الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع ديفيد هارفي حول النيوليبرالية

كريم محمد

2017 / 8 / 8
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



ترجمة: كريم محمد*
نشر ديفيد هارفي، قبل أحد عشر عامًا، كتابه تاريخ موجز للنيوليبراليّة، الذي هو الآن واحد من أكثر الكتب التي يُستشهَد بها حول الموضوع. وقد شهد العالم مذّاك أزماتٍ ماليّة واقتصاديّة جديدة، إلّا أنّها شهدت أيضًا موجات جديدة من المقاومة، التي غالبًا ما تستهد “النيوليبراليّة” في نقدها للمجتمع المعاصر.

يتحدّث كورنيل ويست عن حركة (Black Lives Matter) باعتبارها “اتهامًا للسّلطة النيوليبراليّة”؛ وأطلقَ الرّاحل هوجو شافيز على النيوليبراليّة بأنّها “طريق إلى الجحيم”؛ ويستعملُ القادة العمّاليّون المصطلحَ، بصورةٍ متزايدة، لوصف البيئة الأوسع التي تحدث فيها صراعات مكان العمل (workplace struggles). وقد استعملت الصحافة السائدة أيضًا المصطلح، لتحاجج بأنّ النيوليبراليّة غير موجودة في الحقيقة.

لكن ما الذي نتحدّث عنه، بالضبط، حينما نتحدّث حول النيوليبراليّة؟ فهل هي هدف ناجع للاشتراكيين؟ وكيف تغيّرت منذ نشوئها في أواخر القرن العشرين؟

وقد جلس بيارك سكرلند رسجار (Bjarke Skærlund Risager)، زميل الدكتوراه في قسم الفلسفة وتاريخ الأفكار بجامعة آرهوس، مع ديفيد هارفي لمناقشة الطبيعة السياسيّة للنيوليبراليّة، وكيف حوّلت أوضاع المقاومة، وكيف أنّ اليسار لا يزال بحاجة إلى أن يكون جادًّا بشأن إنهاء الرأسماليّة.

النيوليبراليّة مصطلح يُستخدَم اليوم على نطاق واسع. ومع ذلك، غالبًا ما يكون مبهمًا ما يشيرُ إليه النّاس عندما يستعملونه. وفي استعماله الأكثر نسقيّةً، فربّما يشير إلى نظريّة، مجموعة من الأفكار، استخطاطيّة سياسيّة، أو إلى حقبة تاريخيّة. فهل يمكن أن تستهلّ بشرح كيفيّة فهمك للنيوليبراليّة؟

دائمًا ما عالجتُ النيوليبراليّة باعتبارها مشروعًا سياسيًّا يُنجَز على يد الطبقة الرأسماليّة للشركات، وذلك لأنّهم أحسّوا بالتهديد بصورة مكثّفة سياسيًّا واقتصاديًّا قُرب نهاية الستينيّات إلى السبعينيّات. فقد أرادوا، مستميتين، أن يطلقوا مشروعًا سياسيًّا قد يكبح سلطة اليد العاملة.

وكان المشروع، في جوانب عديدة، مشروعًا معاديًا للثورة. فقد وأدَ المشروع ما كانت، آنذاك، حركات ثوريّة في مهدها ببلدان كثيرة من بلدان العالم النّامي -موزمبيق، وأنغولا، والصين، إلخ-، ولكن وأدَ أيضًا موجة متصاعدة من النّفوذ الشيوعيّ في بلدان مثل إيطاليا وفرنسا، والتهديد بإحياء ذلك النّفوذ في إسبانيا، بدرجةٍ أقل.

حتى في الولايات المتحدّة، أنتجت نقابة العمّال كونجرس ديمقراطيًّا كان راديكاليًّا للغاية في قصده وهدفه. فقد فرضوا في بواكير السبعينيّات، جنبًا إلى جنب مع حركات اجتماعيّة أخرى، عددًا كبيرًا من الإصلاحات والمبادرات الإصلاحيّة التي كانت معادية للشركات (anti-corporate): وكالة الحماية البيئيّة، إدارة السّلامة والصحّة المهنيّة، حماية المستهلك، ومجموعة متكاملة من الأشياء التي تدور حول تمكين اليد العاملة حتى أكثر ممّا كانت مُمكّنة من قبل.

لذلك في هذا الموقف، بالفعل، كان هناك تهديد عالميّ لسلطة الطبقة الرأسماليّة للشّركة، وبالتالي كان السؤال هو: “ماذا نفعل؟”. ولم تكن الطبقة الحاكمة عليمة بكل شيء، إلّا أنّها أدركت أنّ هناك عددًا من الجبهات التي عليهم أن يناضلوا عليها: الجبهة الأيديولوجيّة، الجبهة السياسيّة، وقبل كلّ شيء توجّب عليهم أن يناضلوا لكبح سلطة العمّال بأيّة وسيلة ممكنة أيًّا تكن. وعلى إثر ذلك، برزَ هنالك المشروع السياسيّ الذي يمكن أن أطلق عليه النيوليبراليّة.

هل بإمكانك الحديث قليلًا حول الجبهات الأيديولوجيّة والسياسيّة وحول الهجمات على العمّال؟

لقد بلغ المستوى بالجبهة الأيديولوجيّة إلى حدّ اتّباع شخصٍ يُدعى لويس باول. فقد كتبَ بأوّل مذكّرة قائلًا لقد طفح الكيل، وإنّ رأس المال بحاجة إلى مشروع شامل. وساعدت المذكّرة في تعبئة غرفة التجارة والمائدة المستديرة للأعمال.

كانت الأفكار أيضًا شيئًا مهمًّا للجبهة الأيديولوجيّة. والرأي ساعتها كان أنّه من غير الممكن تنظيم الجامعات، لأنّ الحركة الطلّابية كانت جدّ صلبة ومَلكتهم جدّ ليبراليّة في التفكير، لذلك أسّسوا كلّ مراكز الأبحاث هذه مثل معهد مانهاتن، ومؤسّسة التراث، ومؤسّسة أولين. وقد جلبت مراكز الأبحاث هذه أفكار فريدرك هايك وميلتون فريدمان واقتصاديّات جانب العرض.

تمثّلت الفكرة في أن تقوم مراكز الأبحاث تلك ببحث جدّيّ، وبعضها قام بذلك -على سبيل المثال، كان المكتب الوطنيّ للأبحاث الاقتصاديّة مؤسّسة مموّلة سرًّا أجرت أبحاثًا جيّدة للغاية وشاملة. وقد تُنشر هذه الأبحاث، من ثمّ، بصورة مستقلّة، وقد تؤثّر على الصحافة، وشيئًا فشيئًا تطوّق وتتغلل في أوساط الجامعات.

وقد أخذت هذه السيرورة وقتًا طويلًا. وأعتقدُ أنّنا الآن وصلنا إلى نقطة حيث لم نعد بحاجة إلى شيء شبيه بمؤسّسة التراث بعد الآن. فقد استولت على الجامعات بشكل كبير المشاريعُ النيوليبراليّة التي تطوّقها.

أمّا بخصوص اليد العاملة، تمثّل التحدّي في صناعة عمالة محلّيّة متنافسة مع العمالة العالميّة. وكان فتح باب الهجرة هو الطريقة الأولى لذلك. ففي الستينيّات، على سبيل المثال، كان الألمان يستوردون العمالة التركيّة، والعمالة المغربيّة الفرنسيّة، والعمالة الكولونياليّة البريطانيّة. إلّا أن ذلك ولّد قدرًا كبيرًا من الاستياء والاضطراب.

واختاروا، بدلًا من ذلك، الطريقة الأخرى -أخذ الرأسمال إلى حيث كانت اليد العاملة ذات الأجر المتدنّي. ولكن أن تعملَ، وفقًا للعولمة، فعليكَ أن تخفّض التعريفات الجمركيّة وتفوّض الرأسمال الماليّ، لأنّ هذا الرأسمال الماليّ هو الشكل الأكثر تقلُّبًا للرأسمال. ولذلك أصبح الرأسمال الماليّ وأشياء مثل العملات العائمة (floating currencies) حاسمة في كبح اليد العاملة.

وبالوقت ذاته، فقد نجمت البطالة عن المشاريع الأيديولوجيّة للخصخصة ولإلغاء اللوائح والضوابط التنظيميّة. ولذلك، تأخذ البطالة في الداخل والخارج الوظائف خارجًا، مع وجود مكوّن ثالث: التغيّر التكنولوجيّ، وتراجع الصناعة عبر الميكنة (automation) والتألية (robotization). كانت هذه هي الاستخطاطيّة لسحق اليد العاملة.

وقد كانت هذه الاستخطاطيّة اعتداءً أيديولوجيًّا، إلّا أنّها كانت أيضًا اعتداءً اقتصاديًّا. فبالنسبة إليّ، هذا ما كانت النيوليبراليّة تلتفّ حوله وتدور: كانت هي هذا المشروع السياسيّ، وأعتقد أن البرجوازيّة أو الطبقات الرأسماليّة للشركات جعلته موضع التنفيذ شيئًا فشيئًا.

ولا أعتقد أنّهم شرعوا عن طريق قراءة هايك أو أيّ شيءٍ كان، أعتقدُ أنّهم قالوا، بصورة حدسيّة، “علينا أن نسحق اليد العاملة، فكيف لنا القيام بذلك؟”. ووجدوا أنّ ثمّة نظريّة مشرعنة، من الممكن أن تدعم هذا الأمر.

أُريقَ الكثيرُ من الحبر منذ نشر كتابك تاريخ موجز للنيوليبراليّة في عام ٢٠٠٥ حول المفهوم [النيوليبراليّة -م]. ويبدو أنّ هناك معسكرين رئيسين: المختصّون الذين هم أكثر اعتناءً بالتاريخ الفكريّ للنيوليبراليّة وهؤلاء الذين يهتمّون بـ”الليبراليّة القائمة بالفعل”. فأين تقف؟

ثمّة نزعةٌ في العلوم الاجتماعيّة، والتي أنزع إلى مقاومتها، تسعى إلى نظريّة ذات حدّ واحد للشيء. لذلك هناك جناحٌ من الناس يقولون، حسنًا، إنّ النيوليبراليّة أيديولوجيا وبالتالي يكتبون تاريخًا مثاليًّا لها.

وتُعدّ حجّة الحاكميّة لدى فوكو التي تنظر إلى اللبرلة الجديدة (neoliberalizing) للنّزعات القائمة بالفعل في القرن الثامن عشر نسخة من ذلك. ولكن إذا كنتَ تعالجُ فقط النيوليبراليّة باعتبارها فكرة أو كمجموعة من الأفكار المحدودة للحاكميّة، فسوف تجد سبّاقين كثرًا.

وما هو غائب هنا هو الطريقة التي نسّقت بها الطبقة الرأسماليّة جهودها أثناء السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات. وأعتقدُ أنّه سيكون من الإنصاف القول إنّ الطبقة الرأسماليّة آنذاك -في العالم النّاطق بالإنجليزيّة على أيّة حال- أصبحت موحّدة إلى حدّ ما.

إذ اتفقوا على أشياء كثيرة، مثل الحاجة إلى قوّة سياسيّة تمثّلهم في الواقع. ولذلك تجد الاستيلاء على الحزب الجمهوريّ، ومحاولة لتقويض الحزب الديمقراطيّ، بشكلٍ ما.

وقد أصدرت المحكمة العليا في السبعينيّات مجموعة من القرارات التي أجازت للطبقة الرأسماليّة للشركات شراء الانتخابات بسهولة أكثر ممّا كان الحال في الماضي.

وعلى سبيل المثال، فإنّك ترى إصلاحات تمويل الحملات التي تعاملت مع المساهمات في الحملات باعتبارها شكلًا من أشكال حريّة التعبير. وهناك تقليد طويل في الولايات المتّحدة لرأسماليي الشركات الذين يشترون الانتخابات، إلّا أنّه قد قّنِّنَ الآن بعدما كان يحدث بشكل سرّيّ باعتبارها فسادًا.

عمومًا، أعتقدُ أنّ هذه الحقبة عُرِّفَتْ بحركة واسعة عبر جبهات عديدة، أيديولوجيّة وسياسيّة. وإنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تفسّر بها هذه الحركة الواسعة هي إدراك الدرجة العالية نسبيًّا للتضامن في طبقة رأسماليي الشركات. فقد أعاد الرأسمال تنظيم سلطتها في محاولة يائسة لاسترداد ثروتها الاقتصاديّة ونفوذها، الأمر الذي قد تآكل جديًّا منذ نهاية الستينيّات إلى السبعينيّات.

كانت هناك الكثير من الأزمات منذ عام ٢٠٠٧. فكيف يساعدنا تاريخ ومفهوم النيوليبراليّة في فهم تلك الأزمات؟

كانت هناك أزمات قليلة جدًّا فيما بين عاميْ ١٩٤٥ إلى ١٩٧٣؛ وكانت هناك بعض اللحظات الخطيرة، لكن ما من أزمات رئيسة. والتحوّل إلى السياسات النيوليبراليّة حدث في خضمّ الأزمة في السبعينيّات، وكان النّسق بأكمله عبارة عن سلسلة من الأزمات مُذَّاك. وتنتج الأزمات بالطبع شروط الأزمات المستقبليّة.

وقد وقعت هناك أزمة ديون بأعوام ١٩٨٢١٩٨٥ في المسكيك، والإكوادور، والبرزيل، وبشكلٍ أساس في كلّ البلدان النامية بما فيها بولندا. وفي ١٩٨٧١٩٨٨، كانت هناك أزمة كبيرة في المدخرات الأمريكيّة ومؤسسات الإقراض. وأزمة واسعة بالسويد عام ١٩٩٠، وتوجّب التأميم على جميع البنوك.

ولدينا بالطبع بعد ذلك إندونسيا وجنوب شرق آسيا في ١٩٩٧١٩٩٨، ثمّ تنتقل الأزمة إلى روسيا، ومن ثمّ إلى البرازيل، وتضرب الأرجنتين في ٢٠٠١٢٠٠٢.

وثمّة مشاكل كانت في الولايات المتحدة بعام ٢٠٠١، والتي نجت عن طريق أخذ المال من سوق الأسهم ودفقه في سوق الإسكان. وتهاوى سوق الإسكان بالولايات المتحدة في عام ٢٠٠٧٢٠٠٨، ولذلك تجد أزمة هنا.

ويمكنكَ أن تلاحظ خريطة العالم وأن تشاهد نزوعات الأزمة التي تتحرّك حولها. والتفكير في النيوليبراليّة مفيد في فهم هذه النّزوعات.

إنّ واحدة من خطوات اللبرلة الجديدة الكبرى كانت التخلّص من كلّ الكِينزيين من البنك الدوليّ وصندوق النّقد الدوليّ في عام ١٩٨٢ -وهو التطهير الشامل لكلّ المستشارين الاقتصاديين الذين اعتنقوا الرّؤى الكينزيّة.

وقد حلّ محلّهم منظّرو جانب العرض الكلاسيكيون الجُدد، وكان الشيء الأوّل الذي قاموا به هو الإقرار بأنّه يجب منذئذٍ على صندوق النّقد الدوليّ أن يتّبع سياسة التكيّف البنيويّ (structuraladjustment) متى ما كانت هناك أزمة.

وفي عام ١٩٨٢، كانت هناك أزمة ديون، بلا ريب، في المكسيك. وقال صندوق النقد الدوليّ “إنّنا سننقذكم”. وبالفعل، كان ما فعلوه هو إنقاذ البنوك الاستثماريّة بنيو يورك وتنفيذ سياسة التقشّف.

وتكبّد سكّان المكسيك شيئًا من قبيل خسارة ٢٥٪ من مستوى المعيشة في السنوات الأربع بعد عام ١٩٨٢ على إثر سياسات التكيّف البنيويّ لصندوق النّقد الدوليّ.

وقد جرى للمكسيك، منذ ذلك الحين، حوالي أربعة إصلاحات بنيويّة. وأجري لكثير من البلدان أكثر من مرّة. وأصبحت هذه سياسة معتادة.

وماذا يفعلون لليونان الآن؟ على الأغلب، نسخة مما فعلوا للمكسيك قديمًا في عام ١٩٨٢، بشكل أكثر دهاءً فحسب. وهذا أيضًا ما حصل في الولايات المتحدّة بعامي ٢٠٠٧٢٠٠٨. إذ أنقذوا البنوك وجعلوا النّاس يدفعون عبر سياسات التقشّف.

هل ثمّة شيء حول الأزمات الحالية والطّرق التي بها أُديرت عن طريق الطبقات الحاكمة جعلكَ تعيد التفكير في نظريّتك حول النيوليبراليّة؟

حسنًا، لا أظنّ أنّ تضامن الطبقات الرأسماليّة اليوم هو نفس ما كان عليه سابقًا. إذ ليست الولايات المتحدة، جيوسياسيًّا، في وضع يسمح لها باتخاذ القرارات عالميًّا كما هو الحال في السبعينيّات.

وأعتقد أنّنا نشاهد اللبرلة الجديدة لبنى السّلطة العالميّة ضمن نسق الدّولة -القوى الإقليميّة المهيمنة مثل ألمانيا في أوروبّا، والبرازيل في أمريكا اللاتينيّة، والصين في شرق آسيا.

ومن الواضح أنّه لا تزال للأمم المتحدة مكانة عالميّة، بيد أنّ الزمن قد تغيّر. بإمكان أوباما أن يذهب إلى الجي٢٠ ويقول “يجب علينا أن نفعل ذلك”، ويمكن لأنجيلا مريكل أن تقول “لن نفعل ذلك”. وهذا لم يكن ليحدث في السبعينيّات.

وبالتالي أصبح الموقف الجيوسياسيّ أكثر إقليميّة، وهناك المزيد من الاستقلال الذاتيّ. وأظنّ أن هذا راجع جزئيًّا كنتيجة لنهاية الحرب الباردة. فلم تعد دول مثل ألمانيا تعتمد على الولايات المتحدة لغرض الحماية.

أضِف إلى ذلك، ما كان يُدعى “الطبقة الرأسماليّة الجديدة” المتمثّلة في بيل جيتس، وأمازون، ووادي السيلكون كانت لديها سياسة مختلفة عن سياسة النفط والطاقة الأكثر تقليديّة.

وعلى إثر ذلك، فإنّهم يميلون إلى المضيّ قدمًا بطرقهم الخاصّة، ولذلك يوجد كثير من التنافس بين الأقسام، مثلًا، بين الطاقة والتمويل، وبين الطاقة وجمهور وادي سيلكون، وهلمّ جرّا. وهناك انقسامات خطيرة بينّة حول شيء مثل تغيّر المناخ، مثلًا.

أمّا الشيء الآخر الذي أعتقد أنّه حاسم فهو أنّ الدّفعة النيوليبراليّة للسبعينيّات لم تمرّ دون مقاومة قويّة. إذ كانت هناك مقاومة هائلة من اليد العاملة، ومن الأحزاب الشيوعيّة في أوروبّا، وهلمّ جرّا.

إلّا أنّني أودّ القول إنّه بحلول نهاية الثمانينيّات كانت المعركة خاسرة. وذلك لدرجة أنّ المقاومة قد اختفت، ولم يعد لليد العاملة قوّة كالتي كانت لها، ولم يعد التضامُن فيما بين الطبقة الحاكمة ضروريًّا لها كي تنجح.

ولم يكن هناك فرصة للتجمّع ولفعل شيء ما بشأن النّضال من أسفل لأنّه لم يكن هناك تهديد بعد الآن. والطبقة الحاكمة في وضع جيّد للغاية، لذلك لم يكن هناك مجال حقًّا لتغيير أيّ شيء.

فوق ذلك، في حين أنّ الطبقة الحاكمة كانت في وضع جيّد، كانت الرأسماليّة في وضع سيّئ نوعًا ما. إذ استعادت معدّلات الفائدة عافيتها، بيد أنّ معدّلات الاستثمار ظلّت منخفضة بشكل مفزع، وبالتالي فإنّ كثيرًا من المال لا يدور في الإنتاج مرّة ثانية ويصبّ بدلًا من ذلك في امتلاك الأراضي واقتناء الأصول.

دعنا نتحدث أكثر حول المقاومة. ففي عملك، تشيرُ إلى المفارقة الظاهرة بأنّ الاعتداء النيوليبراليّ تمّت موازاته عن طريق انحدار في الصّراع الطبقيّ -على الأقلّ في عالم الشّمال- لصالح “حركات اجتماعيّة جديدة” لأجل الحريّة الفرديّة.

فهل بإمكانك أن تحلّل الكيفيّة التي تظنّ بها أنّ النيوليبراليّة تحفّز أشكالًا محدّدة من المقاومة؟

ههنا يكمن اقتراح للتفكير مليًّا. ماذا إنْ كان كلّ وضع مهيمن للإنتاج، بقوامه السياسيّ الخاص، يخلقُ نمط معارضة كصورة معاكسة لنفسها؟

وقد كانت الصورة المعاكسة، أثناء فترة التنظيم الفورديّ لسيرورة الإنتاج، عبارة عن حركة نقابية كبيرة ممركزة وأحزاب سياسيّة مركزيّة ديمقراطيًّا.

وولّدت إعادة تنظيم سيرورة الإنتاج والانعطاف إلى التراكم المَرِن أثناء الزّمن النيوليبراليّ يسارًا هو أيضًا، من عدّة نواح، انعكاس لذلك: مترابط شبكيًّا، لامركزيّ، لاهرميّ. وأعتقد أنّ هذا مثير للاهتمام كثيرًا.

وتؤكّد الصورة المعاكسة، بدرجة ما، على ما يحاول أن يدمّر. وأظنّ بالنهاية أنّ الحركة النقابيّة قد دعّمت بالفعل الفورديّة.

وأعتقدُ أنّ كثيرًا من اليسار في وقتنا الحالي، كونه جدّ مستقل أو أناركيًّا، يُعزّز المرحلة النهائيّة من النيوليبراليّة. ولا يحبّ كثيرون من اليسار أن يسمعوا ذلك.

إلّا أنّ السؤال المطروح: هل هناك طريقة للتنظيم ليست بمثابة صورة معاكسة؟ وهل يمكننا أن نحطّم هذه المرآة ونجد شيئًا ما آخر، لا يصبّ في مصلحة النيوليبراليّة؟

إذ إنّ مقاومة النيوليبراليّة يمكن أن تكون بعدد من الطرق المختلفة. وإنّني أؤكّد في عملي أنّ المرحلة التي يتمّ تحقيق القيمة فيها هي أيضًا مرحلة من التوتّر.

فالقيمة تُنتَج في سيرورة العمل، وهذا جانب مهمّ جدًّا للصراع الطبقيّ. إلّا أن القيمة تُحقَّق في السوق عبر البيع، وتوجد سياسات كثيرة لذلك.

حيث إن كثيرًا من التراكم الرأسماليّ يحدث ليس حول مرحلة الإنتاج فحسب، وإنّما أيضًا عبر الاستهلاك وتحقيق القيمة.

خذ مثلًا مصانع السيارات: فقد اعتادت المصانع الكبيرة على توظيف حوالي خمسة وعشرين ألف شخض؛ في حين أنّها الآن توظّف خمسة آلاف فقط لأنّ التكنولوجيا قد قلّلت الحاجة إلى العمّال. لذلك يُجرى إزاحة اليد العاملة من مجالات الإنتاج أكثر فأكثر، ويُجرى دعّها دعًّا في الحياة الحضريّة.

إنّ محور الاستياء الرئيس ضمن الديناميّة الرأسماليّة هو الانتقال بصورة متزايدة إلى الصراع حول تحقيق القيمة -وحول سياسة الحياة اليوميّة في المدينة.

ومن الواضح أن العمّال مسألة ذات شأن وأنّ هناك إشكالات عدّة حاسمة في وسط العمال. فإذا كنّا في شنجن بالصين، فإنّ الصراع على سيرورة العمل صراع مهيمن. وكان يجب علينا، في الولايات المتحدة الأمريكيّة، أن ندعم إضراب فيريزون، على سبيل المثال.

لكن في أرجاء عديدة من العالم، فإنّ الصراع على جودة الحياة اليوميّة هو الصراع المهيمن. انظر مثلًا إلى الصراعات على مدار الخمس عشرة سنة الماضية: لم تكن مظاهرات حديقة غازي بإسطنبول صراعًا عمّاليًا، إذ كانت استياءً من سياسة الحياة اليوميّة ونقصان الديمقراطيّة وعمليّات صنع القرار؛ وفي انتفاضات المدن البرازيليّة بعام ٢٠١٣، كانت مرّة أخرى استياءً من سياسة الحياة اليوميّة: النقل، الإمكانيّات، ومن إنفاق كلّ هذه الأموال الطائلة على الملاعب الكبيرة في حين لا يمكن صرف أيّ مال على المدارس الكبيرة، والمستشفيات، والإسكان سهل المنال. والانتفاضات التي نشهدها في لندن، وباريس، وستوكهولم، لا تدور حول سيرورات العمل: إنّها تدور حول سياسة الحياة اليوميّة.

هذه السياسة مختلفة إلى حدّ ما عن السياسة الموجودة في مرحلة الإنتاج. فالسياسة، بمرحلة الإنتاج، هي الرأسمال مقابل اليد العاملة. والصّراعات على جودة الحياة الحضريّة هي أقلّ وضوحًا من حيث تكوينها الطبقيّ.

إنّ السياسة الطبقيّة الواضحة، التي عادةً ما تُشتقّ من فهم للإنتاج، تصبح غامضة من الناحية النظريّة كلّما أصبحت أكثر واقعيّة. إنّه إشكال طبقيّ، لكنّه ليس إشكالًا طبقيًّا بالمعنى الكلاسيكيّ.

هل تظن أنّنا نتحدث كثيرًا حول النيوليبراليّة في حين نتحدث قليلًا حول الرأسماليّة؟ ومتى يكون من الملائم أن نستعملَ هذا المصطلح أو ذاك، وما هي المخاطر المنطوية في الخلط بينهما؟

يقول كثيرٌ من الليبراليين إنّ النيوليبراليّة فاضت عن حدّها من حيث التفاوت في الدخل، وأنّ كلّ هذه الخصخصة مضت حدًّا بعيدًا، وأنّ هناك الكثير من الحاجيّات المشتركة التي علينا أن نعتني بها، مثل البيئة.

وتوجد أيضًا تشكيلة من الطرق للحديث حول الرأسماليّة، مثل الاقتصاد التشاركيّ، والذي يتبيّن أنّه مُرسْمَل للغاية واستغلاليّ جدًّا.

ثمّ إنّ هناك مفهوم الرأسماليّة الإيتيقيّة، والتي يتبيّن أنّها ببساطة تدور حول أن تكون صادقًا بإنصافٍ بدلًا من السّرقة. ومن ثمّ، توجد إمكانيّة في أذهان بعض النّاس لبعض أنواع إصلاح النظام النيوليبراليّ في بعض الأشكال الأخرى من الرأسماليّة.

وأظنّ أنه من الممكن أن تجعل الرأسماليّة أفضل مما هي عليه حاليًا. ولكن ليس بالقدر الكبير.

إنّ المشاكل الأساسيّة بالفعل هي مشاكل جدّ عميقة في الوقت الحالي بحيث إنّه ما من طريقة نذهب بها للمضيّ بأي مكان دون حركة معادية للرأسماليّة قويّة جدًّا. ولهذا، أودّ أن أضع بعض الأشياء في مصطلحات معادية للرأسماليّة بدلًا من وضعها مصطلحات معادية للنيوليبراليّة.

وعندما أستمع إلى النّاس وهم يتحدّثون حول معاداة النيوليبراليّة، فإنّني أعتقدُ أنّ الخطر يتمثّل في أنّه ما من إدراك بأنّ الرأسماليّة هي نفسها مشكلة، بأيّ شكلٍ من الأشكال.

وتفشل كثير من معاداة النيوليبراليّة في التعامل مع المشاكل الكبيرة للنموّ المركب اللانهائيّ -المشاكل الإيكولوجيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة. وبالتالي، ب أودّ أن يكون الحديث عن معاداة الرأسماليّة بدلًا من الحديث حول معاداة النيوليبراليّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري