الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفردانية ورهاب العقيدة الجمعي

علي المدن

2017 / 8 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أصف بكلمة "رهاب" كل تلك المخاوف المبالغ فيها حول أي موضوع من الموضوعات، حيث تتحول الخشية من فقدان ذلك الموضوع أو تعرضه للنقد أو تراجع شعبيته أو العدول عنه إلى مشاعر مرعبة تحفُّز في نفس الفرد ضياع المعنى في الحياة، أو اللاجدوى منها. هذه المشاعر الخانقة قد يعيشها الفرد لوحده، ومن الممكن أيضا أن تعيشها أمة بتمامها. وهي مشاعر مخيفة وخانقة حين تمس موضوعا عزيزا على أبناء هذه الأمة، عاشت مؤمنة به، وتربّت عليه، وألفته في جميع تفاصيل شؤونها. في المجتمعات الغربية مثلا تعد "الحرية" جزءا من فوبيا كبيرة تنتشر باسم "الإسلام" ومجاهديه الغاضبين. وهما (الإسلام والمجاهدون) مصدر تهديد مستمر لقيم الغرب الليبرالية كما يقول ساسة اليمين المتطرف في الغرب. أما المجتمعات الإسلامية، فلديها أكثر من فوبيا، وأكثر من رهاب. من أهم أشكال هذا الرهاب الخوف من ضياع ما يرونه من صميم الهوية الإسلامية المتوارثة منذ مئات السنين.
العقيدة الإسلامية، بصورها المتعددة، السنية والشيعية، تمثل هاجسا دائم التفكير به، والكثير من المسلمين يشعرون بتهديد وشيك من المحتمل أن يصيب عقيدتهم في أي لحظة!! لا يكاد يضع بعض المسلمين المعاصرين فاصلة بينه وبين عقيدته، هي في الواقع بالنسبة له تعمل عمل الرئة، يتنفس عبرها كل ما يحدث في ليله ونهاره، ويجادل بلا انقطاع قضاياها الخلافية التي ورثها عن أسلافه منذ مئات السنين؛ حتى ليخيل لك أنه غير معني بحياته الراهنة بقدر عنايته بالحياة القدسية لهذه الشخصية أو تلك.
من أين ينبع هذا الهوس الجمعي بالعقائد والشخصيات الماضية؟ لماذا لا يميز هذا الصنف من المسلمين في علاقاته وأحكامه وتقييماته بين الأشخاص وعقائدهم؟ هذان سؤلان يبدوان لي على قدر كبير من الأهمية! وأهميتهما تنبع من أكثر من سبب، منها ضعف الهوية الفردية للإنسان كشخص أو ذات. فبدل أن ينشغل هذا الإنسان بنفسه وحياته الخاصة، بما فيها من عمل وأفكار وقيم، نجده مكرسا نفسه لهوية تتخطاه، هوية أكبر منه يتقاسمها مع عدد كبير من الأشخاص الآخرين. وهذه الهوية الجمعية تختلف اختلافا جذريا عن القيم المشتركة السائدة في المجتمعات الحديثة، لأن هذه المجتمعات تبدأ أولا بوضع قيمة عليا هي (قيمة القيم)، وهي الحرية الفردانية للإنسان في التفكير والاعتقاد ونمط العيش، وتؤسس على ضوء هذه القيمة العليا كل ما عداها من القيم. كل القيم الأخرى تخدم هذه القيمة العليا وتدعمها وترسخها، فالمهم هو أن تُوجِد هذه المجتمعات أوسع الفرص الممكنة لكي يعيش الإنسان حياته وفق ما يريد هو، وبحسب قناعاته التي يتوصل إليها، لأن الحياة لا يمكن عيشها أكثر من مرة، وبالتالي فإن الواجب يقضي بفسح المجال لكل فرد منا أن يعيش حياته هو، بلا وصاية، ولا إملاءات، ولا ترهيب. يبقى المجال العام محكوما بالحد الأقل من القيم التي تتيح للجميع أن ينتفعوا وينعموا في ظل هذا المجال العام بالأمن والصحة والتعليم وغير ذلك من القيم المشتركة التي تنظم الحياة العامة وتجعلها ممكنة بأفضل وجه، مع الحرص الشديد على عدم التفريط بقيمة القيم العليا، وهي الاستقلالية الفردانية الحرة.
هذا الوضع ليس هو ما ألفناه في تاريخنا، حيث المعتقدات والانتماءات هي الأساس، ولا قيمة لإرادة الفرد منا إلا في ظل اندماجه مع "جماعة" خيرة، صالحة، مهديّة. وعلى عكس الثقافة السائدة في المجتمعات الغربية تعد الإرادة الفردية عندنا مصدرا لشرور لا نهاية لها ما لم تلجم ويوضع لها "حد"، وهذا الحد يكلف الجميع، وبحسب استطاعة كل عضو، على احترام تخومه بلا خروقات ولا تجاوزات ولا انتهاكات. لا يمكن في ظل هذا الوضع أن تتهم شخصا ما بأنه شخص "متطفل" يخوض فيما لا يعنيه! إذ في "العقيدة" كل شأن من شؤونها يعنيه! وهو إذ يزاول عملية "التطفل" يقوم بأداء واجبه المقدس، ويؤدي رسالته على أفضل وجه.
في هذا المناخ لا يكتسب الفرد قيمته من عزلته في حيزه الخاص، من تنميته وتطويره لتأملاته وتفكيره وثقافته الذاتية، بل من اندماجه مع الآخر، أكبر عدد ممكن من هذا (الآخر / الجماعة). وهذا مناخ مناسب جدا لنشوء "الخصومات"، حيث تتحول "الخصومة" إلى منطق حياة في الفكر والتحليل والسلوك. ويكون ديدن الفرد "المعارضة" كسبيل للعيش، فيضحي بذاته واستقلاليته من أجل ذات أكبر منه، نقية ومقدسة وآمنة. وليس مهماً كيف ستبدو عليه تلك الذات الجماعية المكفهرة، لأنها سرعان ما تجد في الحلول الدرامية المتطرفة والمفتعلة سلوتها.
المسلم المعاصر اليوم بين خيارين، إما أن يضع نفسه مع الأتجاه الأول، أو أن يختار أن يعيش وفقا لمنطقه القديم كما ورثه عن أسلافه في كتب المعتقدات والمذاهب. عليه أن يختار بين تبعية في الفكر أو الدين أو الأخلاق أو السياسة تنتزع منه أعز ما فيه: كرامته الفردية. أو أن يضع كل ما يعزز فيه تلك التبعية موضع شك وتساؤل حفاضا على استقلاليته كذات. والمرجع في تطبيق هذا التحول هو تقديره لنفسه وثقته بها وبنوع الحياة التي يبجلها. وكلما جفت في داخل هذا المسلم منابع التبعية وضعف منطقها القائم على الخصومة نضبت في روحه آبار التعصب والتطفل المكسو برداء القداسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثأر للحق والحقيقة.
لا يكفي لكي يتحرر المسلم المعاصر من الكراهية الدينية والتطفل الفكري أن لا يكون عنيفا أو قاتلا أو عدوانيا في نقد معتقدات الأخرين! يجب عليه أيضا أن يكف عن ممارسة لونين من السلوك: الانغماس في حياة الآخرين على حسب حياته الخاصة، والنقد الانتقائي!! في الأولى يكرس نفسه لنفسه وحاجاته وما يهمه هو تحديدا وينضج من تجربته في هذه الحياة، وفِي الثانية أن يكف عن التقاط ما يدحض وجهة نظر الآخرين مع غض الطرف عما ينقض وجهة نظره. فالحرية مشروع لبناء الذات قبل كل شي، إنها موقف نقدي ذاتي يتناول جميع الأشياء على قدم المساواة.
حين يفعل المسلم المعاصر ذلك يكون قد قطع حبله السري الذي يشده إلى عقائد أسلافه الثمينة المتوارثة، فلا يعود يستفزه نقدها، ولا حتى التخلي عنها، وهو لا يفعل ذلك وفق منطق عشوائي موتور من الماضي لأنه ماضٍ، وإنما يفعله لأجل سعيه لامتلاك زمام حياته الخاصة التي يحياها الآن وفِي هذا اللحظة تحديدا. عندها لا يكون مفتونا بالموائمة مع هذا المذهب أو ذاك، مع هذه المدرسة العقدية أو تلك، لا يكتب أو يناقش ليرد ويدحض ويفند أفكار وعقائد الآخرين من أجل عقيدة جماعية ينتمي لها، إنما ليعبر عن نفسه قبل كل شيء. عقائده تتحول إلى جزء من ممتلكات مشاعة! ليس للآخرين مزيد عناية بها إلا فيما يتصل بقرارهم حين يريدون امتلاك نظيرها فيبدون وجهة نظرهم فيها سلبا أو إيجابا، دون أن يدخلوا في جدل معه. والمعاملة بين الطرفين تكون على أساس مجموعة من الذوات الحرة، بلا تنميط، فلكل وجهته واختياره وكينونته. هذا نوع من التسوية يراد لها درء أكبر قدر من الخصومة والبغضاء والكراهية.
وبحسب فهمي، وأنا هنا أتكلم بصفتي مسلما متدينا يشكل الدين جزءا من حياته، فإن هذه الفردانية هي أهم ما صدح به القران الكريم، وخصوصا في جزئه المكي، حيث لم تنشأ الجماعة المدنية بعد. ففي القرآن لا يوجد تخويف للإنسان من حريته وعقله النقدي، بل الله هو الكائن الأخير الذي سيبقى يعامل الإنسان كفرد، كذات حرة مستقلة، دون أن يكترث لموقف الآخرين منه. "التوحيد" يحرر لأنه يضع الإنسان، في علاقته بالله، أمام نفسه. وفقا للقرآن "الإنسان" خُلق فردا، وسيحشر فردا، وما عليه هو أن يعيش ما بينهما كذلك: فردا مسؤولا بنفسه عن نفسه وأمام نفسه. والغاية هو إيجاد ذات مستقلة، تحدد بنفسها لنفسها ما تريد أن تكون عليه حياتها، دون التفكير تحت تأثير الآخر مهما كان. نعم، القران يفترض أن منطقه والقيم التي يدعو إليها لا يمكن للإنسان السوي رفضها، ولكنه مع ذلك لا يجد غضاضة في منح المخالف الذي لم يكن على استعداد للقناعة بهذا المنطق وقيمه أن يأخذ فرصته من التفكير، ولا يمانع من الدخول معه في حوار لا يفترض مسبقا التسليم بنتائجه، بل يترك له مساحة من الحرية مفتوحة بلا نهاية.
إن المسلم الورع يخشى من ضياع إيمانه، لأنه يتخيل الله مهووسا بالانتقام، ولكن الله يصر في كل آياته على كونه "الغني" عن إيمان الناس، "العليم" بخبايا نفوسهم، وفِي هذا إشارة إلى أن ما يهم ليس موقف الإنسان الموافق أو المخالف، بقدر حرصه الصادق على التسليم للصواب فيما لو عثر عليه باسم الله.
لقد اخترت عن قصد موضوع الفردانية واستقلال الذات البشرية كمدخل للتفكير في رهاب بعض المسلمين المعاصرين حول تحليل ونقد تواريخهم الدينية وأسسها العقدية، ومن الممكن أن أختار مداخل أخرى أكثر عملية تتعلق بمصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المغذية لهذا الرهاب، ولكن موضوع "الإلهيات" يبقى عقبة يصعب تجاوزها نحو الاندماج في قيم الحياة الحديثة دون تذليلها. إنني لا أدعي تذليل عقبة تعاني منها أغلبية أمة، لأن هذا يخرج عن قدرتي كفرد، ولكني مع ذلك أفعل ما أفعله انسجاما مع منطقي الفردي الذاتي، الذي هو أفقي وحدود عنايتي .. عنايتي بحياتي الخاصة المستقلة .. وللآخرين حياتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س