الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبل طارق والإستراتيجية البحرية البريطانية

عبد الرزاق العساوي

2017 / 8 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لقد شكلت صخرة جبل طارق قضية مصيرية للبريطانيين، من خلال تشبثهم وإصرارهم و تضحياتهم الجسام، في سبيل الحفاظ على هذه القاعدة، مما يؤكد الأهمية الإستراتيجية لجبل طارق في إطار السياسة البريطانية المتوسطية.
والأكيد أن بريطانيا، كان بإمكانها تجنب العديد من الخسائر البشرية والمالية بتنازلها عن جبل طارق في مناسبات عديدة، غير أن الخبرة البحرية البريطانية المتراكمة، فرضت ضرورة التشبث بالصخرة مهما كانت الصعاب؛ لأن تحقيق ذلك كفيل بتطبيق الإستراتيجية البحرية البريطانية البعيدة المدى.
لقد كان جبل طارق صلة وصل بين بريطانيا و البحر الأبيض المتوسط، بحيث فرضت عليها ظروفها الجغرافية الابتعاد عن مركز الأحداث والوقائع العالمية، المتمثل في البحر الأبيض المتوسط، تاركة المبادرة لقوى أخرى كانت تعتبر السيطرة على المتوسط بمثابة السيطرة على العالم، ونخص بالذكر هنا العثمانيين والإسبان .
لذا اعتبر البريطانيون سيطرتهم على جبل طارق سنة 1704م بمثابة حدث تاريخي، يمكن أن يشكل منعطفا في تاريخ البحر الأبيض المتوسط، إذ أصبحت بريطانيا منذ ذلك الحين عضوا مشاركا في ملكية البحر الأبيض المتوسط. ومن ثم لم تعد الأساطيل البريطانية ملزمة باختراق المتوسط طولا وعرضا، باحثة عن الأعداء قصد تدميرهم والعودة إلى الوطن الأم، مما يؤدي إلى استنزاف طاقتها، وتعريضها لهجومات الأعداء المتربصين بالجزر ومحطات التموين بالمتوسط، بل أصبح بإمكان هذه الأساطيل الرسو بقاعدة بريطانية قارة في بوابة البحر الأبيض المتوسط، وبخصائص جغرافية متميزة.
1- الموقع الجغرافي و أصل التسمية:
يتميز جبل طارق بموقع استراتيجي، فهو يقع في أقصى جنوب شبه جزيرة إبيريا، على منطقة صخرية متوغلة في مياه البحر الأبيض المتوسط، بين خط عرض 36° وخط طول 21°، تقدر مساحته ب 1500 ياردة، وهو يمتد على طول يصل إلى خمسة أميال، في حين يتجاوز عرضه أربعة أميال، وتتميز مياهه بعمق كبير، لذا فقد شكل ملجأ آمنا للسفن .
وتزداد الأهمية الاستراتيجية لموقع صخرة جبل طارق بفضل قربها من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بحيث لا تفصل الصخرة عن الضفة الجنوبية إلا كيلومترات قليلة. ومن ثم فهي تشكل مضيقا استراتيجيا يمكن القوة التي تستقر به من مراقبة مختلف التحركات والعمليات البحرية بالمتوسط .
وعلى الرغم من التركيبة الجيولوجية للصخرة المتمثلة في كتلة صخرية كلسية تفتقر لأهم شرط من شروط الحياة ويتمثل في الماء، غير أنها توفر شروط أخرى لا تقل أهمية، خاصة على المستوى الأمني، ونقصد هنا تلك الكهوف والمغارات المنتشرة بالمنطقة، والتي استعملتها الحاميات العسكرية المتعاقبة على حكم الصخرة كمآوي لجنودها .
ويرجع أصل تسمية جبل طارق إلى القائد الإسلامي طارق بن زياد الذي فتح المنطقة في 30 أبريل 711م، بعدما كان الجبل يحمل سابق اسم Mont Calpé . ثم استقرت التسمية خلال العصر الحديث على اسم جبلتار Gibraltar .
2- جبل طارق في التاريخ القديم:
شكل مضيق جبل طارق نقطة عبور لكافة الشعوب التي مارست الملاحة البحرية بالحوض الغربي للمتوسط. فقد أولى الفينيقيون أهمية كبرى للمنطقة، بحيث عملوا على توسيع نطاق ملاحتهم المتوسطية لتشمل غرب المتوسط، على الرغم من صعوبة المغامرة بالنظر إلى غموض المنطقة. كما سعوا للوصول إلى ما بعد أعمدة هرقل، حيث المحيط الأطلسي الذي شكل آنذاك عالما مجهولا .
وقد اعتمد الفينيقيون في تحقيق أهدافهم الملاحية على طريقة "المساحلة" التي ربطتهم مع العديد من المراكز التجارية، كما هو الحال بالنسبة لقرطاج التي أضحت منذ القرن الثامن ق.م قوة تجارية بالمتوسط، تسيطر على مضيق جبل طارق بضفتيه الشمالية والجنوبية حيث أسست عدة مراكز تجارية . غير أن الهيمنة القرطاجية لم تستمر طويلا، فمنذ القرن الثالث ق.م دخلت قرطاج مرحلة تراجع، وذلك تحت ضربات القوة القادمة الجديدة والمتمثلة في الرومان، الذين وضعوا المضيق ضمن أولويات أهدافهم التوسعية.
ومن بين أهم المراكز التي راهنت عليها هذه القوى نجد صخرة جبل طارق التي شكلت مفتاحا أساسيا للبحر الأبيض المتوسط، وما يؤكد ذلك هو قدم الاستقرار البشري في هذه المنطقة، كما تثبت ذلك العديد من الجماجم التي عثر عليها بالصخرة . فقد لعب جبل طارق دورا كبيرا في الصراع حول الحوض الغربي للمتوسط بين مختلف ا لقوى السياسية المتعاقبة، ونعطي هنا مثال الحروب البونيقية، فقد اتخذه القرطاجيون برجا للمراقبة قصد رصد السفن الرومانية. كما اتخذه الرومان، خلال فترة سيطرتهم على التجارة المتوسطية، مركزا أساسيا لعملياتهم التجارية.
3- جبل طارق من الفتح الإسلامي إلى حروب الاسترداد:
تمكن المسلمون من فتح جبل طارق سنة 711م على يد القائد طارق بن زياد، مستغلين ضعف الإمبراطورية البيزنطية من جهة، وضعف القوط الغربيين Visigoth من جهة أخرى، نتيجة لصراعاتهم الداخلية حول الحكم. وانطلاقا من جبل طارق، انطلق المسلمون لفتح المناطق الجنوبية لإسبانيا، وتمكنوا من الوصول إلى غاية طليطلة التي أصبحت عاصمة لهم بالأندلس سنة 713م .
وقد أدرك المسلمون بدورهم الأهمية الإستراتيجية لجبل طارق في السيطرة على المضيق ومراقبته، لذا فقد سارعوا إلى بناء حصن منيع به لمراقبة مختلف التحركات البحرية والبرية بغرب المتوسط، خاصة منها المسيحية الهادفة إلى استرجاع الأندلس، ومضيق جبل طارق وذلك في إطار ما سمي ب"حروب الاسترداد" .
وقد ركز المسيحيون أثناء حروب الاسترداد بشكل كبير على جبل طارق بقيادة ملك قشتالة فرناند الرابع Ferninand IV (1295م - 1312م)، الذي حاصر الصخرة سنة 1303م، غير أن هذا الحصار انتهى بالفشل، ليعود بعد ذلك المسيحيون إلى محاصرة الجبل من جديد سنة 1315م، لكن دون نتيجة تذكر.
ثم تجددت محاولات الحصار المسيحي سنة 1333م، بحيث ضرب المسيحيون حصارا شديدا على صخرة جبل طارق استغرق مدة أربعة أشهر، غير أن المسلمين أبانوا خلال هذا الحصار عن قدرة كبيرة من الصبر والمقاومة، مستفدين من خصوصيات المنطقة الطبيعية. وأمام هذا الصمود الكبير للمسلمين قام المسيحيون برفع الحصار، وتوقيع معاهدة السلم مع أمير غرناطة وسلطان المغرب .
ولم يضع ذلك حدا للمحاولات المسيحية التي تكررت في مناسبات عديدة كما حدث سنة 1340م عقب معركة ريو سلادو Rio Salado، وكذلك في سنة 1410م عندما حاول المسيحيون استغلال الخلاف بين العرب و الأمازيغ.
وقد استمرت الرغبة المسيحية في السيطرة على جبل طارق إلى حدود 1462م، عندما نجح المسيحيون في اقتحام المنطقة وضم جبل طارق. وبذلك أصبح رمز مجد إسبانيا، وأسطورة تاريخها ونضالها الطويل ضد الوجود الإسلامي، وقاعدة انطلاقها في سبيل تحقيق وحدتها .
4- جبل طارق خلال حقبة السيطرة الإسبانية:
عمل الأسبان، مباشرة بعد استرجاعهم لصخرة جبل طارق، على إنشاء مدينة صغيرة تعتمد على التجارة، بهدف ترسيخ الوجود الإسباني بالمنطقة، فضلا عن خلق حركية تجارية نشيطة تمكن إسبانيا من مراقبة مضيق جبل طارق.
غير أن الإسبان وجدوا أنفسهم أمام مشاكل جمة، في مقدمتها المشاكل الإدارية المرتبطة بطبيعة الحكم الإسباني خلال فترة "حروب الاسترداد"، والذي اعتمد على أسس فيودالية من خلال تسليم حكم المناطق لأسر إقطاعية. وقد نتج عن ذلك دخول جبل طارق لفترة صراع سياسي نتيجة التنازع بين عدة أسر من أجل حكم الصخرة بحكم أهميتها الإستراتيجية .
إلى جانب ذلك واجه الإسبان مشاكل عسكرية، تتمثل في صعوبة ضبط المضيق عسكريا، وذلك نتيجة فقدان الإسبان السيطرة على الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق الذي أضحى خلال هذه الفترة حدا سياسيا ودينيا، بحيث انقطعت العلاقات بين الضفتين وسيطرت الاعتبارات الدينية على الحركة التجارية .
ومما زاد أمور الإسبان تعقيدا هو ظهور المنافسة الانجليزية بالبحر الأبيض المتوسط، والتي ظهرت بوادرها مع تولي هنري السابع Henri VII حكم إنجلترا سنة 1485م. فقد عمل هذا الملك على تدعيم موارد بلاده الاقتصادية من خلال تشجيع تجاره على اقتحام البحر الأبيض المتوسط، ففي سنة 1446م قامت سفينة إنجليزية بنقل الصوف والحجاج إلى الأراضي المقدسة. ثم توالت بعد ذلك الرحلات الإنجليزية عبر المتوسط، لتتوج سنة 1467م بتأسيس جمعية "التجار المغامرين" ببريستول Bristol، كان هدفها الأساسي التجارة عبر البحر الأبيض المتوسط.
وأمام هذه الضغوط، لم يعد الأسبان قادرين على مراقبة مضيق جبل طارق، على الرغم من تواجدهم بأهم نقاطه الإستراتيجية، بحيث اكتفوا بأساليب محدودة كالتجسس، وقد ساهم ذلك في تكريس الاتجاه العام للسياسة الإسبانية التي ارتبطت بالبر أكثر من البحر، على عكس الإنجليز الذين اقتحموا عباب البحر .
وإجمالا، يمكن القول إن جبل طارق في عهد الإسبان، كان نموذجا للمدينة الأوربية المتسخة المتفشية الأوبئة، الفارغة من السكان، يعيش به بعض العشرات، والمشكلين أساسا من المجرمين و المطرودين. أما اقتصاديا فقد أضحى جبل طارق خلال هذه الفترة مكانا للتعبد فقط دون أنشطة اقتصادية تذكر. الأمر نفسه ينطبق على الجانب العسكري بحيث فقدت الصخرة دورها الاستراتيجي، ودليلنا على ذلك غياب الآثار العسكرية المرتبطة بالإسبان.
5- جبل طارق خلال الحقبة البريطانية:
عملت بريطانيا، مباشرة بعد احتلال جبل طارق، على وضع حامية عسكرية قارة هناك، وذلك بهدف ضمان مراقبة جيدة لأوضاع البحر الأبيض المتوسط، بحيث أصبح جبل طارق قاعدة أساسية لانطلاق أغلب العمليات البحرية البريطانية الموجهة ضد خصومها، كما حدث خلال الصراع البريطاني - الفرنسي إبان الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م، فضلا عن كونه قاعدة صيانة وتموين لهذه العمليات .
إلى جانب ذلك لعب جبل طارق دورا كبيرا في وضع حد لقراصنة شمال إفريقيا الذين كانوا لا يترددون في اغتنام فرص الانقضاض على السفن الأوربية. فقد عملت حامية جبل طارق على التدخل لتهدئة الأوضاع وتأديب قراصنة الشمال الإفريقي كما حدث في صيف 1816م، عندما أرسل سرب بريطاني بقيادة الأميرال أكسماوت Exsmouthإلى طرابلس وتونس والجزائر بهدف تحرير الأسرى .
وبناء على ما سبق ذكره، يمكن القول أن البريطانيين، كانوا يدركون جيدا البعد الاستراتيجي لصخرة جبل طارق، كما أنهم نجحوا في استغلال إمكانياتها الإستراتيجية في سبيل تحقيق سياستهم المتوسطية البعيدة المدى. فقد اعتبر البريطانيون جبل طارق ورقة سياسية للضغط على الخصوم، وفي مقدمتهم الإسبان والفرنسيين. على الرغم من عبئها الثقيل على الميزانية العامة لبريطانيا، إذ كانت مرتبطة في أبسط حاجياتها بالخارج .
ومما زاد من تشبث البريطانيين بصخرة جبل طارق، رغم الخسائر الفادحة، التنامي الكبير لشعبية الصخرة وسط الرأي العام البريطاني، فقد اعتبرت مسألة الحفاظ على صخرة جبل طارق مسألة جوهرية لبريطانيا، لتصبح بذلك رمز وحدة بريطانيا وأسطورة تاريخها. فقد ذكر Garatt في كتابه: « Gibraltar and Mediterranean »أن جبل طارق أضحى بالنسبة للبريطانيين، مثل سجن لاباستي La Bastille بالنسبة للفرنسيين خلال القرن الثامن عشر .
وانطلاقا من منتصف القرن 18م شهد جبل طارق حركية تجارية بفعل انتعاش حركة المبادلات التجارية بالبحر الأبيض المتوسط. فقد ارتفع عدد السفن القادمة إلى الصخرة خاصة منها البريطانية والأمريكية، وذلك بهدف اقتناء الخمور، مقابل تفريغ شحنتها من الأرز و السكر.
وخلال القرن 19م تحول جبل طارق من مجرد قاعدة عسكرية بريطانية إلى أحد أهم المراكز التجارية المتوسطية. فقد أصبح مستودعا للتجارة يقصده التجار من كل حدب وصوب، مما أعطى للمكان ديناميكية وحركية اقتصادية بلغ تأثيرها مناطق متوسطية متعددة .
وقد ارتبط هذا التحول الذي عرفه جبل طارق بعدة عوامل، نذكر من بينها: الإصلاحات التي قامت بها السلطات البريطانية على المستوى الأمني والضريبي، مما ساهم في تزايد عدد سكان جبل طارق ، إلى جانب عامل الاحتلال الفرنسي للجزائر، إذ تزايدت حاجياتهم إلى السلع المختلفة انطلاقا من جبل طارق. كما ساهم استقرار العديد من الشركات التجارية بالصخرة في تنشيط الحركية التجارية بها، فقد فاقت معاملات هذه الشركات، حسب جون لوي مييج، قيمة 500.000 فرنك فرنسي في السنة .
ومن العوامل المساعدة على هذا التحول كذلك، نذكر الحركية المهمة التي شهدتها الصخرة على مستوى الملاحة البحرية. فقد ارتبطت الصخرة بأحد عشر ميناء متوسطيا، في كل من المملكة المتحدة، وفرنسا، والموانئ الإسبانية، والبرتغالية، وذلك بواسطة تسعة خطوط ملاحة عادية شهريا. وفي سنة 1858م أضحى عدد الخطوط البحرية، نحو خمسة عشر خطا بحريا .
كما تحول جبل طارق خلال القرن 19م إلى مركز مهم لجمع المعلومات والأخبار بالبحر الأبيض المتوسط، من خلال ظهور مراكز بريد لعبت دورا مهما في نقل المعلومات بين مختلف مناطقه. فضلا عن ذلك أصبح جبل طارق مركزا مهما لاستقبال البعثات التبشيرية المسيحية، قبل توجهها إلى شمال إفريقيا قصد نشر الديانة المسيحية كما هو الحال بالنسبة للبعثة الفرنسسكانية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس يبحث تمويلا إضافيا لإسرائيل| #أميركا_اليوم


.. كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي: لدينا القدرة على




.. الخارجية الأمريكية: التزامنا بالدفاع عن إسرائيل قوي والدفاع


.. مؤتمر دولي بشأن السودان في العاصمة الفرنسية باريس لزيادة الم




.. سر علاقة ترمب وجونسون