الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين انتقام وانتقام

أوري أفنيري

2006 / 2 / 8
الادب والفن


من أراد فهم ما يحدث في يوم الانتخابات بين أوساط الجمهور الفلسطيني، عليه أن يشاهد فيلم "الجنة الآن"، الذي تم ترشيحه الآن لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم عالمي، بعد أن حاز على عدة جوائز في العالم. إنه يشرح أكثر من مليون كلمة.

صانع الفيلم – المؤلف والمخرج، هاني أبو أسعد من الناصرة، والممثلون – هم فلسطينيون. (أحد المنتجين، أمير هرئيل، هو إسرائيلي يهودي).

بطلا الفيلم هما سعيد وخالد، مخربان منتحران. الفيلم يعالج المسألة التي تقلق كل شخص في إسرائيل، وربما في العالم: لماذا يفعلون ذلك؟ كيف يحدث أن إنسانا يستيقظ في الصباح ويقرر تفجير نفسه بين جمهور من المواطنين في القدس أو في تل أبيب؟ بعض الناس فقط يسألون أنفسهم: من هم هؤلاء الأشخاص؟ ما هي خلفيتهم؟ كيف وصلوا إلى المكان الذي وصلوا إليه؟

يرد الفيلم اليوم، بعد وقت من إنتاجه، على سؤال آخر: لماذا انتخبت الأغلبية العظمى من الفلسطينيين الزعماء الذين أرسلوا هؤلاء الأشخاص ليفجروا أنفسهم.

يجيب الفيلم على هذه الأسئلة. ليس بالشعارات ولا بالخطابات الترويجية، ليس ببحث أكاديمي. إنه لا يبث دعوة ولا يبالغ ولا يغضب. إنه يروي رواية. ولكون إسرائيليين كثيرون لن يشاهدوا الفيلم، أسمح لنفس بأن أفعل ما لا يجب فعله عادة: أن أحكي حكاية الفيلم.



الصورة الأولى من الفيلم توحي بالجو السائد: سهى، فلسطينية جميلة، من عائلة مرموقة ترعرعت في فرنسا، تلبس بنطلون جينز ضيق، تقترب من الحاجز، أحد الحواجز اللا متناهية المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية. يقف أمامها: جندي مخيف، له شارب ويعتمر خوذة ويلب بزّة واقية. تلاقت نظراتهما. هو صامت، يستعرضها من رأسها إلى أخمص قدميها. يفتش حقيبتها ببطء. لا يكف عن النظر إليها.

فور انتهائه، يبدو وكأنه يعيد إليها بطاقتها – ولكن لا. حين همّت محاولة أخذها، فإنه يرفعها لتبذل جهدا في الوصول إليها. في نهاية الأمر يومئ لها برأسه بأن تنصرف دون أن ينبس ببنت شفة.

بضع دقائق – دقائق تجتمع فيها الإهانة التامة، الخوف المتبادل والكراهية. يبدوا للمشاهد بأن الشابة ستفجر نفسها لتوها في أي لحظة. ولكن لا شيء يحدث، فهي تمر عبر الحاجز.

.....شابان يبلغ عمرهما 22 سنة، في نابلس. يعملان – لا – يعملان في كراج. هما عاطلان عن العمل عمليا، كما هي الحال بالنسبة لكل الشباب في نابلس تقريبا. ليس لهما مستقبل. لا يحذوهما الأمل. حتى أنهما لا يحلمان. لا يمكنهما أن يساعدا عائلتيهما الفقيرتين. إنهما يعيشان في الحضيض الأسفل، خليط من الملل، الإحباط، اليأس. حتى الشاي الذي يبيعهما إياه ولد ساذج ولكنه عنيد، كأسين بشيكل واحد، كان شايا باردا.

كانا ملتحيا الوجه، ولكن ليسا متطرفين. متدينون مثل غيرهم، وليس أكثر من ذلك. لقد ولدوا تحت الاحتلال ويعيشان تحت الاحتلال. نابلس مطوقة بالحواجز من كل الجهات. لا يوجد عمل. لا يوجد شيء. هناك فقر وعوز مذلين. الاحتلال هو الحقيقة الرئيسية في حياتهم. كل شيء يبدأ بالاحتلال، وكل شيء ينتهي بالاحتلال.

...أحدهما، سعيد، يلتقي سهى. شيء ما يحدث بينهما. وعندها يتلقى الشابان النبأ: تم اختياركما. غدا ستنفذان عملية انتحارية في تل أبيب.

في مبنى مهجور، يستخدم كغرفة عمليات سرية، ينفذان الاستعدادات الأخيرة: يحلقان ذقنيهما وشعرهما ويلبسان بذلتي زفاف. تُلتقط لهما الصور. بعض كلمات التشجيع، دون أي انفعال، من قبل القائد، "مطلوب" وهو أسطورة حية (ما زالت حية). العملية تأتي كانتقام على اغتيال صديق في عملية تصفية موجهة.

ينظران بصمت بينما يتم تركيب الأحزمة الناسفة على جسديهما. يحذرونهما من أنه لا يمكن خلع الأحزمة دون أن تنفجر. في لحظة تقشعر لها الأبدان، يتخيل الاثنان صورهما على لافتات تم تعليقها بعد العملية.

"ماذا سيحدث بعد التفجير؟" سأل سعيد. يقول له مرسله "ملاكان سيأتيان لأخذك، واحد من كل جهة".



...إلى الطريق. يقصان الجدار. تقترب إليهما من الناحية الأخرى سيارة جيب عسكرية. خالد يتسلل عائدا عن طريق الفتحة في الجدار، أما سعيد فيواصل طريقه داخل إسرائيل. يقف في الطابور بانتظار حافلة الركاب. يرى امرأة تلعب مع ابنها الصغير. وصلت الحافلة. تدخل المرأة وابنها معها. يتردد سعيد ويشير إلى السائق بمواصلة السفر بدونه.

...يسود الذعر بين الأصدقاء في نابلس. أين سعيد؟ ربما لجأ؟ ربما خان؟ هرب؟ يبحثون عنه في كل مكان. ما زال الحزام الناسف على جسد سعيد، وعاد سرا إلى نابلس، ليبحث عن خالد. سعيد يلتقي بسهى. وبينما هما متعانقان، تقول له بأن هذه ليست الطريقة الصحيحة، وأنه لا يجب المس بالمدنيين، وهذا لن يحررهم من الاحتلال. لكن سعيد يتوسل إلى القائد ليجربه مرة أخرى، يعطيه فرصة أخرى. وهنا يُكتشف أمر هام: والد سعيد كان متعاونا وقد تم إعدامه. سعيد يريد محو وصمة العار، الخزي الذي يلاحقه منذ لحظة ولادته. "لقد كان إنسانا طيبا ولكنه ضعيف الشخصية،" قال سعيد. "الإسرائيليون استغلوا ضعفه. هم المذنبون."

...يصل الاثنان إلى تل أبيب. تبدو تل أبيب في أعين الشباب من نابلس المتمردة والمهملة، وكأنها من عالم آخر – برّاقة، غنية، لا يمكن الوصول إليها. ناطحات السحاب، الفتيات بالبكيني، احتفال على شاطئ البحر.

في اللحظة الأخيرة يتراجع خالد ويحاول إقناع سعيد بالتخلي عن المهمة. ولكن خالد يعود لوحده إلى نابلس، وسعيد نخرج ليثأر لموت أبيه.

...الصورة الأخيرة: سعيد يجلس في حافلة مليئة بالركاب، مدنيين، جنود، جنديات. تركز الكاميرا على عينيه. تملأ العينان الشاشة. نحن مرعوبون مما يوشك أن يحدث بعد لحظة....

يُروى كل ذلك بلغة سينمائية منضبطة. لا توجد تصريحات تقريبا. تبدو لأول وهلة وكأنها حكاية حمقاء، ولربما مسلية: خالد يكرر كلمات الوداع أمام كاميرا الفيديو. الكاميرا يصيبها خلل ما. وهو يكرر كلماته المؤثرة مرة أخرى. زملاء يقفون جانبا ويأكلون. إنه يرى ذلك، يتوقف ويبدأ مرة أخرى وأخرى. هدوء كوني.



نظرت إلى وجوه الأشخاص الذين خرجوا من القاعة بعد عرض الفيلم في سينما تك في تل أبيب. كانوا صامتين وكأنهم يتأملون. لقد رأوا للمرة الأولى المخربين الذين يقتلوننا، الذين يفجرون أنفسهم بين أولاد، رجال ونساء. إنهم يرون شباب عاديين، يتصرفون كأناس عاديين. إنهم يرون الاحتلال من الجهة الأخرى، من الأسفل.

جلست في القاعة في الظلام، ووجدت نفسي في حالة من عدم التناغم التام: نحن الضحايا المستقبليين، الذين لم نجلس في تلك الحافلة بالصدفة، نرى كل شيء عن طريق عيني قاتلنا. فجأة تنشأ الفكرة: لن تساعد أية قوة هنا. إذا قتلنا الاثنان، فسيأتي اثنان غيرهما. الجدار سيوقفهما، ولكن الجدار لن يوقف جميعهم. الشاباك، بمساعدة المتعاونين، سيمنع بعض العمليات، ولكنه غير قادر على منعها جميعا – وأبناء المتعاونين عاقدو العزم على الانتقام. حين يكون هناك أشخاص كهؤلاء، ينشئون في مثل هذه الظروف، سيكون هناك دائما من يتمكن من التوصل إلى وجهته.

لا يقدم الفيلم حلا. ليس من شأنه أن يكون متوازنا. إنه يعرفنا على شكل من الحقيقة التي لا نعرفها، من زاوية لم نعتدها – ويجعلنا نتأرجح بين المشاعر المتضاربة.

ربما يتوجب أيضا التفكير في حل يمكنه فقط أن يوجه سعيد وخالد – وحماس الجمهور الذي انتخبها – إلى طريق أخرى. طريق تضع حدا للإهانة، لسحق الكرامة الشخصية والقومية للضائقة وانعدام الحيلة.



بعد عدة أيام شاهدت فيلما هو أيضا من أبرز الأفلام المرشحة للحصول على الأوسكار، فيلم ستيفان شبيلبرغ: "ميونخ". تسنى لي أن أشاهده في ألمانيا بالذات، في مكان ليس بعيدا عن ميونخ ذاتها.

عندما خرجنا من القاعة، أراد مضيفي الألماني أن يعرف ما أفكر به عنه. بشكل لا شعوري، دون أن أفكر، أخبرته بكل ما شعرت به أثناء المشاهدة: "مقرف"!

بعد ذلك تسنى لي أن أصنف الانطباعات التي أخذتها خلال الفيلم الطويل. ما الذي أثار اشمئزازي؟

أولا، أسلوب شبيلبرغ، الذي يدمج بين التقنيات السينمائية المتطورة وبين مستوى ثقافي متدن. كان من المزمع أن يكون هذا الفيلم فيلما متعمقا، في أفكار جديدة ومثيرة. لكنه بالأساس ليس إلى فيلما أمريكيا، يقتل فيه الطيبون الأشرار والدم يجري كالمياه.

بعض الوصوليين اليهود احتجوا على كون الفيلم وكأنه يخلق "موازاة" بين "المخربين" وبنين المنتقمين. وبالفعل فقد منح الفيلم "المخربين" بعض اللحظات التي تفوهوا فيها بجمل لتبرير موقفهم، جراء الظلم الذي نفذوه ضد اليهود وعلى حقهم في أن يكون لهم وطن. لكنة هذه هي ضريبة كلامية محضة، تظاهر لخلق انطباع من الموازاة. لأنه عند وصف الهجوم الذي جرى في ميونخ – الذي تم توزيع مشاهده على مختلف أجزاء الفيلم - يظهر العرب كسفلة، بشعين، مهملين، جبناء – خلافا للمنتقم الإسرائيلي، الجميل وعزيز النفس، الشجاع والعادل – باختصار، شقيق آري بن كنعان السوبرمان في "إكسودوس".

لا يعاني العرب من تأنيب الضمير، ولكن أفنير الإسرائيلي يتخبط مرارا وتكرارا بين عملية قتل وأخرى. إنه يتألم في كل مرة، بعد أن يفجر/يحطم/يرشّ أحد "الأهداف"، وبطبيعة الحال بعد أن كان قد أبعد زوجة الضحية وأطفاله عن المكان. فهو ليس قاتل كأي قاتل، بل قاتل يهودي. يطلق النار ويبكي.



وصف القضية هو وصف متملص. إنه يخفي عن عين المشاهد بعض الحقائق الجوهرية:

- لقد أثبتت عملية التشريح بعد الوفاة أن تسعة من بين 11 الرياضيين الإسرائيليين قد قتلوا من رصاص أفراد الشرطة الألمانيين غير المدربين. (يتم حفظ التقارير سرا حتى اليوم، في ألمانيا وفي إسرائيل).

- أن غولدا مئير والسياسيين الألمان – وجميعهم أبطال كبار – هم الذين قرروا مصير الرياضيين، حين قرروا عدم السماح للخاطفين بالوصول مع المختطفين إلى بلد عربي، حيث كانوا سيبدلون هناك، دون شك، بأسرى فلسطينيين.

- أن الفلسطينيين الذين قُتلوا انتقاما لعملية ميونخ، لم تكن لهم أية صلة بالقضية. لقد وجد الموساد له أهدافا سهلة: دبلوماسيو منظمة التحرير الفلسطينية الذين كانوا يعملون بشكل علني في العواصم الأوروبية.



إلا أن أكثر ما يثير الاشمئزاز هي العنجهية الشبلبرغية التي تنتقل كالشعرة بين أجزاء الفيلم، ومن ضمنها صور العلاقات الجنسية، غير الضرورية وغير اللائقة أبدا.

لم يبذل شبيلبرغ أي جهد خاص في توخي دقة التفاصيل. تظهر على مبنى المطار لافتة مكتوب عليها "مطار اللد" ولا يوجد مطار كهذا) كذلك اسم الموساد يُلفظ خطأ وأخطاء أخرى كان بإمكانه أن يمنع حدوثها بسهولة، لولا الاستهتار.



لا يضيف الفيلم أي شيء لفهم النزاع. إنه فيلم عصابات عادي للغاية، قام شبيلبرغ بدمجه في قضية إسرائيلية، ليصل أخيرا إلى الأوسكار المرجو، الذي انزلق من بين يديه حتى اليوم. فمن المعروف في هوليوود أن احتمالات الفيلم الذي يعالج قضية يهودية أو إسرائيلية، في الحصول على جائزة الأوسكار، تتضاعف أضعافا وأضعاف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في