الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصحة العقلية

أيمن عبد الخالق

2017 / 8 / 14
الطب , والعلوم



إن الصحة تعني الكمالية والاستواء، والسلامة من كل عيب وداء، ولاشك أن الصحة من أكبر النعم على الإنسان في هذا العالم؛ لأنها منشأ الانسجام والاعتدال، ومبدأ السعادة والكمال، ومن أجل ذلك كان تحصيلها والحفاظ عليها من أهم الغايات التي يسعى إليها الإنسان في هذه الحياة.
والصحة في اللغة، وكما جاء في القاموس المحيط: هي)ذهاب المرض والبراءة من كل عيب(  وهي تعنى الكمال والاستواء والسلامة من كل نقص، والمرض في اللغة وكما في القاموس المحيط هو: (إظلام الطبيعة واضطرابها) وفيه إشارة إلى أن أصل المرض هو الانحراف عن الطبيعة الحاصل من وقوع خلل ما، أو نقص، وبهذا تكون الصحة بمعنى البقاء على الحالة الطبيعية، والعمل فعلا وانفعالا بمقتضى الطبيعة.
أما الصحة في الاصطلاح، فقد عرّفتها منظمة الصحة العالمية (WHO)في عام 1978 في إعلان المآتا أنها: (حالة من العافية الكاملة البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية)[1].
كما تم التأكيد على ذلك  من جانب الاتحاد الأوروبي في مؤتمر بانكوك[2]
كما أكدت الجمعية الأمريكية للأطباء النفسانيين(APA) على ضرورة الفحص الفكري والمعنوي على المرضى االنفسانيين[3]
وهذا التعريف يشيربوضوح إلى أن الصحة أمر وجودي وليس أمرا عدميا، كما أنه يشير إلى شموله لكل الأبعاد الوجودية للإنسان علاوة على البيئة المحيطة به، وأيضا إلى ارتباط كل بعد من أبعاد الإنسان مع الاخر وتأثره به.
وقد تمكن الأطباء الجسمانيون في مجال الطب البشري، وبفضل استعمالهم للمنهج العقلي التجريبي الصحيح(empirical method)  والمناسب للجسم المادي، من اكتشاف معايير علمية موضوعية(scientific objective criteria)؛ لتمييز الحالات الصحية عن المرضية، وذلك بعد أن تعرفوا على مكونات جسم الإنسان في علم التشريح (anatomy) ووظائف أعضائه الطبيعية في علم وظائف الأعضاء(physiology) ، مما مكنهم بعد ذلك من تحقيق انجازات باهرة في تشخيص الأمراض الجسمية وعلاجها بشتى الطرق الدوائية والجراحية، وبنحو يستوعب جميع أعضاء الجسم الداخلية والخارجية، سعيا وراء المحافظة على الصحة البدنية للإنسان.
وقد نجح الأطباء في فرض احترامهم على الناس، وأصبحت لهم منزلة مجتمعية عالية، بفضل خدماتهم الجليلة في تحقيق الصحة والسلامة البدنية، وأصبحوا ملاذا للمرضى والمصابين، وذلك بعد أن أضحى للطب البشري قانون علمي موضوعي .
كما صارت لهم نقابات مهنية مستقلة، ترعى أحوالهم، وتنظم وتراقب أعمالهم، وتحفظ المهنة من الدخلاء والمحتالين الأجانب، والمدّعين للطبابة، والذين من الممكن أن يتسببوا في إلحاق أضرار فادحة بالصحة العامة داخل المجتمع البشري.
وبمرور الزمان اكتشف الأطباء الجسمانيون أن هناك العديد من الأمراض الجسمية الكثيرة، ليس لها منشأ مادي أو عضوي ، وإنما منشأها هو الاضطرابات والاختلالات النفسية عند الإنسان(psychological disturbances) ، التي تنعكس سلبا على سائر أعضاء بدنه، كالكثير من أمراض القلب والدماغ والجهاز الهضمي…وغيرها من الأمراض الفتاكة والخطيرة ، وقد أفردوا لها قائمة مستقلة، أصطلحوا على تسميتها بالأمراض النفسية الجسمية  (psychosomatic diseases)، مما دعاهم بعد ذلك إلى فتح وتطوير باب علمي جديد سموه بالطب النفسي(psychiatry) ، بعد أن تيقنوا بالارتباط الشديد بين الجسم والنفس، ومدى أهمية الصحة النفسية في تحقيق الصحة البدنية.
وقد نجح علماء وأطباء النفس أيضا في تحقيق بعض الانجازات العلمية في تأمين الصحة والسلامة النفسية التي تتعلق بالبعد النفسي الانفعالي، المتعلق بدوره بالمشاعر والأحاسيس العاطفية عند الإنسان، بعد أن تمكنوا أيضا من اكتشاف بعض الموازين والقوانين العلمية للصحة والأمراض النفسية، وأساليب وطرق علاجها المختلفة، وأصبحت لديهم أيضا نقابة مهنية ترعى أحوالهم، وتمنع من دخول الدجالين والمشعوذين الذين يتلاعبون بمشاعر الناس وعواطفهم.
ولكن، ونظرا لاكتفائهم بالمنهج الحسي التجريبي، وإعراضهم عن المنهج العقلي البرهاني الميتافيزيقي في التعامل مع النفس الإنسانية ذات البعد المعنوي المجرد– كما أثبت الحكماء – فلم يتمكنوا من تحقيق النجاح الباهر، على غرار ما أحرزه الأطباء البشريون، بالنحو الذي يطمح إليه الإنسان، فتراهم لايسعون بجدية وعمق للوصول إلى مباديء الأمراض النفسية، ومناشئها البعيدة، ويتعاملون أحيانا بسطحية مع أسبابها القريبة، ويفرطون في استعمال الأدوية الكيميائية والمهدئات مع المرضى النفسانيين، وهذا وإن حقق بعض النجاح والراحة للمرضى ،إلا أنه قد عجز عن علاج أو استئصال الكثير من الأمراض النفسية التى أصبحت تفتك بالبشرية، هذا بالإضافة إلى الأعراض الجانبية الضارة جدا لهذه الأدوية على أعضاء الإنسان الحيوية.
وكما اكتشف الأطباء الجسمانيون تأثير الحالات النفسية على جسم الإنسان، مما استوجب تأسيس الطب النفسي ، كذلك اكتشف علماء النفس بمرور الوقت، تأثير الحالة الفكرية الروحية للإنسان (رؤيته للحياة)، على الصحة النفسية له وانعكاسها الشديد على مشاعره وعواطفه وسائر انفعالاته النفسية الشخصية والاجتماعية، وبالتالي على صحته الجسمية، مما اقتضى بدوره أن يؤسسوا علما جديدا ومستقلا باسم الطب المعنوي (spiritual medicine)، واضطرت منظمة الصحة العالمية (WHO) بعد ذلك لأن تلحق الصحة المعنوية أیضا فی تعریفها الجامع لصحة الإنسان، كما سبق وأن أشرنا
وقد عرفوا الصحة المعنوية بأنها (هي التي تجعل لحياتك معنى، فهي تدلك على ماهيتك ولماذا أنت هنا، وماهو الهدف من الحياة، وهي أعمق شيء فيك يهبك القوة والأمل والنشاط) [4]
وهذا التعريف يشير بوضوح إلى أن الصحة المعنوية تتعلق بالجانب الفكري الفلسفي في الإنسان، ورؤيته الكونية لنفسه وللعالم والحياة من حوله
كما أشار البعض لمعاني قريبة من هذا المعنى ، مثل:[5]
هي الشيء الذي يجعلنا نشعر بمعنى الحياة وهدفها.
هي التي تجلب لنا الأمل في أوقات الشدة والضياع.
هي التي تشجعنا على إقامة أحسن العلاقات مع أنفسنا ومع الاخرين.
هي التي تلعب دورا كبيرا في أوقات المحنة والمعاناة والأزمات العاطفية، وأثناء الأمراض الجسمية والنفسية، وعند الشيخوخة واقتراب الموت.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الناس الذين يتمتعون بصحة معنوية وروحية جيدة يعيشون حياة أطول من غيرهم[6]، كما اثبتت الدراسات أنهم أيضا أكثر مقاومة للأمراض والألام والتوتر،ويتمتعون بحياة أفضل من غيرهم [7]وأن التدين يعجل من سرعة الشفاء من الأمراض والبرء من الجراحات [8]ومن أجل كل هذا فقد أصبحت الصحة المعنوية مادة أساسية في معظم الجامعات الطبية في أمريكا[9]
ولأجل إبهام المعنى الروحي عندهم، مما ربما يؤدي إلى غموض البحث، وخروجه عن مقومات البحث العلمي، فسوف نسميه نحن هنا بالطب العقلي(intellectual medicine) ، أو الصحة العقلية( intellectual health) ؛ لأن العقل يمثل حقيقة الإنسانية ، وهو مبدأ الفكر والتفكير.
وعلى الرغم من الجهود المشكورة التي بذلوها لتطوير الصحة العقلية، إلا أنهم، وبسبب إصرارهم أيضا  على الاكتفاء بالمنهج الحسي التجريبي في بحوثهم العلمية – كما فعل الأطباء االنفسانيون – مع اعترافهم بكون موضوع بحثهم أمرا معنويا بعيدا عن المادة وخصائصها، وبسبب إصرارهم على التعامل السطحي الظاهري مع العوارض المرضية ومبادئها العميقة، فقد فشلوا في الوصول إلى قوانين علمية موضوعية تكون على مستوى الطموح، واقتنعوا ببيان بعض النصائح والتوصيات العامة الدينية والأخلاقية لعلاج الأمراض المعنوية، والتي بدأت تتفشى بنحو كبير، لاسيما في المجتمعات الغربية المادية.
وسبب عجزهم هو عدم معرفتهم بطبيعة عقل الإنسان من الناحيتين التشريحية والفسيولوجية، حيث يُعد علمي التشريح والفسيولوجي (anatomy & physiology) من العلوم الأساسية في علم الطب (basic sciences)، وبالتالي فقد عجزوا عن بناء علومهم على أسس علمية موضوعية.
ونحن نريد أن ننبههم – كمتخصصين في العلوم العقلية – أن العقل الإنساني(intellect) –  كجزء مهم ورئيسي من وجود الإنسان - له مكوناته وقوانينه الطبيعية(natural rules) ، ووظائفه الفسيولوجية(physiological functions) ، كما هو الحال لكل أعضاء بدنه، وأن هذه القوانين قد اكتشفها الحكماء منذ قديم الزمان، ودونوها في كتبهم المنطقية تحت عنوان قواعد التفكير الصحيح، لتكون معيارا علميا موضوعيا للصحة العقلية، وأن أي اختلال في هذه القواعد في التفكير يؤدي إلى اختلالات فكرية كثيرة، وبالتالي إلى أمراض معنوية متعددة.
وقد انطلق الحكماء من هذه القواعد والأصول العلمية لبناء صرح رؤيتهم الكونية عن الإنسان والعالم، ومبدأ الحياة ومنتهاها، فأصبحت فلسفة الوجود والحياة عندهم واضحة، وأضحت قوانين السلوك والأخلاق لديهم منقحة، ومنسجمة مع الطبيعة الواقعية للإنسان والعالم، وبالتالي أصبح طريق الصحة العقلية والسعادة الحقيقية معبدا أمام الإنسان.
وقد سعى أعداء الإنسانية منذ قديم الزمان إلى التشكيك في هذه القوانين الطبيعية بشتى السبل السفسطائية، ودعوة الناس للتمرد عليها، من أجل القضاءعلى عقولهم، والهيمنة عليهم، وتحقيق مصالحهم غير المشروعة. وقد تسبب ذلك كله في ضياع القانون الفكري، وفقدان الميزان العلمي الموضوعي للصحة العقلية ، مما أدى إلى تفشي الانحرافات الفكرية، والاراء والفلسفات الشاذة والأجنبية عن الطبيعة الإنسانية، مما أوقع البشرية في مستنقع المادية والعقائد الخرافية، وأدخلها في نفق مظلم وطويل.
وهدفنا هو إحياء هذه القوانين مرة أخرى، ووضعها بين يدي الأطباء العقلانيين(intellectualists) ، لينظروا فيها بعين الانصاف والموضوعية، فإن لم يقتنعوا بها، فليدلونا على قوانين أخرى بديلة عنها، وإن آمنوا بها فليتخذوها معيارا للصحة والمرض العقليين، كما يفعل الأطباء البشريون، فإنه لامعنى للطبابة بدون ذلك كما هو معلوم، وليعلموا أن الطب العقلي هو أشرف أجزاء الطب، لكون موضوعه، وهو عقل وروح الإنسان أشرف أجزاءه.
وفي الختام نتمنى أن يكون هذا البحث بداية جادة لتطوير الطب العقلي، وللعناية بالصحة العقلية، والتي هي منشأ الكمال الإنساني والسعادة الحقيقية.


[1]  Anonymous. Spiritual health is important, say our readers. WHO Chron 1979;((:(9-(0
[2]  The Bangkok Charter for Health Promotion in a Globalized World, (2005)
[3] Mueller PS, Plevak DJ, Rummans TA. Religious involvement, spiritually, and medicine: Implications for clinical practice. Mayo Clinic Proceedings 2001
[4] Thompson Rivers University)TRU( Counseling Department
[5] The Royal College of Psychiatrists’ Spirituality and Psychiatry Special Interest Group
[6] Strawbridge WJ, Cohen RD, Shema SJ, Kaplan GA. Frequent attendance at religious services and mortality over (8 years. Am J Public Health. 1997;87:957–961.
[7]  Yates JW, Chalmer BJ, St James P, Follansbee M, McKegney FP. Religion in patients with advanced cancer. Med Pediatr Oncol. 1981
[8]Harris RC, Dew MA, Lee A, Amaya M, Buches L, Reetz D, Coleman C. The role of religion in heart-transplant recipients› long-term health and well-being. Journal of Religion and Health. 1995
[9]Association of American Medical Colleges. Report I: Learning Objectives for Medical Student Education: Guidelines for Medical Schools. Medical School Objectives Project. Washington, DC: American Association of Medical Colleges; 1998








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر تستعد لإعادة إحياء نشاط صناعة الهواتف الذكية بعد توق


.. أبو عبيدة: فاتورة الدماء التي دفعها شعبنا لن يكون مقابلها سو




.. صور الأقمار الاصطناعية تظهر إقامة عشرات الخيام الجديدة في جن


.. باستخدام الذكاء الاصطناعي.. تقنية جديدة الحمض النووي قد تجنب




.. لماذا شدّد القضاء عقوبة مدوّن مغربي في قضية -إسكوبار الصحراء