الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور الإعلام في بناء مدينة مواطنة

سعيد هادف
(Said Hadef)

2017 / 8 / 3
الصحافة والاعلام


فلو كانت الدولة قد خرجت إلى البادية بالمدرسة والكهرباء والإسفلت والمستوصف... لو كانت قد خرجت إلى البادية ببعض الحضارة فقط، لما يمّمت هذه شطر المدينة بكل البداوة. فها هي البوادي قد دخلت المدن بسواطيرها ودوابها وكلابها وقاموسها وطريقة عيشها... فوسمت المدن بميسمها، حتى أن ما كان يعرف سابقًا بالبولفار أصبح الآن عبارة عن سوق أسبوعي يقام يوميًّا وتحت أضواء النيون. فإذا الكثير من المدن، بندوب في الوجوه والشوارع، تحتاج أن تقسم بالثلاثة قبل أن نصدّق، على مضض، أنها فعلا كذلك. (الشاعر المغربي سعد سرحان)*.

في الحاجة إلى براديم جديد
ما هو الإعلام؟ ما مدى دوره في حياتنا، وما درجة تأثيره فينا؟ وكيف يضطلع بدوره في بناء مدينة مواطنة؟
وما هي المدينة؟ المدينة الفاضلة والمدينة الفاسدة؟ وما هي المواطنة؟

إن مقاربة دور الإعلام في بناء مدينة مواطنة تلزمنا بصياغة عدد من الأسئلة بحثا عن "براديم" يتيح لنا فهما وتمثلا صحيحين للإشكالية؛ وذلك انطلاقا من تحديد المفاهيم ذات الصلة بالمدينة كمكان يتصارع فيه وحوله وعليه أنصار المدينة الفاضلة/ اليوتوبيا (Utopie)، والفاسدون الذين يعملون على تحويلها إلى مدينة فاسدة/ ديستوبيا (Dystopie) .
وإذا سلمنا أن المدينة الفاضلة كما حلم بها الفلاسفة لا يمكن تحقيقها، فإن الإرادة البشرية في بعدها الإنساني لا تزال تقاوم ضد أعداء الخير والحق والجمال ومن أجل مدينة لا تستسلم للفساد والخوف والرداءة.
تعمل مجتمعات الجودة على وضع تصاميم حديثة للمدن، تصاميم لا تكرر الأخطاء وتعمل على إشراك كل الحقول المعرفية ذات الصلة بموضوع المدينة، مدينة تضع الأيكولوجيا في حسبانها، تتوفر على سهولة المرور والتنقل، وشروط التنمية والأمن وكل ما من شأنه أن يؤمن طيب العيش، باعتبار المدن « المكان الذي يجري فيه بناء المستقبل». [1]

الطبيعة والثقافة: الثنائية التفاعلية
الطبيعة: هي المرحلة التي عاشها الإنسان في علاقته بالطبيعة ككل الكائنات الحية، أي قبل أن يخترع الأدوات والوسائل وقبل أن يكتشف النار وتصبح الطبيعة تحت سيطرته، وذلك قبل آلاف القرون.
مفهوم "طبيعة" /"nature" ، وفد على حقل التداول العربي، من أوروبا. والكلمة جاءت من اللاتينية "naturia" التي تعني الميلاد ، وتدل على كل ما ظل على حالته الفطرية، أي لم تتدخل في تعديل طبيعته اليد البشرية، وبالتالي ظل محافظا على حالته البكر. حين نتصفح تاريخ الفكر البشري، نخرج بخلاصة مفادها، أن الحياة على الأرض تفاعلت عناصرها بشكل طبيعي، ولم يشذ الكائن البشري عن هذا المبدأ في علاقته بذاته من جهة وبمحيطه الحيوي من جهة ثانية. كانت حياة الإنسان قائمة على ما هو طبيعي، في المأكل والملبس والمسكن وفي التناسل.

العلاقات بين مفهومي الطبيعة والثقافة، في القرن العشرين، عرفت ارتباكات عميقة، نظرا للمراجعات أو جراء تحولات القيم التي مثلت الحالة العامة للفكر المعاصر.
على صعيد ثان، فإن تمايز الطبيعة والثقافة تم من وجهة نظر حرية الفعل. الطبيعي، هو العفوي أولا وقبل كل شيء.[2]

يلح بعض المفكرين في مراجعاتهم على أهمية التدقيق وأن نميز بين معنيين لكلمة الطبيعة (nature)؛ بالمعنى الواسع، هي كل شيء طبيعي، كل شيء ينتمي إلى الطبيعة: كل شيء، بما في ذلك البشر، تحكمه القوانين الطبيعية الكونية (قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا). بالمعنى الضيق، فإن الطبيعة تربطها بالثقافة علاقة تعارض/تقابل، فهي تعارض كل ما يتعلق بالإنسان، وكل ما هو مصطنع (artificiel).
إنه من السهل جدا أن نميز الثقافي عن الطبيعي. حينما نتنزه في الطبيعة، نحدد بسهولة كومة من الأحجار من صنع الإنسان، أو شكلا هندسيا تم رسمه في الرمال. نخمن بشكل عفوي أننا أمام منتوج ثقافي [3].

الثقافة: هي انتقال الإنسان من مرحلة كانت علاقته بالطبيعة محصورة في العيش على غلالها كما يعيش أي حيوان إلى مرحلة أصبح فيها منتجا لمأكله وملبسه وموارد عيشه (سيرورة التجارب والخبرات في الزراعة والصناعة والصيد وتربية الحيوانات)، أي أصبح يتدخل في الطبيعة بوصفها مكانا لمسرح أنشطته، ويصوغها وفق تصوراته وحاجياته وحسب الإمكانات والوسائل التي ابتكرها من أجل البناء والنسيج وإعداد الحقول وتدجين الحيوانات....

ومن المجدي، هنا، أن نعود إلى المراجعات التي تلح على التدقيق في المفاهيم والتمثلات، حيث يجب التمييز بين المعنى الفردي للثقافة ومعناها التاريخي.
بالمعنى الفردي، الثقافة تتشكل من مجموعة من المعارف والمهارات. يمكن للمرء أن يفهم معنى هذه الكلمة انطلاقا من التربية (بيلدنغ باللغة الألمانية)، وانطلاقا من الثقافة بمعنى الفلاحة: يتعلق الأمر بتطوير بعض الملكات الجنينية بعمل مناسب. تطور هذه الملكات الخاص بالجنس في كليته، يمكن فهمه على المستوى الفردي أفضل من فهمه على المستوى التاريخي.
في الواقع، إن الثقافة تنتقل وتتطور من جيل إلى جيل. نتحدث هنا عن الثقافة الجماعية، التي تعني مجموعة من المؤسسات، يعني مجموعة من أنماط الممارسة، والتفكير والعيش التي تتجسد في أعمال (الدين، إنتاجات فنية، اللغات والإنتاجات التقنية والأنساق السياسية، والعلوم والفلسفة والعادات والتقاليد، وما إلى ذلك).

الثقافة هي إنشاء نسق جديد يتم فرضه، أو بالأحرى، يتم خلطه بالنسق الطبيعي ويعني أن الكائنات البشرية، في تناميها وأنشطتها، لم تكن أبدا محدودة بطبيعتها البيولوجية، وكذلك إنشاء التمييز بين الطبيعي (النسق الضروري) والثقافي (النسق التعاقدي).
لذا يجب علينا أن نميز بين مفهومين:
- مفهوم الفرد البشري الذي يشير إلى عضو من جنس طبيعي، محدد بيولوجيا.
- مفهوم الشخص البشري، والذي يشير إلى كائن اجتماعي، متموقع تاريخيا.
الكائنات البشرية هي في ذات الوقت أفراد بشريون وأشخاص بشريون، ولهم في ذات الوقت طبيعة وثقافة، كيف نفصل الواحد عن الآخر؟ وبعبارة أخرى، ما هي حدود الطبيعي وما هي حدود الثقافي؟
قد سبق لباسكال أن لاحظ صعوبة التمييز. ما دفعه إلى القول: "يتوجس الوالدان، من زوال حب أطفالهما الطبيعي لهما. ما هي إذن هذه الطبيعة القابلة للتلاشي؟ ما هذه الطبيعة؟ أخشى أن تكون هذه الطبيعة سوى عرف أول ، كما أن العرف ليس سوى طبيعة ثانية ".
باسكال في هذه الملاحظات رأى بوضوح ثلاث نقاط مهمة:
الطبيعي شيء له طابع الثبات، الديمومة.
الثقافي ("العرف") هو بشكل من الأشكال طبيعي لدى الإنسان. فالإنسان بطبيعته كائن ثقافة. (باسكال يتحدث عن "طبيعة ثانية").
وذلك نظرا لأهمية الثقافي ونسبية الثبات لدى الطبيعي، فما يكون غالبا قيمة ثقافية أساسية لدى مجتمع ما، فإننا نميل إلى ترسيمه طبيعيا، وضمان بعض الاستمرارية لهذه القيمة. [4]

اكتشف الإنسان قدراته ومزاياه التي تميزه عن باقي الحيوانات، فبدأ يبدع وسائل ومصادر عيشه؛ وهذا التحول المتجدد في علاقة الكائن البشري بمحيطه الطبيعي كان نتيجة قدرته على الإبداع في استغلال "الطبيعة" من أجل حياة أفضل، غير أن هذا التحول كان ينطوي أيضا على مخاطر ومضاعفات، فالكائن البشري "المبدع" هو أيضا "مفسد" (مدمر ومخرب ومبذر وعدواني وجشع...)، وبقدر ما كان مبدعا في استغلال الطبيعة من أجل حياة مريحة كان أيضا "مفسدا" لشروط تلك الراحة.
وهذا يعني أن التطور الذي طرأ على حياته تأسس على بعدين/ رغبتين:
- بعد الازدهار: وهو بعد كان بفضل علاقته الخلاقة بالطبيعة؛ وبفضل رغبة مبدعة ظلت تحدوه وتقوده في اتجاه ملكوت الجمال؛
- بعد الفساد: وهو بعد كان بسبب علاقته الجاهلة بالطبيعة، وبسبب رغبة مدمرة ظلت تدفعه في اتجاه ملكوت الخراب جراء أنشطته المعادية لمحيطه الطبيعي.

في غمار انتصاراته التي أخضعت الطبيعة إلى إرادته، فإن الكائن البشري ذهل عن المقاصد التي كانت وراء إرادته في السيطرة على الطبيعة، فتغولت نزعته التدميرية (نزعة الإفساد) على نزعته الإبداعية (نزعة الخلق) حتى باتت "السيطرة" هي مقصد المقاصد.
فكل ما راكمه الذكاء البشري من علم ومعرفة وما أنجزه من مدن ومبتكرات هو الآن محل صراع بين جبهتين:
- جبهة الفساد، وأهم أنشطتها تقوم على الحروب والمؤامرات وخطاب الكراهية والعنصرية، تسهر عليها شركات مفترسة؛
- جبهة الإصلاح، وهي تدعو إلى السلم والتسامح والتضامن وأهم أنشطتها ذات بعد بيداغوجي تنويري، تناهض الحروب وتدافع عن البيئة.
جبهة الفساد سطت على كل المنجزات والخيرات واستثمرت ذلك في صناعة الحروب والفقر والخوف، وكانت المدينة مسرح هذه الدراما في تنفيذ نمط عيش معاد للجمال.
غير أن الإرادة المبدعة ظلت متقدة الشعلة ضد ليل بهيم تصنعه أنانيات مسلحة بكل أسباب القوة عرفت كيف تستغل بمهنية عالية معدن الجهل وتسمم حياة الناس.
هذا الخلل الذي تعاظم بسبب التدخل البشري الأناني في الطبيعة، وهو تدخل منفلت أخلاقيا وجماليا بشكل سافر، أصبح "نسقا" تتغذى عليه الأعراف والسياسات وتحميه قولا وعملا.

من المؤكد أن هذا الخلل أثار انتباه "الإنسان السوي" في كل الأزمنة وقد انتبه إليه فلاسفة ومصلحون وأنبياء، غير أن الأيكولوجيين انتبهوا إليه بشكل نسقي ومنهجي وجعلوه جوهر انشغالاتهم. وكان لابد من إدانة هذا "النسق" الذي تأسست عليه علاقة الإنسان بالطبيعة وفضح خلفياته ومقاصده المعادية للإنسانية.

ونلحظ اليوم ظاهرة العمل على ابتكار "نسق بديل" تكون فيه "الثقافة" صديقة للطبيعة، أي "صديقة للبيئة"، أي تكون فيه الثقافة واعية بنقصانها وهمجيتها المتنكرة في زخرف القول ورونق الكلمات، وبالتالي تكون ثقافة مبدعة في الطبيعة وبالقدر نفسه تكون الطبيعة شريكة كاملة الحقوق في بناء هذا النسق البديل.


المدينة:
حين نتصفح سجل التاريخ نجد المدينة من فضاءاته الرئيسة، إنها جزء من كينونته جنبا إلى جنب مع أبطاله الإشكاليين ومعاركه الضارية ومنجزاته الحضارية وعجائبه وأساطيره. فمن مدينة أور وبابل وسبأ إلى نيويورك، باريس ، لندن وطوكيو مرورا بأثينا وطروادة وروما ومكة ويثرب وبغداد وغرناطة وطمبوكتو وفاس وتلمسان ومن مدن أخرى، ظل التاريخ يتدفق بألقه وجبروته جارفا في مجراه الرهيب الضعفاء والأقوياء على قدم المساواة.
وإذا كانت الحضارة هي روح المدينة فالمدينة هي شكل الحضارة. والمدَنيّة (المشتقة من المدينة) هي مرادف الحضارة ، كما أن الحَاضِرة لدى العرب تعني المدينة، وهي لدى الغرب اكتست طابع القداسة فكلمة (سيتي) تعني المدينة المقدسة، ومنها تفرعت عدة مفاهيم مثل الحضارة والمواطنة والمجتمع المدني...

المدينة ليست مجرد بنايات وشوارع، إنها فضاء تتفاعل فيه الرغبات والمصالح والأحلام والأفكار والأحاسيس والأهواء والمشاكل... فضاء يقتضي مشروعا متناسقا من فن التدبير والتسيير والتأثيث المادي والمعنوي، المعماري والقانوني، الجمالي والأخلاقي.

المدينة (cité) : كلمة تدل على تجمع سكني دائم إزاء التجمعات السكنية الرحالة وهي التجمع السكني الأكبر والوسط الفيزيقي الأكثر كثافة سكانية والفضاء المهيأ من أجل تيسير ومركزة الأنشطة (التعمير، التجارة، الصناعة، السياسة، الثقافة....). ويمكن القول في ضوء تاريخ البشرية وتاريخ المدينة، أن المدينة هي التجمع السكني الحضاري المؤسس للدولة، وأن الدولة في صيغتها الأولى هي (المدينة الدولة) قبل نشوء المملكات والإمبراطوريات ثم الانتقال إلى (الدولة الأمة) ثم الفيديراليا. إن التطور الذي جاءت به التجارب والنظريات في شأن الدولة، فإن المدينة كانت ولا تزال المنطلق والأساس لهذه النظريات والتجارب السياسية والقانونية والاجتماعية.

المدينة هي نتاج انتقال الإنسان من مرحلة (الطبيعة - Nature ) إلى مرحلة (الثقافة - Culture)، وبالتالي فإن كل المفاهيم التي تهيمن على حقل التداول الإعلامي في علاقته الجدلية بباقي الحقول (السياسية، القانونية، المدنية، الأكاديمية، الإقتصادية، البيئية، الاجتماعية) هي مفاهيم ترتبط بالمدينة وبكل ما تعيشه من تحولات وإكراهات.
وقد قارب مفكرون وسوسيولوجيون هذه الإشكالية، ومن ضمنهم المفكر الفرنسي “هنري لوفيفر” حيث اقترح إطارا نظريا وجهازا مفاهيميا لمقاربة الظاهرة الحضرية، وقد بين أن الظاهرة الحضرية والمجال الحضري هما في آخر المطاف انعكاس للعلاقات الاجتماعية وتجسيد ملموس لهذه العلاقات، كما أنه فهم المجال الحضري بوصفه حلبة صراع بين استراتيجيات سياسية مختلفة ومتعارضة تتوخى مراقبة المجال قصد التحكم في سير المجتمع ككل. وقد ميز “لوفيفر” في مقاربته للظاهرة الحضرية بين الوظائف والبنيات والأشكال الحضرية.


المواطنة:
إن مفهوم المواطنة (citoyenneté)، مشتق من كلمة الموطن/المدينة وليس من كلمة الوطن/الأمة؛ فالمواطنة هي جملة من القيم السياسية الوضعية التي تهدف، أصلا، إلى تقوية الشعور بالانتماء إلى المدينة (cité) كفضاء ملموس، حي وحيوي، تعميقا للانتماءات التقليدية كالعائلة والقبييلة أو الانتماءات المذهبية والسياسية كالطائفة والحزب، وليس نقضا لها، كما أنها تصب في الانتماء إلى الأمة، بل وإلى العالم. الانتماء فاعلية وتفاعل، إذ لا يمكن للمواطن أن يتفاعل إلا داخل فضاء ملموس هو "المدينة"، بوصفها فضاء للعيش، متعدد الأنشطة والتفاعلات، فالمواطن يجب أن يخلص لمدينته ضد كل الانتهاكات التي تتعرض لها وتثبيتا لكل ما يصونها كفضاء إنساني، من أمن وشفافية وتنمية ورفاهية وجمال؛ وبالتالي فإن المواطنة بشكل من الأشكال هي الولاء للمدينة التي نعيش فيها.
لقد كانت المدينة قديما محصنة بأسوار عالية وسميكة معززة بحراس وأبراج للمراقبة، تأهبا للذود عنها كلما تعرضت إلى الغزاة.
بعد التحولات التي عرفتها البشرية لم تعد نلك الأسوار ممكنة، لعدة أسباب، أبرزها التمدد المتواصل للمدينة، لكن السبب الحقيقي يكمن في عدم جدوى تلك الأسوار، لأن الخطر الحقيقي الذي يتهدد المدينة يوجد داخلها، فكانت في حاجة إلى سور أكثر متانة، قابل للتطور وغير قابل للاختراق. فأبدع العقل البشري سورا من القوانين والمؤسسات.

الإعلام
مبدئيا، تتطلب الشفافية تدفقات حرة للمعلومة, فبدون صحافة حرة وتعددية، يستحيل الحديث عن أي شفافية, إن التعددية تقتضي منافسة السوق وكذا التنوع، ويعد ظهور قواعد الصحافة المهنية ومعاييرها، أمرا رئيسا في تنمية حرية الصحافة .[5]

ما هو الإعلام؟ ما مدى دوره في حياتنا، وما درجة تأثيره فينا؟ وكيف يضطلع بدوره في بناء مدينة مواطنة؟
الإعلام قديم قدم البشرية. فالإنسان قديما كان يتلقى الحياة عبر وسائل إعلام ذلك الزمن: رواة الأساطير والخرافات والحكايات الملحمية والأشعار والأخبار المنقولة عن طريق القوافل التجارية أو عن طريق المغامرين والعائدين من الحروب والكهنة... وكانت البشرية كلما أحرزت خطوة في التقدم التقني، أحرزت معها تقدما في القدرة النوعية على التواصل وسهولة انتقال المعلومة، وكانت الصحافة من أهم الابتكارات في مجال الإعلام والتوثيق.
الاستعمال الشائع لمفهوم "الصحافة" كان محصورا في إعداد الجرائد، وبعض المجلات، لكنه مع مرور الوقت، اتسعت الصحافة لتشمل باقي صور النشر الأخرى. فأضحت الصحافة هي جمع الأخبار ونشرها، ونشر المواد المتصلة بها، في مطبوعات، مثل الجرائد، المجلات، الرسائل الإخبارية، المطويات، الكتب، وقواعد البيانات المستعينة بالحاسبات الإليكترونية. ومع ثورة تكنولوجيا الاتصال اتسعت الصحافة إلى كل ما هو رقمي وإلكتروني.
والصحافة وسيلة من وسائل الإعلام، بل الصحافة كما هو معلوم، قسم مهم من أقسام الإعلام، وحسب العارفين فإن الكلمة وسيلة أساسية لا غنى عنها في أي منتوج إعلامي سمعيا كان أو مرئيا، إذ بدونها يبقى هذا المنتوج عديم الدلالة والمعنى.
البعض يرى أن الصحافة فن، والراغب في العمل فيهـا لا بد أن يكون موهوباً. وأن الصحفي يولد، وفي يده القلم، وفي رأسه الفكرة، على حد تعبير بعضهم. بينما يؤكد آخرون أن الصحافة مهنة، كسائر المهن، في المجتمع، تحتاج إلى استعداد طبيعي، ولكنها، كأي مهنة، لها مكونات ثلاثة هي: المعارف، والمهارت، والقيم، التي يمكن اكتسابها، وتطويرها، تعليماً وتدريباً.
"الدراسة والتجربة " عاملان أساسيان في مهنة الصحافة، الذكاء وحده لا يكفي، فهو في حاجة إلى من يتعهده ويرعاه، حتى لو سلمنا بأن الاستعدادات الطبيعية هي مفتاح النجاح، في جميع ميادين النشاط الإنساني"، وأن الصفات الخلقية ـ وهي لازمة للصحفي الناجح ـ تنمو بالعلم والتجربة.
- أن الصحافة هي أكثر المهن حاجة إلى أوسع المعارف، وأعمقها، ويتساءل بوليتزر: هل يصح أن تُترك هذه المهنة، ذات المسؤوليات الكبيرة، تُمارس من دون أي تأهيل منتظم. وجدير بالذكر أن بوليتزر أوصى، عند وفاته، بمليونين ونصف مليون دولار، لتأسيس مدرسة صحافة، وإنشاء جوائز سنوية باسمه لأحسن إنتاج، في مجال الصحافة والأدب.
- إن الصحافة، تختلف عن سائر المهن الفكرية الحرة، كالطب والهندسة والمحاماة، من حيث إن العمل فيها لا يقتصر على لون واحد، من الألوان المتعددة للمعرفة. بل هي مهنة مفتوحة، لا مغلقة، تحتاج إلى ثقافة ذوي المهن الفكرية الأخرى.
- إن إنشاء منبر إعلامي صناعة قائمة بذاتها، صناعة يجمع بين المشروع الفكري والتدبير المقاولاتي.
- الفن الصحفي جزء من كينونة الممارسة الإعلامية، يتضمن مزيجاً إبداعياً من فن التحرير الصحفي، أو الكتابة بلغة تناسب الصحافة، كوسيلة، وتتسق مع سمات جمهورها، والتصوير الصحفي، والرسوم اليدوية بأنواعها الساخرة، والتوضيحية والتعبيرية، وفن الصور الصحفية والرسوم، ثم الفن الإعلاني، وأخيراً، فن الإخراج الصحفي، الذي يتولى عملية الإبراز والتنسيق والجذب، للمادة الصحفية.

في زمننا الراهن أصبح الإنسان أكثر قربا من العالم من أي زمن مضى، لكن هذا لا يعني أنه أكثر قربا من الحقيقة، لماذا؟
إنه أكثر قربا من العالم بفضل الترسانة الإعلامية التي تغزو حياته من كل الجهات وبكل اللغات وبكل الوسائل المقروءة والسمعية والبصرية فضلا عن الوسائط الإعلامية الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي... غير أن هذه الترسانة الإعلامية في الغالب، لا تضيء الحقيقة إلا في الاتجاه الذي يخدم أجندات معينة، وفي الغالب، لا تتحدث عن الحق إلا تثبيتا للباطل، وهذا أمر مبرر لدى القوى المتحكمة في ناصية العالم والتي تسعى بكل الوسائل إلى التحكم في الرأي العام الأممي. لكن ماذا عن الإعلام الذي يتوهم أنه يدافع عن قضايا عادلة وقضايا الشأن العام بينما هو يضر بهذه القضايا دون وعي منه ويخدم عن جهل، مخططات أعداء هذه القضايا.

ونعيد، مجددا، طرح السؤال: ما هو الإعلام؟
إنه كل خطاب نتلقاه في حياتنا اليومية: من هذه الجريدة أو تلك، من هذه الفضائية أو تلك، من هذا الكتاب أو من هذا الفيلم أوهذا الشخص أو ذاك، في المنزل، في المقهى، في المسجد، في المدرسة، في العمل، في الشارع.....
إن صورة الحياة تتشكل في أذهاننا عبر المعلومات التي نتلقاها يوميا جراء قدرتها على التأثير فينا، سلبا وإيجابا، مع الأخذ في الحسبان ما يمكن تسميته بموقف المتلقي وحجم تفاعله مع هذه المعلومات تصديقا أو تكذيبا.
وحسب باتريك شاردو، فإن التواصل الوسائطي (الإعلامي) يعتبر نسقا للإنتاج الرمزي، حيث يتم ابتكار معنى بابتكار العلامات وتحريكها.
ومع ذلك، ليس التواصل الوسائطي في مجموعه هو ما يتم إثارته، بل هناك بُعدٌ واحد فقط من أبعاده الجوهرية: المعلومة.
هناك تيار ينتقد سذاجة النموذج الكلاسي للمعلومة، الذي يفترض أن هناك شفافية في تمريرها بين مصدرها والمتلقي المستهدف. المؤلف يقترح رسما بيانيا أكثر تعقيدا يشمل ثلاثة مواقع ذات أهمية: موقع ظروف الإنتاج – هو نفسه مزدوج بين الظروف السوسيواقتصادية للمؤسسات الوسائطية والظروف السيميولوجية للإنتاج (ممارسات، تمثلات ... )- موقع بناء الخطاب و موقع التأويل من جهة التلقي – مزدوج على غرار الأول بين الهدف، المرسل إليه المثالي مثلما تتخيله المؤسسة الإعلامية والجمهور، متلقي واقعي يتمتع باستقلاليته ويسير شؤونه ذاتيا .
هذا الرسم البياني يتيح توضيح أن "النص المنتوج يحمل قصدية مشتركة تتحقق بين:
من يبث ومن يستقبل (êtres de parole)؛
وليس بين منتج ومستقبل (êtres agissants)ـ [6]


الخطاب الإعلامي العربي
يجمع كل الدارسين المهتمين بالمشهد الإعلامي العربي على ضعفه وتخلفه على مستوى الأداء والخطاب والمضامين.
الخطاب الإعلامي ومن وجهة نظر بعض الدارسين، هو مجموع القيم والمبادئ العامة والتصورات التي تحكم العملية الإعلامية، تؤثث لها شكلا ومضمونا وتؤسس لمنهج التعامل والتواصل مع سلوك الأفراد والجماعات في محيط ما وفي زمن ما وفقا لقواعد المهنة الإعلامية وأخلاقياتها أو ما توافق على أنه قواعد وأخلاقيات.

ولأن الخطاب الإعلامي ممارسة اجتماعية متغيرة، فإنه يتعرض دائماً للتغير والتطور، لكن الأمر الأكثر أهمية، حسب المختصين، هو أن نفهم الخطاب الإعلامي بوصفه متعددا من حيث الخلفيات والأهداف، كما أن هناك تداخلاً أو تعايشًا بين أكثر من خطاب.
وتعكس هذه الخطابات المتداخلة حقائق اجتماعية متباينة ومصالح متعارضة، ومع ذلك فقد تحدث استعارات في المفاهيم والأطروحات في إطار كل خطاب يحاول أن يواكب الواقع ويحظى بقدر أكبر من التأثير الاجتماعي.

وعلى سبيل المثال قد يتبنى الخطاب الإعلامي لحكومة ما بعض المقولات أو المفاهيم لحزب معارض ويدمجه في إطار بنيته الخطابية، بهدف التأثير في الجمهور وحرمان المعارضة احتكار هذا التأثير.
وهو أمر يدعو إلى إعادة النظر في بعض المفاهيم حتى يتحرر الحقل السياسي من مضاعفاتها الخطيرة، وهذا ما جعل الأيكولوجيا العميقة تطالب بطرد بعض المفاهيم من الحقل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على غرار (التنافس الإقصائي، السيطرة...) على أن تتأسس العلاقات على أساس التكامل أو التنافس التكاملي بدل التنافس الإقصائي، والتعاون بدل الهيمنة.

ومن خلال القراءة العامة للخطاب الإعلامي السياسي العربي للتنبؤ بمدى تأثيره على الجمهور فإن أول ما يتبادر إلى ذهن المتابع المتخصص لواقع الخطاب الإعلامي السياسي العربي أنه -في جملته- يفتقر إلى الرؤية الواضحة المتماسكة التي يُقدّم بها هذا الخطاب، وبخاصة في القنوات الإخبارية العربية. والافتقار إلى هذه الرؤية هو ما جعل الخطاب الإعلامي غير قادر على تشكيل الوعي العام وبناء هوية سياسية في عقل الجمهور .

ما من شك أن الخطاب الإعلامي في حاجة إلى رؤية واضحة، وهناك من يربط هذه الرؤية بالأيديولوجيا، مع أن الخطاب الإعلامي كان دائما ضحية الأيديولوجيا، وان الرؤية الواضحة لا تتحقق إلا بالتجرد من الأيديولوجيا من خلال التركيز على الواقع من منظور حقوقي ومدني واجتماعي وإنساني.

الحلول والبدائل

يقترح البعض أن تكون للمؤسسات الإعلامية الإخبارية الخاصة مجالس تنسيقية من الأكاديميين المتخصصين والمهنيين لتحديد المتفق عليه، والتقليل من تأثير المختلف فيه. والحديث عن مهام مثل هذه المجالس التنسيقية يحتاج إلى جهود كبيرة لرسم استراتيجيات نظرية وخطط عمل تنفيذية تُرشّد عمل المؤسسات الإعلامية الخاصة ليرتقي الخطاب الإعلامي السياسي العربي إلى تطلعات الشعوب العربية التي تنطق هذه المؤسسات بلسانها.
تحتاج المدينة في ظل التدبير الديمقراطي إلى شبكة إعلامية محترفة وتعددية تضمن سيولة المعلومة وجودتها على مستوى الخطاب والمعالجة، حتى يضطلع الإعلام بدوره في بناء مدينة مواطنة تطمح أن تقطع مع الذهنيات المتحجرة وقوى الفساد بشكل لا رجعة فيه، وتضطلع بدورها في بناء مدينة الحقوق والحريات.
من حق كل مدينة أن تكون لها إذاعة وتلفزة محليتين، من منطلق أن الإعلام السمعي والسمعي البصري هو أكثر الوسائط تأثيرا في الرأي العام، غير أن أمرا كهذا ليس متاحا في الوقت الراهن، وفي ظل التطور الذي عرفته تكنلوجيا التواصل يمكن للمدينة أن تستفيد من هذه التكنلوجيا الرقمية حتى تضمن سيولة المعلومة وشفافيتها وتسهر على تدبير نقاش عمومي يتسم بالعقلانية والجدية.

يمكن أن نتصور الشبكة على الشكل التالي:
- منابر إعلامية متخصصة وقطاعية، حيث كل قطاع أو حي أو مؤسسة في المدينة، يكون له منبره الإعلامي؛
- منبر شامل يستقي مادته من كل المنابر المعتمدة في الشبكة وينتقي أهم ما فيها من حيث المصداقية والأولوية؛
- على المنبر أن ينأى عن كل ما هو أيديولوجي، وذلك بالتركيز على القضايا الأساسية للمدينة (الأمن، النظافة، الفضاءات العامة، البيئة، الإدارة...)؛
- أن يرصد المنبر هذه القضايا بشكل منهجي ونسقي عبر ملفات تخضع للمعالجة والمتابعة، خاصة ما يتعلق بالفساد المالي والإداري وسوء التسيير وعدم الوفاء بالوعود...؛
- أن يرصد المنبر انشغالات المواطنين ومقترحاتهم؛
- أن يصوغ المنبر خطابا إعلاميا راقيا، عقلانيا وإنسانيا متحررا من كل ما من شأنه أن يثير الكراهية أو العنصرية أو يمس بأعراض الناس؛
- أن يساهم المنبر في التربية على الثقافة الحقوقية..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هسبريس (http://www.hespress.com/orbites/260963.html)
1- http://live.albankaldawli.org/cities-and-regions?CID=ECR_FB_worldbank_cities_SM2017_AR_EXTP
Florent Lacaille-Albigès- Nature et culture
2- http://coursphilosophie.free.fr/cours/culture_JP.doc
3- http://coursphilosophie.free.fr/cours/culture_JP.doc
4- روح الديمقراطية - الكفاح من أجل مجتمعات حرة، تأليف : لاري دايموند، ترجمة : عبد النور الخراقي، الطبعة الأولى 2014
5- خطاب المعلومة الوسائطية. بناء مرآة اجتماعية
6- Le discours d information médiatique. La construction du miroir social, Patrick Charaudeau
- الغاية من كتاب باتريك شارودو أكبر طموحا حيث تم تأليفه من أجل "اكتشاف ميكانزمات بناء المعنى الاجتماعي، عبر ملاحظة الظواهر اللسانية واللغوية، وهنا بالتحديد، دور الماكنة الوسائطية".
- الجزء الأول من الكتاب يعرف المعلومة (الخبر) بوصفها فعل لغة حيث المعنى يتكون كمفهوم "مزدوج السيرورة على مستوى التأويل السيميوطيقي"، سيرورة "التحويل" وسيرورة "التسوية".
- ينظر، أيضا، مقالات ومؤلفات حول الإعلام العربي (يحيى اليحياوي، محمد شومان، سعيد اللاوندي، ...).










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت