الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن رشد رائد التنوير العقلي في العالم الإسلامي

أيمن عبد الخالق

2017 / 8 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ابن رشد
رائد التنوير العقلاني في العالم الإسلامي
((بعد موت ابن رشد، دخل المسلمون قرونهم الوسطى المظلمة))
" محمد أركون"
عندما نتكلم عن ابن رشد، فنحن نتكلم عن خاتم الفلاسفة العقليين في العالم العربي والإسلامي، الذين خدموا الإنسانية بحقيقة معناها، وسعوا إلى تنويرها، وتحريرها من ظلمات التعصب والتحجروالخرافة، وكرّس حياته في خدمة العلم، والتصدي للانحرافات الفكرية المنسوبة إلى الدين، وإحياء المنهج العقلي البرهاني، الذي أسس له المعلم الأول أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وقطع به دابر الشك والسفسطة في عصره، وشيّد عليه صرح العلوم والمعارف النظرية والعملية
وقد بدأت حركة النهضة والإزدهارالعلمي والفكري في العالم الإسلامي، مع بدايات القرن الثالث الهجري، على إثرانتعاش حركة الترجمة لكتب أرسطو في شتى العلوم والمعارف الإنسانية، لاسيما كتاب المنطق، والطبيعيات، ومابعد الطبيعة، ليبدأ بعدها تأسيس وتطوير المدارس العلمية في شتى التخصصات
وقد تباينت ردود الأفعال الإسلامية تجاه هذه النهضة الجديدة بنحوكبير، حيث انقسمت الأمة الإسلامية إلى اتجاهين متقابلين، الاتجاه الأعظم، الذي تزعمه رجال الدين الإسلامي من الفقهاء والمحدثين، وفي مقدمتهم أئمة المذاهب الإسلامية الأربعة المشهورة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، واحمد بن حنبل، الذين اعتبروا منطق ارسطو، وفلسفته، بدعة مستحدثة، ونحو من الغزو الثقافي الغربي الأجنبي للأمة الإسلامية، ومخالف لمناهج الدين، ومبادئه، وبالتالي اتخذوا موقفا معاديا، ومتشددا ضد هذه الحركة العلمية الجديدة، هذا على حين اتخذ الاتجاه الأقل على الجانب الاخر موقفا عقلانيا إيجابيا تجاه هذا التراث العلمي الفلسفي النفيس، فعكفوا على شرحه،وتحقيقه، وتطويره، ليبنوا على أساسه القراءة الإسلامية الواقعية المستنيرة، التي تكشف عن جوهر الدين الإنساني وحقيقته، وقد برز على هذه الساحة الفكرية مشاهير الفلاسفة الإسلاميين العقليين من أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، والطوسي، وابن باجة، وابن الطفيل، ومسك ختامهم ابو الوليد ابن رشد
ثم مالبث أن وقع انشقاق كبير في صفوف الاتجاه الديني الأول المعادي للعلم والفلسفة، حينما ارتأت طائفة من عقلائهم، أن تفرق بين المنطق والفلسفة، حيث أحلتّ الأول، وحرمت الثاني، واعتبرت المنطق أداة مهمة للعلم، وللدفاع عن الدين ضد الفلاسفة المارقين بحسب نظرهم، وهؤلاء قد سُموا بعد ذلك بالمتكلمين، وأما القسم الأكبر من الاتجاه الأول، فقد آثرالتعصب، والجمود على ظواهر النصوص الدينية، وإقصاء العقل، وتحريم المنطق والفلسفة معا، وتكفير الفلاسفة وتضليل المتكلمين، وقد سموا بعد ذلك بأهل الحديث والحشوية، وقد وصلوا إلى ذروتهم في القرن السابع الهجري على يد شيخهم الأكبر" أحمد بن تيمية" والذي يُعد بحق الأب الروحي للاتجاه الديني السلفي المتشدد على مر التاريخ، وإلى يومنا هذا
أما الاتجاه الكلامي لرجال الدين فلم يعبأ كثيرا بمشاغبات أهل الحديث معه، وتفرغ لدراسة المنطق والفلسفة الأرسطية، ليدخل بعدها في معركة شرسة مع الفلاسفة، قادتها مرجعيات ورموز إسلامية مشهورة، من أمثال الجويني والباقلاني، والشهرستاني، والتفتازاني، والغزالي، والفخر الرازي، حيث دونوا خلالها كتباً كثيرة، كمصارع الفلاسفة، وتهافت الفلاسفة، وشرح وجرح الإشارات والتنبيهات، والتي مازالت آثارها السلبية موجودة في فكر، ووجدان أغلب المسلمين إلى يومنا هذا
وقد بدأ الاتجاه الكلامي يضعف كثيرا في العالم الإسلامي، مع منتصف القرن السادس الهجري بعد الحملات القوية التي وجهها إليه فيلسوف قرطبة ابو الوليد بن رشد في المغرب الإسلامي، والانتقادت الشديدة المتلاحقة التى شنها عليه المحقق النابغة والفيلسوف الكبيرنصير الدين الطوسي في المشرق، الذي كرّس كل حياته لتقرير وشرح كتب الفلاسفة، لاسيما ابن سينا، والدفاع بقوة عن الفلاسفة ودفع وتفنيد شبهات المتكلمين
ولكن للأسف الشديد، فبدلا من أن يصعد بعدها نجم الفلاسفة في الأمة الإسلامية، بزغ نجم الاتجاه الديني الإخباري المتطرف لأهل الحديث، بعد انحسار مخالفيهم من المتكلمين، وقد ساعد على ذلك ظهور ابن تيمية، ومن بعده تلميذه ابن القيم الجوزية، ووصول المتوكل العباسي المتعصب والمعادى للعقل والعقلانية إلى سدة الحكم، حيث بدأ بعدها عصر الانحطاط وتخدير الشعوب المستضعفة.
وقد أخذ ابن رشد على عاتقه في المغرب الإسلامي شرح وتحرير كتب أرسطو في المنطق والطبيعيات والإلهيات، والدفاع عن الفلسفة الإلهية، وإحياء المنهج العقلي البرهاني، وبيان أهميته في العلوم والمعارف الإنسانية، وإبراز العلاقة الوطيدة بين الحكمة العقلية والدين، كما تجلت في القران الكريم، وكما جاء ذلك في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)
كما انتقد بشدة مناهج المتكلمين الجدلية، واعتبرها بدعة، لايعرفها الأنبياء، ولايقبلها الحكماء، وأنها قد شتت الأمة الإسلامية ، وجعلتهم طرائق قددا، كما أبان عن ذلك في كتابه (كشف مناهج الأدلة)
ولم يألوا ابن رشد جهداـ على الرغم من مقاومة رجال الدين له ـ في ترويج الحكمة والعقلانية، وبناء جيل من الشباب الصاعد المستنير؛ ليحمل في المستقبل راية الإصلاح والتغيير
ولكن من عجائب القدر، أن يُحرم العرب والمسلمون، من تراث ابن رشد في حياته، وبعد وفاته، بسبب ضيق أفق، وتعصب رجال الدين في عصره، والذين لم يهنأ لهم بال إلا بعد أن قلبوا عليه الأمور، واتهموه ـ كعادتهم مع الفلاسفة والحكماء ـ بالكفر والزندقة، وتسببوا في نفيه مع طلابه إلى الصحراء، بعد إحراق كل ماوصلت إليه أيديهم من كتبه وتراثه الثمين في الميادين العامة، ليدخل المسلمون بعدها في نفق مظلم طويل لأكثر من ستة قرون، عمّ فيها الجهل، والتخلف، والخرافة.
ولكن من ألطاف القدرأن تمكن أحد تلامذته الأوفياء من تهريب بعض كتبه عن طريق البحر، ليصل بها إلى جامعة بادوا بإيطاليا، ثم إلى كلية أصول الدين بجامعة باريس، وليتم نقلها بعد ذلك إلى جامعة أكسفورد بانجلترا، ثم إلى جامعة كولونيا بألمانيا، ليتم ترجمتها إلى عدة لغات، ليخرج بعدها الغرب بالتدريج من القرون الوسطى المظلمة، وليدخل في بدايات عصر النهضة، الذي وطد الأرضية لعصر الحداثة والتنوير بعد ذلك
ولقد ظهرعلى إثر ذلك، ومع بدايات القرن الثالث عشرالميلادي، التيار الرشدي العقلاني بين النخب المثقفة في الجامعات الغربية، الذين ماانفكوا يروجون للاتجاه الفلسفي العقلي لابن رشد بين الطبقات المثقفة في كل مكان، وبدأوا بطبيعة الحال في الإصطدام مع رجال الكنيسة المتعصبين، مما اضطر مطران باريس لإصدار فتواه المشهورة بتكفير أرسطو، وجميع شراحه، وعلى رأسهم ابن سينا وابن رشد،وأتباعهم المعاصرين في الغرب، وتحريم نشر وقراءة كتبهم.
وقد صدرت هذه الفتوى بعد 150 عاما من فتوى الغزالي التكفيرية في العالم الإسلامي ضد ارسطو وابن سينا والفارابي، وقد استمر مفعول هذه الفتوى في الغرب لعدة قرون إلى بداية عصر التنوير.
وكأن الذي تحقق للعالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري بعد ترجمة تراث أرسطو الغربي، ودخول الأمة الإسلامية في عصر النهضة والإزدهار لعدة قرون، مع مقاومة أغلب رجال الدين الإسلامي له، قد تحقق بعينه في الغرب مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، بعد ترجمة التراث العربي الإسلامي، لاسيما لابن رشد، وتصدي أغلب رجال الدين المسيحي له ......وتلك الأيام نداولها بين الناس!
ولكن على الرغم من الاستفادة العلمية الكبيرة للغرب من المنهج العقلي العلمي التجريبي لابن رشد، وتحقيقه للنهضة العلمية العظيمة مع بدايات القرن السابع عشر، ووصول النهضة العلمية الفكرية التحررية إلى أوج قوتها في قرن التنوير الثامن عشر، إلا أنهم ـ وللأسف الشديد ـ لم يستطيعوا أن يستوعبوا، أو يستفيدوا من الجانب العقلي الفلسفي الميتافيزيقي عند ابن رشد، بعد انحسار التيار العقلي لديكارت واسبينوزا، وانتصار التيار الحسي لفرنسيس بيكون وجون لوك، وتشكيكات دافيد هيوم، وانتقادات عمانوئيل كانط الشديدة للعقل البرهاني الميتافيزيقي ، مما أوقعهم في دوامة التفكيرالحسي المادي، الذي وصل إلى أوجه على أيدي الوضعية المنطقية، وبرتراند رسل، وحلقة فيينا
وقد أدى هذا التفكيك غير المنطقي بين المنهج العقلي التجريبي والمنهج العقلي البرهاني الميتافيزيقي، إلى حرمان الحضارة الغربية الحديثة من الكثير من القيم الأخلاقية والمعنوية، وطغيان الاتجاه المادي، والبرجماتي، وتفشي الرأسمالية، والبرجوازية، وظهور الإمبريالية العالمية، والحركات العنصرية والفاشية والنازية التي انتهكت أبسط مبادئ حقوق الإنسان، وتسببت في وقوع حربين عالميين راحت ضحيتهما عشرات الملايين من الأبرياء
كما أنّ تنكرهم للعقل البرهاني الميتافيزيقي الذي هو ثمرة المنطق الأرسطي،كما يصرح أرسطو بذلك في مقدمة كتاب القياس، أوقع الكثير منهم في مستنقع الشك والسفسطة، والذي وصل إلى أوجه في منتصف القرن العشرين، ودخول الغرب في عصر مابعد الحداثة (post modernism)، والذي أصبح يشكك في كل القيم والثوابت الفكرية والعلمية
هذه باختصار قصة ماقبل ابن رشد ومابعده في الشرق والغرب، وما وصلنا إليه الان من أحوال متردية في الجانب الفكري والإنساني . وعلى الرغم من التطور العلمي والتقني الهائلين، فما زلنا نعيش بين فكي الاتجاه المادي الرأسمالي الإمبريالي التوسعي من جهة، وبين الاتجاه الديني المتطرف والخرافي من جهة أخرى
ونحن قد آلينا على أنفسنا كمتخصصين في العلوم العقلية والفلسفية، أن نعتمد النضال العقلي، والكفاح الفكري على درب الإنسانية، مهما طال المدى، وكلفنا الأمر، وأن نرفع راية العقلانية والحرية والعدالة، ونسعى بكل الوسائل الممكنة والمشروعة، لإحياء المنهج العقلي البرهاني، والذي بحياته تحيا الإنسانية، وتستنشق نسيم الحرية.
كما نمد أيدينا إلى جميع الأحرار والشرفاء والمستضعفين في الشرق والغرب، لنخرج المجتمعات البشرية من هذه المحنة الكبيرة، والمتاهة العظيمة، التي أوقعتنا فيها الرأسمالية والإمبريالية العالمية، وجهل وانتهازية الجماعات المنسوبة إلى الدين، لكي نحرر البشرية، ونسترد الكرامة الإنسانية، ونقيم معا العدالة الاجتماعية، والتعايش السلمي، ونحقق حلم الأنبياء والحكماء في تحقيق الحضارة الإنسانية والسعادة الحقيقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام