الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لوحدهما، كانا...

يعقوب زامل الربيعي

2017 / 8 / 1
الادب والفن


قصة قصيرة
........
" ... كم مرّة أغرقتني بذراعيك كي تمسك بيّ، وكم تأملت بيّ، كأنك تحاول الوصول لشبح لا تراه ؟.وكنت أسألك كما الطفل الساذج: " لماذا تصرّ عبثاً، والشيء الذي تحبه يتلاشى مذ تراه أو حين تحاول أن تمسك به "؟.
كانت، مع عدد من رفيقاتها الجنيات، يغطي جسدها ريش العالم المظلم. مكفهرة الوجنتين ينسدل شعرها الأسود على كتفين بالقشرة الشاحبة. شفتاها شاحبتين لم تمسهما عافية أي طعام.
قالت:
" الحياة والموت تجعل مني كائناً آخر. هكذا تراني منهمكة بالركض، بلا حيطة "!
سألها، تبعث به لذة صنعت ظلالها ضفاف الطبيعة وحدها : " من أين يجيء ريشكِ، وأنتِ غير قادرة على التحويم، ومع هذا تمضين مثل مليكة تمتد سلطتها جميلة وشجاعة " ؟.
أجابت : " الغيوم تثقلني بالمطر.. الغيوم أكثر رغبة مني "!
الحركة الارتدادية للجمهور الغاضب في ساحة التحرير، لم تتراجع كثيراً، كانت تحاول ان تنفذ أعمق وأعمق. لم يرتعب المتظاهرين من رؤية السلاح بيد الجنود المسلحين، ولم تثنهم أسنَّة الحراب. ولأن لا محمية لفاحشة السلطة، كانا ينقلان الارض من تحتهما من مجد لمجد. يَعلّنان نفسيهما على اذرع المرتفعات، وإلى أعلى مستوى، شريكين مدى الحياة. يبدوان مرئيان وهما يضعان أقدامهما على خشبة المسرح، مُتَوّجين بأغصان الآس. يقفزان على صوت الجمهور الثابت، مُتجرَديّن من ثقلهما المألوف، وما يترنح تحتهما، ليس سوى مَركبٌ مائل الجوانب. كأن " ساحة التحرير" هو المكان الذي تصعد منه الإلهة إلى الكلمات العظمى، مشيرة إلى القلب المأمول الذي عليه أن ينظم شؤون العالم.
شعر بيدها تتمسك بكفه بقوة، كانت باردة. فكر : " كيف لربة الينابيع وهي المثقلة بالثمار البيضاء، والتي لوحدها تستطيع أن تسقي ما ينبت وما يتحرك بدم الحياة، أن تمضي وحدها لجبل من الجليد، كأن لم يكن لها حبيب أو صديق حميم، يحوّل دون تحوّلها لجسد سمكة خرساء؟!
كأنها، وقد استخرجت النصل من بين اضلاع صدرها، استسلمت لحرارة الدموع الغزيرة التي سقت رموشها والخدين.
في تلك اللحظة، شعرَ بأنه شَغَفَ بها حتى العظم. كان يكسوها بالعشب الدافئ، ويربط شَعرَها الفاحم بشريط أبيض عَقَدهُ بعناية. حولت نظرها إلى مكان بعيد، ومضت تهمس:
" سبعة شهور، بنهارها ولياليها، وأنا سبية للمعتوهين، يتناوبون جسدي من خيمة لخيمة. لا أعرف أي الوجوه تأتيني بوحشية وتغادرني طريحة الحمى والغثيان. ما كانوا يتركون على لحمي غير الهمهمات العفنة والمخاط والتمزق البربري".
تخيل صورتها، وهي تتدلى كشاة ذبيحة، رجليها معلقتين على أكتاف من حديد، ورأسها يستولي عليه المجهول بعد المجهول. طالبة نجدة الموت يأخذها لمكان من جليد، ولأحشاء لا قعر لها.
تمنى لو أنه في تلك الساعة، بدل الهواء الذي لا يمسك، والدم الذي يجري بعفوية الجدوى، فأسا من جحيم، وذراعاً من كتلة عروق، ليندفع بكل شهوة الجمل الوحشي للثأر، ليندس بكل عنفوان اللهب في كل ناحية من مكان اغتصابها.
زحام المهزومين، كان يغطي الارض. يوم ذاك، لم يكن أحداً يؤمن بحرب غير شريفة. وكانت لغة السلاح ملقاة ذليلة على الرمضاء، تغطيها الرمال الحارة، وتهرسها سرف الدبابات الأجنبية الزرقاء.
فكر بشرود:
" لم يخن أحدنا الحرب، ولم يستول على قلب أحدنا رعب المصير، لكنها كما مضغة الترياق، كنا نعلك نوازعنا بمرارة.
يوم ذاك، عندما جاء القادة المهزومين والمنتصرين والأوسمة على صدورهم والغبار إلى " خيمة صفوان " ليوقعوا صك الهزيمة على مرأى العالم وسمعه، كانت أول بوادر الكارثة.
في ذلك اليوم استولدت روحي، معنى أن تحاط خيام سبايا كربلاء بمشاعل جنود يزيد بن معاوية، ليحرقوا خيام على ما تبقى من نساء وأطفال، إمعاناً بالحقد والتشفي من غرماء التاريخ الذين رفضوا توقيع الاستسلام حتى مقتلة آخر رافض فيهم "!.
سمعها تقول: " كم أكره الخيام " ؟!
عندها فزت في قلبه خيام الصحراء القاحلة، بما عليها من بدوٍ ورمال ومن زواحف تفح من جوع ليل نهار.
رددَ، وكأنه يحصن اللحظة بالشمع الاحمر،
ــ " لننصت لضوء الحقيقة. كل الحقيقة ولا شيء غيرها. لنتأكد أننا نبتسم بحرارة، حتى نذيب الثلج والغبار " .
لن يضعا تزامنا جديدا، بكل بساطة جثيا على ايقاعهما المرح. تنفسا سوية كما طفل اكتشف قمره الحالم، يطلبان اجتيازهما لفسحة مجال الأمن.
العاشقان المتجاوران القريبان بالصوت والتنهدات وبالدم الغضّ، ما الذي يكلفهما أن يسمح لجسميهما أن يلتقيا؟.
عندما شد ذراعه على طية خاصرتها، كانت ثمة رغبة تدفعه أن يتحقق من وجود لحمها بين يديه، وأن لأصابعها اغصان صغيرة وافرة بالرسائل السرية الدافئة، أنشد يغني:
" أيتها السومرية
المنفوشة الشعر والذراعين،
تحولي في اللجة، من جسدٍ لجسد
وكالجلالة المهيبة
أزرعي التماس نهديك للمطر.
وحتى لا يوحشك تكرار المآتم
أتبعي انكيدو،
ما من شيء يجرؤ على حبه الجامح
ما من شيء يوقف رمقه الأخير ".
كانا يسمعان نداءات باعة الخضار، وعطر الجوري. وبعيدا عنهما كانت الشوارع تفسح الطريق للسيارات المجنونة وللأصوات المتواترة، حيث بالكاد كانا يسمعان جلبة الهياكل الحديدية وتدافع القوائم المضطربة. وحدهما كانا يستمتعان بمرفأ النقوش، وأصوات ما قبل التاريخ والممالك الشاسعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا