الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة معًا …. كما أسراب الطيور

فاطمة ناعوت

2017 / 7 / 29
حقوق الانسان


قد يبدو عنوانُ المقال شعريًّا مجازيًّا، لكنه غير ذلك. قد يتبادر لذهن القارئ الكريم أنني سأتحدثُ، مثلا، عن العيش المشترك المتحضّر بين المختلفين فكريًّا أو سياسيًّا أو عَقَديًّا أو طائفيًّا، كما تدعو كثيرٌ من مقالاتي، لكن الأمر غيرُ ذلك. وقد يبدو الشطرُ الأخير من عنوان المقال: "كما أسراب الطيور"، كأنما هو عنوان قصيدة، أو قطعة أدبية، لكن الأمر غيرُ ذلك. فلستُ بصدد كتابة قصيدة، إنما أنا بصدد الكتابة عن "قصيدة" حيّة شهدتُها في صعيد مصر. لمستُها بيدي، وعانقتُها وقبّلتُها. دُهِشَ منها عقلي عجبًا، وخفق لها قلبي، فرحًا وزهوا.
مكتوبٌ على بابِهم ما يلي:
“هل سبق وتأملت سربًا من الطيور؟ هل تساءلت لماذا تختارُ الطيور دائمًا أن تطير في جماعات، بتناغم كامل وتآزر مُتقن؟ الطيرانُ في سربٍ يهبُ الطيورَ قوة ويمنحها الحماية. الطيرانُ ضمن قطيع يُزيد من فرصة نجاة كل طائر من أفراد ذلك القطيع. تلك هي فلسفة "القطيع الصغير" التي بلّورت النهج الذي عليه أنشأنا عالمنا الصغير: قطيعٌ من الطيور يحلّق معًا كطائر واحد، يُقوّي أحدُهم الآخر. نحن نحبُّ عالمنا ونكافح بكل ما في وسعنا من أجل تطويره. لهذا، نُكيّف استراتيجيات تطوّرنا وفق ثقافة كل مجموعة وحسب احتياجاتها. نؤمن أنه من أجل أن يغدو السربُ قويًّا، فلابد أن يتقوّى كلُّ فرد من أفراد تلك المجموعات المُهمّشة، حتى ينمو عفيًّا. ولكي نفعل ذلك، كان لابد أن نبدأ بمفتاح مستقبل أي مجتمع: الأطفال والشباب.... أولئك هم القطيعُ الصغير.”
دعوةٌ كريمة، جعلتني أزورُ ذلك العالم الجميل: مركز "الحياة معًا"، في قرية دير البرشا، مركز ملّوي محافظة المنيا، عروس النيل الجميلة. جمعني حديثٌ مع رجل الأعمال المثقف، مهندس محفوظ نصر الله، المشغول بفكرة "النشء الطيب" و"الطفولة الصالحة" في مصر. رجل ذو وعي رفيع، يعرف أن إصلاح مستقبل مصر يكمن في رعاية أطفالها الحاليين الذين سوف يغدون بعد بضعة أعوام هم شعبها الذي يحبّها ويذود عنها، وحكّامها الذين يصنعون قرارها ويقرّرون مصيرها. حدّثني عن دار أيتام يُفكر في إنشائها بالإسكندرية، ومن أجلها سافر من محلّ إقامته في كندا، إلى مصر الوطن حتى يضع لبِنتها، ويخطّط مراحل بنائها. ثم عرّج بنا الحديثُ عن مركز في صعيد مصر أنشأته طبيبةٌ نفسية شابّةٌ مع مجموعة من الشباب المثقف، تقوم فلسفتُه على "دمج" الأطفال المُهمّشين ذوي الإعاقات الذهنية، ضمن نسيج المجتمع، لمحو عزلتهم. لهذا اختار القائمون عليه اسم "الحياة معًا … القطيع الصغير" Life Together ... The Little Flock. الخميس الماضي، قمتُ بزيارة ذلك المركز مع مهندس محفوظ نصر الله، والسيد رأفت إسكندر، سفير النوايا الحسنة بالأمم المتحدة، فلمسَ قلبي الفرحُ حين رأيتُ ما يصنعه شبابُ بلادي في صعيد بلادي. أدركتُ يومها السبب وراء بقاء مصر رغم كل صروف الزمان التي تتوالى عليها على مرّ العصور. مصرُ باقيةٌ رغم المحن والعثرات، لأن بها بشرًا رائعين يعملون في صمت من أجل استقرارها، دون ضجيج ولا إعلام. شهدتُ بعيني الحبّ الغامر الذي تحمله قلوبُ مجموعة الشباب من المدرّبين والمعلّمين لأطفالنا الذين منحتهم السماءُ منحة الانفصال الجزئي عن واقعنا التعس الذي نحياه نحن بكامل وعينا. نُسمّيهم "ذوي إعاقة ذهنية"، وربما يُطلقون هم علينا أيضًا نفس المصطلح. فنحن من نصع الحروب، لا هم، ونحن من نقتتل من أجل المصالح الرخيصة، لا هم، ونحن من نكره ونتآمر ونتباغض، لا هم. هم يعيشون في عالم مسالم جميل لا يعرف سوى الحب. وربما كانت فلسفة دمجهم في نسيج مجتمعنا، حتى نتعلّم نحن منهم الحب، قبل أن يتعلّموا هم منّا الحياة. في عام 2006، نظرت مجموعةٌ من شباب مركز ملوي حولهم في تلك المنطقة من صعيد مصر، فحصروا ما يزيد عن 1250 طفلا يعانون من الإعاقات الذهنية المختلفة، ولم يجدوا أية مراكز تقدّم لهم الرعاية، على طول خمسين قرية شرق النيل وغربها يعيش فيها ما يقارب المليون نسمة. فقرر ذلك الشباب الواعد من فورهم إنشاء ذلك المركز المتخصص وبدأوا في التخطيط وإعداد الكوادر المُدرّبة على أحدث أنظمة التأهيل العلمية عام 2006، وتم افتتاحه وتشغيله عام 2009. كانت فكرة المركز هي تأهيل ودمج، ليس فقط الأطفال المأزومين، بل وأُسرهم أيضًا. يبلغ عدد العاملين بذلك المركز الرائع حوالي 60 شابًّا وشابّة، منهم أربعون مدّربًا من خريجي الجامعات، وعشرون إداريًّا. يرعى المركز ما يزيد عن 200 فردًا من ذوي الإعاقة، من عمر يوم واحد، إلى عمر 20 عامًا، سواء بتقديم خدمات مباشرة داخل المركز، أو من خلال تدريب وتمكين الجمعيات الأهلية المحيطة بالقرى، من إنفاذ فلسفتهم المتحضرة: "التأهيل المرتكز على المجتمع". تلك الفلسفة التي تعمل على توعية المجتمع ليُطوّع إمكاناته المختلفة لخدمة الأشخاص من ذوى الإعاقة، التي تتدرج من الإعاقة الذهنية البسيطة إلى المتوسطة إلى الإعاقات البالغة. هذا المركز هو أحد روافد مؤسسة "القطيع الصغير" المُشهرة بالقاهرة عام 2009، وتعمل بالتعاون مع الجهات الحكومية والمؤسسات الاجتماعية والتنموية في مصر، تحت فلسفة: " تنمية إمكانيات الأشخاص المهمشين ليصبحوا ذوي فاعلية فى أسرهم ومجتمعاتهم.” وهذا يقترب من النهج الغربي الذي تنهجه الدول المتحضّرة. أولئك الأطفال لا يتم عزلهم في دول العالم الأول بمدارس منعزلة، بل يذهبون مع أقرانهم إلى المدارس العادية، مع وجود مدرس ظل، Shadow Teacher مرافق لكل طفل، يساعده على التعلّم والاندماج مع بقية الأقران. لأن عزل أولئك الأطفال يُزيد من تعثّرهم، ويخلق بينهم وبين أقرانهم سورًا عاليًّا لا يستطيع الواقفون على جانبيه، من الطرفين، هدمه ولا تخطّيه في مقبل الأيام. تحية احترام وفخر بذلك المركز والقائمين عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القسام تنشر فيديو أسير إسرائيلي يندد بتعامل نتنياهو مع ملف ا


.. احتجاجات واعتقالات في جامعات أمريكية على خلفية احتجاجات طلاب




.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - ألمانيا تعلن استئناف التعاون مع


.. بدور حسن باحثة في منظمة العفو الدولية: يستمر عقاب الفلسطينيي




.. تدهور الوضع الإنساني في غزة وسط تقارير بشأن عملية برية مرتقب