحن بالأوجاع المزمومة، ونفثة ممزوجة في قاع ينضح بالأحزان المفجوعة، فإنه يلبس سوادا، ويحتبي حدادا، لأن ما لا يدل منه على الذات بين الماهيات، ولا يصلها ‏بغيرها من الهويات، هو ما نروجه من أكاذيب بين الديار، وما نزخرفه من أراجيفَ نمُدها بما التوى فينا من لعبة القياس، ولعنة المغالطة، وصولة الاستبداد بالفكرة، وفتوة ‏الاستحمار بالقوة، إذ لو كان صادرا عن الأعماق، ونابعا من الأذواق، ونازفا بين الأكوار، وصادحا على الأشجار، وساهما في الأحجار، لكان بشرا سويا، وصوتا دويّاً، يعقل ‏الأشياء باعتدال، ويزن الأقوال بمكيال، ويقيس الحقائق باستدلال، لكنه كان شقاء يعانق بسمات الصباح بهمود المشاعر الخامدة، وألما يكسر مجداف العشق عند غموض ‏الغدو الآمر، وكسوف الرواح الآسر. وإذا عن له أن يملأ مساحة في أنظار العقول، ويربط المسافات بين مهاد الربوع، ويبني الأماني على فلاج الثغور، صار مبشرا بالوعد ‏الذي تآلف البشر على اشتراك بهجته، وانتظار فرحته، إذ لا تكون الأعياد جذلانة، ولا المظاهر معبرة عن صوت الفرحان، ما لم تكن حقيقتها ظاهرة في المسرات، ‏ومستساغة في المبرات. ‏
هكذا يكون الصدى معبرا عن اللغة المستجنة في الأعماق، والصوت مفصحا عن المعاني المستكنهة للأذواق، لأنه في الوقت الذي يصمت فيه ضجيج البشر التائهين، ‏ويقعد من لا يطيق الوقوف وسط الحشود المحدقين، وتغدو المقاهي هادئة بلا لهو التافهين، وينتهي من تسلط على رشد العقول بمين المحتالين، وينطق بالعشق من لا يخال ‏الصمت بلادة، ويصدح باللحن من لا يقصد به خدعة، ويصدع بالمعنى من لا يخاله نباهة، ويرنو ببصره من لا يخاف سواد الأفق الشاحب، ويرقب الصباح من بدد ‏ظلمة الأماكن بين دروب الإحباط اللاجب، ويمرح بالرياض من يرى مداه فسيح الرحاب، سيكون لنا ظل شجرة النخيل، ووافر عطاء الدوالي المتدلية على سطوح ‏البيوت الهامسة بالأتواق، والناعمة بالأشواق، لأن شحوب الصالونات التي تربك نظريتنا في الجمال، وجمود النوادي التي تقطع الصلة بمفهومنا في الكمال، سيفجر على ‏الوجوه بسمة بريئة، وعلى الأشياء ريحا بليلة، وإذا شمها القلب من خياله، وغدت أملا له في حياته، قادنا الرجاء إلى كون فسيح، ومرام صريح. وهو ذلك المبتغى الذي ‏يعلمنا كيف تكون النار باردة، وكيف تصير منفعلة، فنغوص بين أتونها بحثا عن الرزق بلا احتراق، إذ خروجنا منها بلا عرق، وصدورنا عنها بلا نزق، هو الدليل على أنها ‏كانت في سنن الحقيقة هادئة، وفي نواميس المعرفة باردة. وإذا أحرقت ما نلبسه من أوضار، وأنهت ما يثقلنا من أكدار، وتمتعت بشواظها، وتنعمت بفحيحها، وصهرتنا في ‏أجساد أخرى، وكتبتنا على صفحات البهاء بمداد الحجى، كنا في عشقنا بلا لغات متصارعة، وفي أملنا بلا ملامح متعاندة. ولذا، فإن صمت اللغات التي تنزف من قاعها ‏بصديد الأوجاع المتقيحة في الأعماق، والأحزان المتورمة في الآماق، هو الإكسير الذي يهبنا ما في المكان من هدوء، ويثرينا بما في الذوات من سكون، لأنه هو الذي ‏سيدقق في الحقائق الباطلة، لكي يخبرنا عن تاريخ ما اخترعه العقل في صناعة السلام.‏
وحقا، إن هذه التراجيديا التي تصنع جمال المصير في شدة احتدام سعير النيران، وتبني عش الكمال على بحر متلاطم الأمواج بالإحن، والضغائن، لن يدركها من أصبح ‏متولها بما تجيد الأشياء لحنه عند كسبها، وأمسى مترنحا بما يقبضه حظه من عريها، وأراد أن تلدن الأجساد في يديه، وتطرب القيان بين عينيه، وتترقرق الأنهار في أذنه، ‏وتحفحف الأشجار حول حواشيه، وتزقزق الطيور في قاعه، لأنها من شدة انتهاء الحلم إليها، واقتطاع فرعها عن أصلها، غدا الكون عصفورا على خرطوم فيل، والوجود ‏زفرة في عين مقتول، والأملُ سديما سارحا في السراب، والحلم طيفا شريدا في الضباب. ربما من شدة الذهول، واحتراب الأماكن بالخوف، وتفاعلها بالارتياب، يكون المسير ‏مع القوة تيها، والمصير مع الغلمة عماء، إذ لا نكاد نجد ضاريا إلا ضائعا، ولا غازيا إلا تائها، لأنه من حسرة الذات على فوات روح الصفة، وفقدان معنى الصيرورة في ‏الطبيعة، يغدو كل شيء تافها، ويصير الرجاء معه حقيرا، إذ هو النصب في الجمع، والعذاب في العد. فإلى أيهما مال الإنسان، كان حريا بأن يكون صفة، لا موصوفا، إذ ‏هي لا تنزل إلا على محلها، وما لم تجد لها مقاما لأصلها، كانت شقاء في العقول، وخرابا في الحقول. وأي عناء أفجع من أن يربط المستقوي نشوته بالنوح على إسعاد ‏البائس، وإفراح اليائس.؟ ‏
وإذا كان الإنسان عدو الإنسان، وتحاربت اللغة مع دلالاتها، وتصارعت الحدود حول حظوظ معانيها، وتنافرت الروابط حول جوامع علاقاتها، وتقاطعت الحقائق مع ‏معادن مركباتها، فإن طراوة الحلم بين جدائله، وغضارته بين خمائله، لا تصنع في الأعمى بصرا، ولا في المعتوه فكرا، بل تفجر من عبث القدر ما ينصر المعنى المكتوم في ‏الخلد، والمختوم في السحر، لأن تلاقي النص مع المنصوص عليه، وامتزاجهما في بحر الذات الذي تعي الحدود، وتتفن ضروب القياس، وأفانين الخطاب، واعتناقهما على ‏بساط الطبيعة، ورحاب الكون، ووهاد الحياة، والتفافهما حول المعنى المتجاوز للذوات العليلة، والمتعالى على النفوس الحقيرة، لكي مشتركا إنسانيا قمينا بالرعاية، وجديرا ‏بالحماية، وحقيقا بالهداية، هو الذي ينصب للشاعر منصة، وللفنان لوحة، إذ تحدثهما عن إحساس الإنسان، وما يتمخض في داخله من ألوان البطولة، وملاحم الفروسية، ‏هو الذي يجعل الشعر روحا أزلية، والفن أنفاسا أبدية، لأنهما يعبران عما يستجمع الحكيم له عدته، فيختار من الأشياء أجودها، ومن المعاني أطيبها، لكي يبني للفضيلة ‏مدينته الفاضلة، وجمهوريته الخالدة. ‏
وإذا كانت القصيدة فاتنة تميس بغنج، ودلال، وكانت اللوحة سفينة تتبختر حولها أبحر هادئة، وأمواج لينة، وكانت الحكمة كيسا للسَّفْر إلى أبعد مدى، وجرابا للرُّحل بين ‏منازل المنى، استحال الكلام دليلا على المعنى، والنص إرشادا إلى ما يزيل الضنى، ويبيد الدوى. وإذ ذاك لن يلام أحد على عاهته الخلقية، ولن يعاتب ضال على فقدانه ‏للسبل المأمونة، إذ الرباط الوحيد الذي يربطنا بالكون، ويسعفنا بنظير الحياة، وشبيه الأمل، هو ما نخشاه من وعي يهدم حصون الخداع، ويبني كُنا يَقينَا آلام الافتراق، ‏لأن استظهار القوة في محل الفصل، وانتظار ما فيها من سطوة، لن يدع لراغب الوصل نهاية، ولا لنائح على الأطلال عبرة. وإذا انفصل ما نحميه من المعاني عن الطوبى، ‏واتصل ما ننبذ حَميَّته في أفئدة دنفها الردى، كانت ملاحمه مردية للذات التي تحرق أوصالها في النقيض، والضد، ومخزية للواقع الذي نعيشه واجفين، وذاهلين، إذ لن تسير ‏بالإنسان إلا من أضيق الطرق، ولن توصله إلا إلى مشانق الحلم، ومحارق الأمل. فلا غرابة إذا صار العالم صادحا بما نخفيه من لواعج الألم، وفوادح الورم، لأنه بمقدار ما ‏يحاكينا بحزن ألحانه، فإنه يندب حظا تعيسا أبتلي به الإنسان حين فارق مولد الحضارة، ومحتد المعرفة، لكي يصير وحشا ضاريا بين الموارد، وثعلبا ماكرا بين المعاهد. ‏
ولذا يكون فقد الوعي إمعانا في الزيغ، والضلال، وإحكاما لنص الفناء، والزوال، لأن جريان الخرافة في الذات التي تحارب المسمى، وتتقاتل على الاسم، لا يزرع حقول ‏الياسمين على أرض النباهة، ولا يحصد رصيد الجولة في ميدان الشهامة، إذ لا يجوز أن تنبت فسيلة الاتزان إلا فيمن عرف مسارب الكلام، وغنم ما فيها من معاني التمام، ‏لكي يقول ما يصدع به باطنه، وينبس بما يمور في قاعه، وهو لا يتألم لخوف يطارده، أو ألم يراقبه، لأن الإعراب عن الكيان بما تقتضيه اللغة من أمداء، وما تغزوه من ‏فضاء، هو الذي يجعل الناي يلحن بأنشودة الحياة المتلألئة الأعيان، والمترقرقة الأكنان، ويصير الصوت صدى متنغما بين حسيس الوديان، وهسيس الغدران. وما دمنا لم ‏نلتف على ما تقيمه الذات من حجج، وبراهين، وما تبنيه من أسس المعاني، والمفاهيم، فإن كثيرا من لغطنا، وهو سبب في التطبع بغلطنا، لن يفتح الباب إلى الأمام الذي ‏نحفد إليه مهرولين، ومجرولين، ولن يمد أيدينا إلى ما طاب من السعادة، ولذ من الهناءة. إلا، إذا اغتررنا بنبل ما استلذته النفوس من همس الديار، ووشم الدروب، ‏وركض الأفق، وهي في تقدم التجربة ليست منالا للرضى، ولا مراما للمنى، إذ هي التي تمد أرجلنا إلى كمائن عدونا، وتصيرنا عجزة في صياغة خُلقنا، إذ ما تقوله النفس ‏عند غموض الإحساس، وكره النظر البعيد، وانطواء الذات على أحزانها البائسة، هو ما نراه من فوضى تربو بتعاظم غرورها، وتكبر بتكاثر ظنونها، لأن ما نصل إليه ‏عند انفصام العرى، واستواء العقل، والجنون، وخلود النفس إلى ضراح الغرور، وفرح الديار بضجيج العويل، وانقباض الروح بين أزهار البساتين، واختلال المعاني في ‏عدل الموازين، هو أن يبحث الطبيب في غموض درس اللاهوت عن مخدرات الجراحة، ويشرح القسيس بخياله أعقد نظريات علم الفلك، وينطق بالشعر شرس ينخر ‏طبعه سقم رديء، ويخطب في الجموع الذاهلة فدم يبيع تمائم الأوهام، إذ لا يروم حكمة الأشياء في زمن البؤس الأفجر، إلا شاطر يخفي بتعقله علل دهائه، وحيل خفته، أو ‏متألم يعري من غموضه سر التفاف الأحرار على نار الموت، ورماد الشهداء . ‏
إن افتعال النفس بما تردده من خبل عند غياب العقل، وحزن القلب، وحيرة الروح، هو الذي يجعل العالم مختمرا على أطول ملحمة في الصعود، وأقصر خطة في النهوض. ‏إذ لولا ما في النفس من سبل للضياع، وفجوات للضلال، وثغرات للمترصدين توهان الخيال، وبلادة الوجدان، لما عادت الحياة إلى رسيم الطحالب التي تغمس سمومها في ‏أعماق أحلامنا، وآمالنا، لكي نشهد كيف يدور الشيء على ذاته، وكيف يكون حقيقة في ظهوره، وهو لا يقطع طريقا إلا ليعود إليه، بل مشيْنا إلى أجران اللؤم بأقدام ‏مغلولة بأغلال الحزن، وأصداف الضعف، لئلا نمنح الأشياء ما تلونت به من صفات المعاني، فنضيع في درك غيرنا لمكامن الخدعة، ومواطن التحريف، ومواقع ‏الاستيلاء، لأن كسب النبل بما لا يروم فينا جهة الفخار، ولا ينجي فينا ما نراه طاهر الطلعة في الوقار، لن يجعل للذة المكتنزة بالعهر قيمة، ولا للمتعة الطافحة بالسعار ‏معنى، إذ هي في خزي الديار، وانتكابها عما كتبته الوصايا القديمة، لا تبيع اللذة السالبة، إلا لتنال المتعة الموجبة، لأنها تفصح عن المتلذذ بالألم، وعن المتعذب بالإذلال، ‏وكلاهما يبتدئ بعهر الإيديولوجيات التي لم تقم الحواجز بين اللذات المتعارضة الصفات، لكي تنتهي المتعة إلى رحاب المواخير المطلولة بدماء البؤس، والموجوعة بألم الفقر، ‏إذ لا وجود لفعل بدون محضن في العقل، وهو الموجه له قبل نسيانه في الأعراض النازفة منه التزاما، أو استحقاقا، لأننا لم نقبل بالمومس على موائد شرابنا، ولم نقدسها في ‏لهو حاننا، إلا حين أقمنا للعهر مخابئ تغلي بالفتن، والفسوق، وصنعنا سريرا لوأد الأجساد الطازجة بصبوة الافتراس، وإن بدا للمنتشي بالحظوة أنها تقطر زهرا، وتفوح ‏شذى، إذ لولا مضمرُ القصد المكتوب على الأبواب الضيقة المسام، والمنقوش على الجباه المتوجعة الأحلام، لكان ما يخفيه ليلنا رقصة على مسارحنا، ومتعة في أعيادنا. ‏لكن زوال الظلام في عين نور المصابيح المرحة بالألوان، لا يعلم العراة إلا الاختباء، ولا يجبر العشاق إلا على الالتواء، لأن اكتشاف حقيقة المتعة، لا يكون إلا عند ‏انتهائها. فكيف يسعد شقي فجر في الورد دماء الغدر، وصديد الخيانة.؟ ‏
ومن هنا، فإن المعاناة التي جعلتنا أبطالا بلا سلاح، وعظماء بلا عهود، لم تمش بنا إلى ذلك المراح الذي يزيح غلالة الهم عن الأفئدة الجريحة، والجوانح الكسيرة، بل تنتج ‏وحدة العالم بين مخالب الموت، وأنياب الفناء، لأن انتظار الغد بين القبور التي رفع لحودها موءود الأحلام، ومغدور الآمال، لا يلون وجه الكون إلا بلون واحد، وهو الذي ‏نقدسه حين نستدل عليه بالعاطفة، أو بالعقل، أو بالوجدان، إذ هو الصورة البكر التي تغشاها الآلام، وتنتابها الآثام، فلا ترى لها نافذة في الكون المزدحم الأبواب الحالكة، ‏إلا وطلاها السواد، ونالها الخراب، لأنها ولو تفننت في مظاهرها، وتفتقت منها سوانح مباسمها، فإنها بؤس الفقراء، وخوف الأغنياء، إذ لولا ما فيها من حذر، وخشية، لما ‏أقيمت حولها الحروب الفتاكة، لأنها في جهةٍ كمدٌ من أجل الوجود، وفي جهة أخرى، جهدٌ من أجل البقاء. وإذا غالت هذه الصورة في رص سطور العناء، وكان لها دور ‏القرار في تدبير الصراع، وتحديد وظيفة الاختيار، فإن الأزهار لن تكون ناطفة بين عيني هذا الإنسان بالذكرى، لأنها لا تنتشي عند الفقراء بلحن الأيام القادمة، ولا تحتوي ‏في الأغنياء إلا على حروب الماضي، إذ لا نتصور جمالها جميعا، إلا إذا كانت في يد غيداء، هيفاء، تشمها بفرح، وترقص حولها بخجل، ثم تتيه رافلة بين الشعاب، وراقصة ‏بين الوهاد، لأن تجسد العالم في ألغاز طافحة بين أحشاء الأنثى، هو الذي يجعلها بحرا شاسعا لفهم المعنى، إذ لولا مشاتلها المصبوغة بسحر الفتنة، والجمال، لما هبت على ‏اعتلال الطبع هالات الكمال، والجلال.‏
‏ تلك هي الصورة الأنثوية التي نصل إليها حين يتحد العالم في فضاء الراهب، ومرقاب الفلكي، وفرن الكيميائي، وحدس الفيزيائي، وعقل الرياضي، ووجدان الصوفي، لأنه لا ‏يتحد إلا حيث تنفصل الأطراف باحترام الحصة، والتزام النصيب، لكي يدل كل جزء على ذاته، ويظهر كل جرم في حيزه، لأن اكتشاف العالم من وحدته، ومن افتقاره إلى ‏لدونته، هو سبيل المتآمرين على السماء، والمتزلفين إلى الحباء، وهو طريق بناة صرح الخلد بين بساتين النعماء، وحدائق الآلاء، حيث لا جهد، ولا لأواء، ولا ألم، ولا نكباء، ‏إذ ما اتحد منه، هو مادة الحياة التي يقدسها القديسون، ويعبدها الطبيعيون، وينكرها اللائكيون، ويبحث عنها اللاأدريون، لأنها هي الناموس الذي يسري في الأشياء، ‏ويجري وكأنه هو الذي يجر القمر حول الأرض، ويقود الكوكب الصغير بنور الشمس، لكي يشع النهار على بحرالأمان، ويغيب الظلام عن ميدان السلام، وهي قصية العلم ‏الذي حاربه كل متسلق غصنا في شجرة المعرفة، لعله يظفر بالصفقة التي تبرم على موائد العهر، ومآدب الخنى، وهي معنى الحقيقة التي حاكاها دعي بغيض، وعاداها وغد ‏زنيم، فدلس الأصوات المعبرة عن الطبيعة، وحرف القصود في مكاسب الحقيقة، لكي يهَب في الشيء ما يأخذه فرضا، وما يستوجبه لزوما، إذ لو درى كل فرد أن القرى ‏لا يَرفع عماد دورها إلا يد البنائين، والنجارين، والصباغين، لأيقن بأن ما طرأ على الديار من مهن، وحرف، وخدمات، لن يقع موقع الإدراك في صوغ العقود البانية ‏للنواميس، إلا عند القبول بما يؤسسه في الديار من نبل، وكرامة، وجمال، لأن ما ننتهي إليه عند إهالة التراب على الاختلاف حول مادة الوجود، وعلة الفناء، هو الذي ‏يبني أعشاشا لاستمرارنا، وأكنانا لأسرارنا، وأكواخا لأفراحنا، وأمداء لأنظارنا، وآفاقا لتوثبنا نحو غد يغني ما تلحنه أعماقنا من صبابة، وما ترتله أعيننا من سكينة. وإذ ‏ذاك، لن ننتظر ظهور الملاك الذي يرفرف حولنا بأجنحة الذهب اللامعة، لكي يخبرنا عن سعة أوكار الصقور التي بنتها بريش العصافير على قنن الفضاء. ‏
لهذا يكون من العبث أن نردد هذا النشيد المقدس على ربوة الدسيسة، وهضاب الخديعة، ونحن نزرع الخوف في محل الصمت، ونحصد الجبن في موقع العفة، لأن أقدس ‏شيء في الكون الذي نقشت آياته على أبواب المدن الناعمة، هو أن يناظر المعنى ذاته، ويحاكي ما يضمره في عمقه، لئلا يكون المطلوب مكروها، والمرغوب محروما، ‏ويغدو الكلام بضاعة مزجاة عند المتحاورين، وطرائق قددا لدى المتناظرين. وإذا حكى الإنسان بصوت غيره، ونادى بصراخ خارجه، وأظهر الرضى في محل السخط، ‏والبسط في مقام القبض، فأي لسان هذا الذي حرف تاريخ الكون، وأضاف إليه شحنة ذاته المتعفنة بالكراهية، والمتأدمة بالعنف.؟ لقد تملكنا اليأس، وصرعنا جني ‏الحرف، والأفق يُكتب بدماء المشردين، والمدى في قبضة مارد متغطرس، والعالم تنوح مآذنه بالعويل، وكنائسه بالصراخ. فهل سنشرد كما شردوا.؟ أم سنلوم الحظ حين ‏أقعانا على وتد ذل، لكي نبني قلاع الموت من وحل الاستجداء.؟ لعل تذوق الألم في مواجعنا، واستحلاءها في مخاوفنا، يمنحنا صفات أخرى للأشياء التي تلمع لتختفي، ‏وتبرق لتنتهي، وأوصافا مشتقة للأضداد، والأشباه، والنظائر، فنرى ذلك اللحن الشجي منفرا، وذاك المعنى الندي مقززا، لأنه لا يدل على مجد الجدوى فينا، فكيف به ‏أن يكون لنا في سارح النظر لذة، وطوبى.؟
‏ لكن، هل يصح في قضايا كونية الإنسان، وعالمية شفقته على الكائن الحي فوق البسيطة، أن ينسب إليه الرشد في محل السفه، والطيش في موقع الرزانة.؟ لو قيل بذلك ‏في سفر من الأسفار، وحكاه وضَّاع يريد جرنا إلى حبك الموضوعات بأحقر الحكايات، وأكذب الروايات، فإننا سنهين محكمة العقلاء، ثم نبني على قبورهم مزارات ‏للدنس، ومراقد للعفن. وإذ ذاك، سنساوي بين بني البشر في المعيار، وسنكفئ الميزان، ونغلق باب القضايا، ونفتح عالم الجمود، ثم نقول بأننا قد صرنا بدون طريق ‏الأهداف، وغدونا لا نمتلك حدود الغايات، لأننا لن نحس إلا بتصالح الإنسان مع الوحش، وتلازم الهمجية للصراع. وإذ ذاك، لن يلام على الافتراس مفترس، ولا على ‏الاقتتال محارب، ما دمنا نلج بطن الغابة بأرواح مهداة للخوف، ومرتجاة للحتف. فلا غرابة إذا كان مؤتلفنا سببا في شباك هلاكنا، ومختلفنا علة في سبك زنازن أماننا، ‏لأن التواطؤ الذي ندوس وجهَ الأرض لوصاله، ونجوب البراريَ طلبا له، لا يقع في موضع يغدو به حريا بالوجود، وحفيا بالظهور، إلا إذا تمحص بالاحتراق، واجتاز لحظة ‏العذاب بالانسحاق. وهو كل ما نصطاده من متعة بين بؤر النيران، وما نلتقطه حفاة على الرمضاء من لحظات، وما نحصده من سمو بين سواد الغروب، وشحوب ‏الشروق، لكي نكون بسنبله فرحين في أعراس الأرض، وراقصين بين أعياد السماء. ‏
وإذ ذاك، يكون المصير حقيقة في المشترك الذي أقيمت الحروب حوله، ودفنت في أرض الغيل أرواح نادت بصونه، وصلبت على أبواب المدن أعين غرسته في بؤبؤ ‏الأحجار، وعقول خرصته في جؤجؤ الأشجار. وما لم نقل بدور الإنسان في تحقيق هذا المعاد الذي نرصده بطلاسم اللغة، ودروب الفكر، وأفانين الحركة، فإننا نطرد فعلنا ‏من عالم الأرض، ونزيله في مخيلة البشر، وذاكرة الشعوب، لكي نرقب تلك اليد التي نختلف في تحديدها، لعلها تمنحنا في صفو مزاجها صك الأمان .؟ فهل هي يد ملاك ‏أطل علينا من نوافذ الأمل.؟ أم هي يد مارد يخنقنا بين ضراح الألم .؟ إن التفكير بهذا المستوى الذي يعلمنا القصد في الكلام، والعفة في المرام، سينهي كثيرا من أقراح ‏العالم إلى جب التاريخ، لأن الأمم لا تكون تاريخا يمشي بالعبر، ما لم تمد يدها إلى سلال الزمن، فتختار الحبل الذي يصلها بالإنسان الأول، لعلها تشهد صولة الحياء بين ‏فراديس الوفاء. فلا علينا إذا تعلمنا في إحساسنا بالنكبة كيف نتحاور، وتلقينا من ألمنا بين الديار كيف نتجاور، لعلنا نظهر كامن السعادة برؤية ما يلسع على الوجوه ‏الصريحة، ويلمع من العيون البصيرة. ‏
‏ لكن إن لم نخص كل واحد بخصيصته الذاتية، ونحُد شكله بأبعاده الشخصية، فإننا سنجعل عذابنا رهانا في بقاء بعضنا، وانتحارنا عطاء لرقي غيرنا، لأن ما ينزف في ‏الإنسان من صوت الكون بين تراجيديا المأساة، هو الخيط الذي ينسج لنا معالم المعاني في حقيقة المصير، وملامح الرجاء في المسير، إذ تأملنا لكل الأصوات المتبتلة، ‏وتذكرنا لخشوعها في لحن المعنى، ورضوخها لصوت الإنسان، وخضوعها في نسك البيان، هو الذي يجعل الخلاص قضية مشتركة، لا أفعالا تتسابق في مضمار الفوز، وهي ‏منهزمة في ميدان القوة، لأنها ما انفجرت إلا لكسب معجزة الفداء، وخوارق الخلاص. وإلا، فإن النداء لن يسمع من الأعالي، إذا كان السهل ضاجا بصراخ الفلاحين، ولغط ‏السواقين، وجلبة المتبضعين، وإذا لم يسمع صوت الأدنى على قنن الجبال، كثر الهمس خوفا، والنجوى حذرا، وفي ذلك إبكاء للعيون المنتظرة للون السماء الأزرق، أو ‏المستنجدة لشعاع الشمس على فستان البحر.! ‏
قد يكون تعرفنا على النداء الذي يقطع المسافات المتنائية أمرا إيجابيا في جغرافيا أذهاننا، ولو في حدود خيالاتنا الجامحة بين تضاريس وجداننا، لأنه ‏هو الصوت الذي يعيد للصمت هيبته، ويفضى باللفظ إلى أن يلتف حول سياج غموضه، لكي يسكت أنين الرغبات الحقيرة، ويبدد طنين الشهوات ‏اللعينة، إذ هو في موقع الضعف، وموضع الانتظار، ينتشي بما يعتريه من شقاء، وما ينطوي عليه من بلاء، وإن تناءى به الوجع عن سكينته، وتباعد ‏به النوء عن لطفه، لأنه هدم الأصنام التي تتقرب إليها النفوس الضعيفة، وتضحي من أجلها العقول العليلة، لئلا يستشهد بالتحسر، ويفني بالكمد، فيكون ‏قبره مهجورا بين خلجان مترعة بعناق المستريبين، وبسمات المستهزئين. إذ تخلص المعنى من هذا الشرك الخفي الذي يبعده عن إله الحقيقة، ونصوص ‏الطبيعة، ووصايا الأجداد، وهي ظهور الإنسان بإنسانيته، وبروزه في ملكوت الكون بحريته، وعبوره بين ثغور الأرض بسلم، وأمان، هو الذي يمهد ‏السبيل لحرية الكلمات، وكمال العبارات، لأن ما نتعرف عليه في النقيض، وما نؤلف به عقد الاحتكاك على الأمل العريض، هو الذي يجعل هذه المعرفة ‏ضرورية، وربما كلية، إذ فيها منتهى العقل لدى العقلانيين، ومنتهى الحس عند الحسيين. وهي خطاب ينبثق من الأصوات في تكتلها، ويتفجر من الأنغام ‏عند تراكمها، ونداء ينشد على مداخل الدروب قصيدة الجدوى، وملاحم المعنى، لأن القدر الأسمى فينا، والأثر الأوفر معنا، هو كوننا قد وجدنا أفرادا ‏في لوحة الكون، ثم استطال الغشوم علينا، لكي يسلبنا الزروع، ويغتصب الضروع، فنصير بعد سؤدد امتلاكنا للنصيب قاصرين، وعاجزين. لكن هل ‏انتهت فرديتنا حين حفرنا في الجبال طرقا لعربات الغاصبين، وبغال الخائنين، وحمير الهاربين.؟
‏ كلا، لم نفجع بما وقع بؤسه، ولن نهزم بما طلع لؤمه، وكان حريا بنا أن نهون لغاراته، ونخضع لهجماته، لئلا نهمل بين فضلات الواجدين، فنؤوب إلى ‏ديارنا وسخين، ثم نصير في شدة حلكة المصير بدايئيين، ومن جبث السبل عدوانيين، لأننا إن دبرنا حظا سيئا في غايتنا، ودوَّنا حرفا رديئا على ثمرة ‏واقعنا، وأنشأنا مهادا لا ترتفع إلا بانحناءة قاماتنا النحيفة، وأقمنا على صلادتها مآتم لفوات حظنا من سطوع الوجود،و سرور الكون، فإننا لن نضمن في ‏تفاؤلنا أكنانا مرشوشة بعطر الحبق، والزعتر، ولن نشم في أملنا جبالا فواحة برحيق الشيح، والقيصوم، إذ الناي لا يستوهب من السماء صورةً نزَّت ‏عن عالم الملاك، إلا إذا نفخ فيه المغني حشاشة دم روحه المحترقة. فلا غرابة إذا كانت آية السعادة مقروءة بين دقيق الأوزان، ورقيق الألحان، لأنها ‏كما تستجلي من الإنسان صوته الرخيم، فإنها تعب من كأس الكون أنغام الطبيعة، وألفاظ الحقيقة، إذ هي تلك الصورة التي تسلسلت في أغوارنا، ‏وانحنت بين أعيننا، وانثنت عند حياضنا، لأنها لا تصون ذاتها إلا بحماية دارها، ولا تذود عن حياضها إلا برعاية حدودها، إذ زرع وردة الأمل على ‏الأرض حتم في رسم صفاء السماء، وغرس شجرة الوفاء في العقول لازم لنيل شفوف الروح، وحديقتها الفيحاء، لأن اللون لا يرسمه إلا دهشة فنان، ولا ‏يكتبه إلا صوت شاعر، ولا يصنعه إلا حدس حكيم. وهم في نهاية صوغ النتيجة لسان كل المنشدين لترنيمة السكون، والمترنحين بترتيلة الهدوء، إذ لا يفيد ‏الكلام معنى إذا امتحه عيي من بئر كدود، وفاخر به غبي، عنود، وفاجر به عدو، لذود، لأن دقة صوته في صياغته، لا في أوزانه المتنافرة، وأنظاره ‏المتعاندة، وحدوده المتعادية. وما أفلح من ظن المِطْراب ينتقي من قاموس العهر أمتع ألفاظه، وأسمى أوصافه .! ‏
وهنا نكون قد صنعنا أقفاص الخلاص في تناقض أحلامنا، وتطور قوالب امتزاجها بآمالنا، لأن تقدم جهودنا في اكتساب روح المنزلة، واكتساء جمال ‏المرتبة، لا ينفي عن صورة النصيب صفة الاشتراك، ولا يعني أننا نتجاذب بتضيق، ونتناظر بتملق، ونتحاور بتخوف، ونتجاور بتأسف، بل يوحي بأنها ‏مترابطة في صياغة الكل الذي يكبح رغباتنا، ويوجه شهواتنا، ويهذب نزواتنا، إذ هذا المتعدد الذي نوجز التعبير عنه بلغة محددة، ونخلص فيه إلى ‏دلالة مقيدة، هو المكنون الذي نُوَرِّي عنه، ولا يكاد يقع فيه الإبطال، أو يطرأ عليه الإعلال، لأنه مرتبط بحدود الملكية التي نحرص في تحصيلها على فهم ‏معنى الوجود، وفقه مبنى ما تثمر عند كل واحد نتيجةُ جهده، وحصيلة كبده، إذ ما يتقوم به من نواميس، ونظام، وما يتأسس عليه من عهود، والتحام، ‏وما يعتلي به من مواثيق، والتزام، يجعله مستوعبا للكل الجامع للأنصبة في كلية الأعيان، وإن اختلفت الأدوار في الوظيفة، وتنوعت الموارد بين معادن ‏الطبيعة. لكنه في أسمى قصوده، وأرفع حدوده، يمنحنا قناعة بضرورة الحفاظ على الأصول التي تجمع العائلة البشرية على يقين الاشتراك في لذة السعادة، ‏والمتعة. ‏
وإذا كانت هذه الأصول التي تحدنا بسنخ أفعالنا قائمةً بمضمون التفاعل على المشترك، والتصالح على النتيجة، فإنها تعلمنا كيف تكون الأمانة امتلاء، لا خواء، وكيف تصير العفة ‏إيجابا، لا نفيا، وكيف يغدو الحياءالتزاما، لا إلزاما، لأننا عند اختيار كل واحد لما يناسب قدرته، ويقابل جهده، يكون ما نتركه لغيرنا ملكا لنا في الحقيقة، إذ ما بين أيدينا، وظفرت ‏به جهودنا، ليس إلا ما عجز عنه نظيرنا، وما لم يكن لنا بقوة الطاقة، ولم تفرج عنه الملكة، ولم تثمره الموهبة، لن يكون إلا شللا في ناموس المزايا، وأخلاق الوظائف، لأن امتلاك ‏الطيِّش لجاه الحليم، والجاهل لمجد العالم، هو التحريف لعلامات الطريق، وإشارات المسير، إذ لا يدل على انعراج السبل إلا الدليل، الخريث، وإذا دل العماء على الذات ‏الشاهدة للزور بلباسها المسروق، وصوتها المستعار بلا معاني الأذواق، كان كل نصح منها سبيلا للهلاك، ومجازا للضلال، وغدا كل غر صائلا بالجبن، وخاسئا بالضعة. وإذا ‏فقدنا الأب الرحيم، والناصح الأمين، والموجه الشفيف، فأي كلام سيتلى على الرؤوس الغضة بالكآبة، والجريحة بالأحزان الموجعة، لكي تعود بضة الذكريات باليقين، ويصير الأمل ‏لغة ناعمة بين الأكوان.؟ لا غرابة إذا كان أجود الأشياء التي نعري وجهَ قصودنا في أسلاب فتنتها، لا نتذوق غرامه إلا إذا لم نحس فيه بغصب يعيقنا، أو غبن يبددنا، أو خوف ‏يكدرنا، أو ورم ينغصنا، إذ هو صورة الثمرة التي لم تولد عقيمة، ولم تنجب عليلة، بل وجدت لتكون روحا أزلية، وأنفاسا أبدية، تنفخ فينا صوت الإله، وصوت الإنسان، وصوت ‏الطبيعة، وصوت كل لسان يجهر بالخير، وينشد الفضيلة. وإذا دلت الأشياء على معنى التفاهة عند فقدان المعنى للجدوى، وانكسار ما نملكه عن الطوبى، كانت جميلة في ‏الرغب، لا في الطلب، لأنها تعكر كوامن البواطن، وتسوِّد ملامح الظواهر، وإن تبخترت بها الطواويس، أو انتشت بها النواويس. ‏
ولذا، لا يكون الطلب فاعلا بالمتعة الخالدة، ولا بالفائدة الراضية، إلا إذا كانت الصفة مكتسبة بوفرة العمل المرتجى به الاتفاق، والمأمول في التواطؤ، والمقصود بالاشتراك، لا ‏بجسامة المآدب الجشعة، وضخامة المكاسب الطمعة، ووجاهة الحواشي الهلعة، إذ وضعها في غير محلها، لا ينطق بصوتها، ووصلها في محل قطعها، لا يكتب سطرها، وتحريفها في ‏موقع وضوحها، لا يثمر إلا ألما في الديار، ونكد في الأرزاق. وإذ ذاك، لن تحدث التآلف بين الإرادات المتعاركة، ولا التصالح على الغايات المتعاندة، لأن ما نناله بالسوية، وفيه ‏روح الفعل، وعقل العمل، وقصد الأمل، هو الذي ينتزع من قلب الإنسان أسمى صور كماله، وأرقى ألوان جماله، لكي يحس بأنه أنيس بغيره، لا غريب في كليته، ووحيد في ‏كيانه. إذ لا نكون قادرين على نشر آيات السلم الذي نعول به، إلا إذا تأملنا في سرحان خيالنا، وجولان وجداننا، ونحن على ضفاف النهر، نرى الضفادع تصطاد إلى جانب ‏التماسيح، ثم نقول: كيف سنكون في نقوش اللوحة، وظلال الصورة، لو كنا سعداء جميعا.؟ وماذا سيخسر العالم، لو همست فيه الشمس بسرها، ونطقت فيه الأرض ‏بغموضها.؟ لو واطأنا القدر، وصافحنا الأثر، وركبنا سفينة تجتاز بنا صدر النهر، ونحن ولهى بما تغنيه الأحلام من مواويل الذكريات، وعطشى إلى ما ترتله الأماني من صبوات ‏الفراشات، لرأينا كيف نخشى الماء العكر، وكيف نأمل النجاة عند احتدام الأمواج، واشتداد الصراع، واسوداد الفضاء، لأننا لا نشهد على مرآة البحر عند يقين الفقد إلا ‏صنوف موتنا، ولا نرى في بطنه عند خوف الفوت إلا ضميرا يعادينا. لكن، لو اجتزنا المهالك، وسرنا على الضفاف طلبا للمدينة التي رسمها الفلاسفة، وسوروا قلاعها بحصون ‏فولاذية، لشهدنا أن ما نخشاه من اغتيال الحلم، لم يكن نارا مستعرة فينا، إلا حين كنا طعاما سائغا لغيرنا، لأن بلوغ الشأو في قضايا السعادة، لا يكتبه المعنى بين رسوم ‏الطبيعة، إلا إذا دل النظر على أعلى قمم البيان، وأرشدنا الفكر إلى مكامن الحروف بين أوتار الطبيعة، ونبهنا المعنى إلى جِنان المعرفة بين مروج الأرض، إذ هي ما نشهده من ‏تآلف الذوات على تطلابها لمعنى الحقيقة، وما نشعر به من لذة حين تنتابنا نشوة الرقص على بساط الدنى، ونحن متفقون على تفاعل الحركة البشرية مع معناها في اللغة، والتاريخ، ‏والحضارة.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد