الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العمال والثقافة البروليتارية...رؤية تروتسكي للادب والثورة.

ماجد الشمري

2017 / 8 / 23
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


"وسيعلو الانسان العادي الى آفاق ارسطو وجوته وماركس،وفوق هذه الآفاق ستعلو قمم جديدة".....
-تروتسكي-

منذ القرن الماضي حتى يومناهذا،والمكتبات تزدحم بسلسلة من الكتب الغربية الحديثة/ولازالت تتدفق عن ليون تروتسكي:"التروتسكية"و"نظرية الثورة الدائمة"و"الثورة المغدورة"و"تاريخ الثورة الروسية"..الخ فقد زال خطرها وتشويشها بعد انهيار التجربة الروسية وملحقاتها.قد يتصور القاريء غير المطلع بأن قضية التروتسكية:هي مجرد،او لاتخرج عن"صراع على السلطة"بين تروتسكي وستالين.واذا كان هذا السيل من الكتب جرى بعد تحرير الماركسية من"الستالينية"فهي تقود حتما للتعاطف مع تروتسكي والتروتسكية،ولكنه تعاطف انساني،غير مبني على اسس موضوعية علمية،ومنطق النظرية الثورية،يستمد شعور التعاطف هذا من:الممارسات السلبية والخاطئة والمتحاملة،والتي بدرت من ستالين خلال صراعه مع تروتسكي،وما اعقبها من تطورات،تلك الممارسات والاجراءات،الصحيح منها،والمبالغ فيه،والمفترى احيانا،ويستمدها ايضا من المصير التراجيدي لنفي تروتسكي،وموت اولاده وبناته،وجريمة اغتياله الشنيعة بضربة معول-بروليتاري-!!شطرت رأسه نصفين من قبل عميل الغيبيو الستاليني رامون ميركادير-بطل الاتحاد السوفيتي،في مابعد!- بعيدا هناك في الطرف الاخر من العالم في المكسيك.وساد الاعتقاد المنطقي،بان مأساة تروتسكي هي جزء من اهوال وفظاعات الستالينية الى حد ذهب البعض في السؤال :لماذا وقد جرى نقد ستالين من خلفائه،لم يرد الاعتبار لتروتسكي؟؟!!ولكن تدفقا اخر من سيل الكتب،انتقدت وفندت النظرية التروتسكية،وسلطت الضوء على عشرات المنظمات-التروتسكية الصغيرة-الناشطة والمنتشرة في اوربا وامريكا اللاتينية،ولكن الكل المدافع والمناويء لم يتعرض لجذور الخلاف بين لينين وتروتسكي،وهذا ما يضعف الحجة لدى المدافعين عن تروتسكي،لمجرد كونه ضحيه من ضحايا ستالين!وايضا يخلخل من تماسك حجج المناوئين،فليس لديهم سوى اوهام وتجنيات عن الخلافات الفكرية وخاصه في عهد ستالين.والكتب والابحاث الماركسية (اللينينية)،والتي صدرت من باحثين ومنظرين ماركسيين عن التروتسكية،وجذور الخلاف بين تروتسكي ولينين،ومن ثم مع ستالين،كانت شحيحة،ان لم تكن معدومة قبل الثورة البلشفية وبعدها-في حينه-وقد ركزت دائما على التروتسكية التي راجت بعد مصرع تروتسكي،وامتداداتها وانقساماتها وعلاقاتها ومدى انفصالها عن الماركسية الارثوذكسية،وقربها من افكار ماركس،وما هو جدير بالانتباه،هو حتى الدراسات الماركسية في هذا الشأن والتي صدرت في الاتحاد السوفيتي السابق،كانت تشير فقط الى"التروتسكية"و"التروتسكيين"،وتتجنب غالبا الاشارة الى تروتسكي،وكأنه طيف متواري ومسكوتا عنه،هل هي عقدة الذنب الستالينية؟؟!!وفي كلا الحالين:الكتب الغربية التي تدافع وتساند تروتسكي-وهو في قبره!!-"طبعا الاهداف الايديولوجية البرجوازية معروفة،ومشكوك في نزاهتهاولا يعول عليها ،وان كان بها بعض الحقائق"!!وايضا الدراسات الماركسية(اللينينية) التي ترد على التروتسكية،وتحاجج التروتسكيين.كان يغيب ويختفي ما كتبه وما قاله تروتسكي!!والامر المؤسف في تلك الفترة من القرن الماضي،كان غياب النصوص-نصوص تروتسكي-ظاهرة ملموسة!نعم كانت هناك كتابات عن تروتسكي والتروتسكية دحضا او تأييدا،ولكن النصوص اياها كانت هي الغائبة،اي ما كتبه هو،اما ماكتبه غيره عنه،ممن تبنى افكاره بعده،وما قرأناه،كان مجرد كتابات ونصوص من الدرجة الثانية(التابعين)!وكان تروتسكي هو الغائب الاكبر!فمعرفتنا به استقيناها من الادبيات السياسية والايديولوجية المعادية له!فقد كان المهرطق الرجيم،والخارج عن المجمع الارثوذوكسي في الوطن الام!!..(واقطع هنا السرد الممل والتداعيات خارج موضوع هذه المقالة والتي هي مجرد استحضار ذهني لموضوع شائك ومعقد وليس هنا مجاله)لاذكر حكاية طريفة عن صديقي المهندس الشيوعي المخضرم،والذي عبر الستين من عمره بسنين،ولازال شيوعيا مواضبا في انتماءه التقليدي للحزب الشيوعي الرسمي!عندما شاهدني اقرأ كتاب تروتسكي(تاريخ الثورة الروسية) طلب مني استعارته،فسألته:الم تقرأهذا الكتاب من قبل؟!.ولم اكن بحاجه لسؤاله،لانني اعرف الجواب!كان الكتاب وكل كتب تروتسكي من المحرمات على اعضاء الحزب الشيوعي العراقي،بل كل الاحزاب التي كانت تدور في فلك موسكو!!فتروتسكي كان يعتبر:مرتدا..ملعونا..منبوذا..وممنوعا الى درجة التحريم..من قبل( الكنيسةالستالينية)!!اعود لموضوعي الذي شططت عنه بعيدا،وهو كتاب(الادب والثورة) لتروتسكي،وهو ليس من النصوص الشائعة والمقروئة حتى في اللغات الغربية.ورغم ان هذا النص بعيد جدا عن القضايا الخلافية السياسية والايديولوجية مثل:"الثورة الدائمة"و"الاشتراكية في بلد واحد"و"دور الفلاحين في الثورة الاشتراكية"الخ..الا انه يضعنا امام سؤال:هل من الضروري ان نقبل او نرفض مفكرا بكليته،سواء كان تروتسكي او غيره،اشتراكيا كان ام ليبراليا؟!ويبقى السؤال دون اجابه!!..فصول كتاب الادب والثورة هو مجموعة مقالات،يبرز فيها الجانب الابداعي من شخصية تروتسكي،ويمدنا بجانب من المعرفة،ليراكم حصيلتنا الفقيرة من الفكر الماركسي المتجدد..نص تروتسكي"الادب والثورة"كتب مابين عامي1922و1923 وكان تروتسكي حينها مفوضا للحرب في الحكومة البلشفية بزعامة لينين.وقد نشرت المقالات في جريدة الحزب"البرافدا"،وجزء منها وهو المتعلق بموضوعة الادب والحزب،هو نص مداخله لتروتسكي في اجتماع للحزب عام1924وكان لازال مفوضا لشؤون الحربية،فقد شغل هذا المنصب حتى عام1925.ان مقالات تروتسكي عن الادب والثورة تكشف جانبا ظل مجهولا من فكر واهتمامات تروتسكي،بل وحتى الدراسات التي كتبت عنه وعن نظرياته لم تلقي بالا لهذا الجانب من ولعه الفكري بالادب،والمثير للدهشة ليس بحث تروتسكي لهذا الجانب من المعرفة الانسانية-الادب والفن-ببعده النظري الايديولوجي والسسيولوجي والادبي على وجه التحديد،بل مدى العمق الذي استطاع به تروتسكي معالجة موضوع من موضوعات "البناء الفوقي"بالغة التعقيد،وهو الرجل الذي عرف عنه اهتمامه بالجوانب التنظيمية والنظرية-السياسية،وماعهدت اليه الثورة البلشفية من تنظيم الجيش الاحمر والاشراف على مواجهة حروب التدخل الخارجي،والانتصار فيها،وبالاضافة لذلك فان مقالات تروتسكي تعيدنا الى زمن الخصوبة الفكرية الاول،زمن السنوات الاولى من الثورة البلشفية،وكيف كانت قضايا-الادب والفن-رغم الظروف العسيرة والصعبة للثورة:حروب التدخل،الازمات الاقتصادية،الصراع الاجتماعي،تجد مكانتها اللائقة وسط الصراع الفكري داخل التجربة الثورية،وحتى في وقت كانت الخلافات النظرية بين لينين وتروتسكي محتدمة(وهي بدأت فعلا منذ عام1903 اي قبل قيام الثورة باربعة عشر عاما)لم يكن ذلك يحول دون قيام مناظرات وخلافات فكرية ذات مستوى رفيع،وتناقش في جو ديمقراطي حقيقي في اجتماعات الحزب!وليس كما جرى فيما بعد في الحقبة الستالينيةالخانقة،حيث كممت الافواه وتمت تصفية المعارضين والمختلفين،حيث كانت الصراعات السياسية والايديولوجية تحسم بالدم!!هذا هو المناخ النقي والصحي والحر الذي تنقلنا اليه مقالات تروتسكي،وان اختلفنا مع بعض مايطرحه تروتسكي.والان ما الذي يقدمه مضمون المقالات التي كتبها تروتسكي؟..
لقضية المحورية الرئيسية التي تنتظم كتاب الادب والثورة منذ اول جملة وحتى اخر كلمة فيه،والتي يشير اليها عنوان الفصل الاول من الكتاب هي"الثقافة البروليتارية والفن البروليتاري"مانجده لدى تروتسكي:الموقف المحدد والرافض لاطروحة"ادب بروليتاري"او"فن بروليتاري"وانه ليس هناك مايسمى ب"ثقافة بروليتارية" مثلما لو قلنا"ثقافة برجوازية"..يقول تروتسكي:"كلما توفر للنظام الجديد المزيد من الحماية والامان من التقلبات العسكرية والسياسية،وكلما تحسنت شروط الابداع الثقافي وصارت اكثر ايجابية،وذابت البروليتاريا بسرعة اكبر في المجتمع الاشتراكي وتحررت من مميزاتها الطبقية،اي كفت عن تكون هي البروليتاريا..ومن هنا وجب ان نخلص بوجه عام لا الى انه ليس هناك ثقافة بروليتارية فحسب،بل ان مثل هذه الثقافة لن تظهر الى حيز الوجود ابدا.وليس ثمة من داع،والحق يقال،للتأسف على ذلك:فالبروليتاريا اخذت مقاليد السلطة بين يديها على وجه التحديد كي تضع حدا نهائيا للثقافة الطبقية،وكي تفتح الطريق امام ثقافة انسانية".وطيلة عرض تروتسكي لرأيه لايغيب عن ذهنه طبيعة اختلاف هدف ورسالة البروليتاريا الثورية والانسانية عن غايات واهداف الطبقات الاخرى،والتي سبق وان استولت على السلطة في مراحل التطور الاقتصادي الاجتماعي المتعاقبة،فقد كان لكل طبقة ثقافتها الطبقية الخاصة،وما دامت دكتاتورية البروليتاريا مجرد حكم انتقالي،ومرحلة تحول تطمح لارساء اسس المجتمع اللاطبقي،فعلينا ان نكف عن التعامل معها،وحتى على مستوى الادب والفن والثقافة بوجه عام،على انها مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي الاقتصادي.وان كان تروتسكي يتنبأ ان مرحلة الثورة الاجتماعية:"لن تدوم شهورا وانماسنينا وعشرات السنين،ولكن ليس قرونا،وكم بالاحرى الوفا من الاعوام"فدور دكتاتورية البروليتاريا فيما يتعلق بالثقافة او بغيرها من المجالات يقتصر فقط على عملية الاستيلاء على السلطة،وتأتي المهمة الاخرى للبروليتاريا بعد ذلك،ان تضع يدها على الجهاز الثقافي البرجوازي والذي كان فيما سبق يخدم غيرها،وبالنسبة للبروليتاريا الروسية بالذات"فقد اضطرت الى استلام مقاليد السلطة قبل ان تمتلك العناصر الاساسية من الثقافة البرجوازية،اضطرت للتطويح بالمجتمع البرجوازي بالعنف الثوري على وجه التحديد لان هذا المجتمع كان يسد دونها باب الثقافة".ويمضي تروتسكي من مناقشة هذه الاطروحة لسؤال كبير في محيط الماركسية الشاسع..ذلك السؤال هو:"هل نستطيع ان نقول ان الماركسية هي نتاج للثقافة البروليتارية؟وهل نستطيع القول اننا نستخدم الماركسية فعلا من الان لا في الصراعات السياسية فحسب بل ايضا في المشكلات العلمية؟".والسؤال كما هو واضح يحمل اجابته في احشائه،فاذا كانت الماركسية هي النظرية الثورية للبروليتاريا،ومرشدها العلمي الى الثورة الاشتراكية والى بناء الشيوعية،فان هذا لاينفي ان الماركسية نفسها هي نتاج الثقافة البرجوازية،وان الذي حدث هو:"ان الفكر الشمولي للديمقراطية البرجوازية قد ارتفع لدى اجرأ ممثليه واعظمهم استقامة ونفاذ نظر،الى نفي عبقري للذات،مسلح بترسانة العلم البرجوازي النقدية،ذلكم هو اصل الماركسية".وهذا يعني ببساطة:ان الفكر البرجوازي عند مرحلة عليا من تطوره قد انتج نقيضه:الماركسية..ان تروتسكي وهو يناقش تفاصيل امكانية قيام ثقافة بروليتارية،فانه يفجر جوانب القضية بحس تنبؤي،وهو يقف على ارض صلبة من التمكن المعرفي،فيضع اصبعه على نقطة المركز.وهي ان دكتاتورية البروليتاريا،ليست بمرحلة طبقية قائمة بذاتها،انما هي اداة تحطيم لمجتمع الطبقات.ولعل ابرز كلماته النبوئية التي يسردها قوله:"ان الطبقة الثورية لاتستطيع ان توقف كفاحها لان الحزب لم يقرر بعد هل عليه ان يقبل او لايقبل فرضية الكهارب والدوالف،ونظرية فرويد في التحليل النفسي،وعلم الوراثة،والاكتشافات الجديدة في رياضيات النسبية،الخ".مامعنى هذه العبارة ؟!ان لم تكن حدسا عبقريا بالازمة التي تدخلها العلوم،وخاصة العلوم الانسانية-في الفترة الستالينية-حين انحصر العلم الماركسي في"الدوغما"الستالينية!!.قد نخطيء في فهم تروتسكي بأنه يرفض القول بأمكان فن بروليتاري،وحتى ثقافة بروليتارية على الاطلاق،لتبنيه وجهة نظر تشاؤمية،تفرضها عليه طبيعة رسالة الطبقة العاملة حين استيلائها على السلطة،لانها لاتعمل من اجل نفسها كطبقة،بل من اجل الانسانية،من اجل تاريخ الانسان كله.لكن الواقع غير ذلك،فليست نظرة تروتسكي رمادية فيما يتعلق بمستقبل تعبير البروليتاريا عن نفسها،فهو يتفق في جانب من مناقشته لمسألة"الثقافة البروليتارية والفن البروليتاري"مع الرفيق دوبوفسكي في الاستنتاج بان:"ثمة اندادا بروليتاريين لشكسبير وغوته يغذون السير اليوم حفاة الى احدى المدارس الابتدائية" ويقول انه لاجدال ان فن شعراء المصانع اوثق ارتباطا بكثير من الناحية العضوية لحياة الجماهير العمالية ومشاغلها اليومية ومصالحها!لكن ليس هذا بأدب بروليتاري!انما هو محض تعبير مكتوب عن السيرورة الجنينية لارتفاع السوية الثقافية للبروليتاريا".والاستنتاج التالي الذي ينتهي اليه تروتسكي هو:ان السياسة هي المضمار الوحيد الذي ابدعت فيه البروليتاريا اسلوبها الخاص فعلا:"اذا كنا نريد ان نقارن صعود البروليتاريا الفني بصعودها السياسي،فلابد من القول،بأن المرحلة التي كانت تتلاقى فيها الحركات الجماهيرية الاولى الغضة العود مع جهود الانتليجنسيا وبعض العمال لتشييد انظمة طوباوية".والامر الهام والملفت وبعد تفحص دقيق واكثر من قراءة عابرة،نجد ان تروتسكي يكرس عمله،-رغم امتياز هذا العمل النظري وعمق البصيرة المعرفية فيه-لتحقيق اطروحة سلبية،هي عدم امكانية قيام ثقافة بروليتارية،قد نتفق معه في الاسس النظرية التي يدعم بها اطروحته،ولكننا عندما نصحبه حتى نهاية شوطه المنطقي وتفصيلاته لانجده يخرج الى الجانب الايجابي لهذه الاطروحة/فهو يبقى مكتفيا بمناقشة العلامات التي تبرهن على انه"لن" يكون ثمة فن او ادب بروليتاري،ولايتناول القلب الحقيقي لهذه الاطروحة،وهو ان الثقافة التي تمهد لها البروليتاريا،ولو تمهيدا على الاقل هي الثقافة "الاشتراكية".نحن لانريد ان نذهب الى ان تروتسكي لم يتوصل لهذا الافق الايجابي من اطروحته،او غاب عنه ولم ينتبه اليه،ولكننا نزعم ان هناك سبب غير واضح من سياق مقالاته!جعله ينشغل اساسا بفكرته السلبية البحت،والقائلة بأن ابروليتاريا بأستيلائها على السلطة لن تنتج ثقافة بروليتارية خاصة بها،ولم يمضي تروتسكي بمنطقه الجدلي حتى نهايته المفترضة،وهي ان ثقافة المستقبل التي تمهد لها دكتاتورية البروليتاريا،هي بالضرورية ثقافة اشتراكية،ثقافة لاطبقية،ثقافة انسانية.تروتسكي يعي هذه الحقيقة الايجابية،ويذكرها فعلا ،ولكنه لايجعل منها شاغله الاساسي كما تقتضي ضرورة الموضوع،وكما يقضي التناول الجدلي بالذات.فتروتسكي يقف عند المرحلة الثانية من مراحل المثلث الجدلي-مرحلة النقيض-ويتوقف عندها طويلا،ولايتجاوزها لمرحلة التركيب!فحتى في الفصل الذي اعطاه عنوان"الفن الثوري والفن الاشتراكي"يغيب الجزء الناقص من اطروحته،ويبفى تروتسكي يراوح في مرحلة السلب ولايغادرها.وعندما ختم فصله هذا عن الفن الاشتراكي،كان ماقاله:"ان الشكل الذي ستتلبسه سيرورة البناء الفوقي والتربية الذاتية للانسان الشيوعي سيطور الى اقصى حد ممكن العناصر الحية في الفن المعاصر.سوف يصبح الانسان اقوى واعقل وارهف بما لايقاس.سوف يغدو جسمه اكثر اتساقا،وحركاته اكثر توازنا،وصوته اكثر شجوا،وسوف تكتسب اشكال وجوده صفة درامية عميقة،وسوف يكون الانسان المتوسط في مستوى ارسطو وغوته او ماركس،وفوق هذه الذرى سوف ترتفع قمم جديدة" لانستطيع ان نخرج من هذه"الخاتمة" سوى بتعميمات مثيرة للخيال-نعم-عن مرحلة الشيوعية،ولكنها لاتربط هذه النظرة المستقبلية الاكثر رومانسية!ربطا واقعيا جدليا بمرحلة الثورة ومرحلة الاشتراكية،وايضا لانجد الجواب على التساؤل الكبير:اذن اي ثقافة تسود في فترة دكتاتورية البروليتاريا؟؟!!.
هناك نقطة اخرى ينبغي الوقوف عندها من مناقشات تروتسكي في كتاب(الادب والثورة)..وهي وضعه فرضية متعسفة الى حد كبير:ان البروليتاريا لن يكون لها ادبها او فنها،او ثقافتها على وجه العموم،مادامت تستلم السلطة بهدف التخلص من اشكال السلطة الطبقية،اي انه لايكون لطبقة ادب او فن او ثقافة الا عندما تكون السلطة في يدها!اليست فرضية تعسفية وغريبة ايضا للغاية؟!قد نقبل ان هدف دكتاتورية البروليتاريا ليس فرض فنها او ادبها على مجتمع المستقبل،ونقبل ان ثقافة البروليتاريا لن تعيش من العمر ما عاشته ثقافة البرجوازية،لان الاشتراكية والمجتمع اللاطبقي لاحقا لن يمهلاها لتعميق ثقافتها وفنونها كما حدث بالنسبة للبرجوازية التي بدأت رحلتها الثقافية منذ نشأتها الاولى في حضن المجتمع الاقطاعي حتى اكتمال هذه الثقافة وتولد نقيضها -الماركسية-من داخلها.حين يقتصر قولنا على هذه الحدود نكون منطقيين مع مقدماتنا،ومع الواقع الموضوعي،ومع التصور المادي الجدلي لتطور اي ظاهرة.ولكن،بقولنا هذا نلغي واقعا بأكمله،فنسأل:الايوجد شيء اسمه فن فلاحي او ادب فلاحين،لان طبقة الفلاحين لم تصعد الى السلطة يوما،ولم تكن ابدا طبقة مسيطرة؟!ان تاريخ روسيا بالذات شاهد اكيد على وجود خصب لفن الفلاحين الروس!وقد كان هذا الفن مصدر الهام وتأثير عميق لمعظم الاعمال الفنية البرجوازية في كافة مجالات الابداع الفني،وحتى في اكثر اشكاله تجريدا وهو الموسيقى!.صحيح ان طبقة الفلاحين -في روسيا وغيرها-طبقة قديمة،وقاومت التغيير بأستمرار وعلى مر حقب طويلة،ولهذا تمكنت ثقافتها المتميزة وادابها وفنونها الشعبية المعبرة عن واقعها المادي الاقتصادي الاجتماعي،وواقعها الداخلي السيكولوجي اللاشعوري،من الصمود والاستمرار.لذا فأن حداثة عمر البروليتاريا الروسية"في الوقت الذي يتحدث فيه تروتسكي منذ مايقارب القرن"بالمقارنة الى عمر طبقة الفلاحين،يجعل منها طبقة فتية لم تتمكن بعد من تكوين ادابها وفنونها الخاصة والمعبرة عنها،وحتى تروتسكي نفسه لم يعدم العثور على نماذج اضفى عليها صفات الموهبة والخلق.فنجده يتحدث-مثلا-عن دميان بييدني على عمله"ادب بروليتاري"فعلا وشعبيا حقا،اي ادب ضروري وحيوي لشعب يستيقظ.قد لايكون شعرا "اصيلا"لكنه شيء اعظم من ذلك".ولكن تروتسكي يأبى تصور ان تظهر تجربة دكتاتورية البروليتاريا،حتى وهي في خضم نضالها السياسي بكافة اشكاله-الحرب احد هذه الاشكال واكثرها توترا-ادب البروليتاريين وتنمي قدراته التعبيرية،فهو يردد المأثور القديم:"حين يقصف المدفع تخرس ربات الفن"!وان"اوقات التوتر الحاد،اي الاوقات التي يجد فيها عصرنا الثوري سامي تعبيره،غير موائمة للادب والابداع الفني بوجه عام.واذا اندلعت شرارة الثورة غدا في المانيا او اوربا،فهل ستتمخض بالنسبة الينا عن ازدهار فوري للادب البروليتاري؟مؤكد لا.فهي بدلا من ان تطور الابداع الفني،ستخمد انفاسه وستسحقه،اذن يتوجب علينا ان نستنفر قوانا من جديد وان نتسلح ونهب هبة رجل واحد،وحين يقصف المدفع نخرس ربات الفن".هذا هو خطاب رجل السياسة الثوري التعبوي في معمعة الثورات والتحولات الكبرى،لاخطاب المثقف او الشاعر او الفنان!!..وهو تصور لايتفق حتى مع واقع تروتسكي الفكري نفسه!!فهو لم تشغله ولم تمنعه اهتماماته بتنظيم الجيش الاحمر،ومسؤوليات مفوضية الحرب والاوضاع الخطيرة،وخوض الحرب الاهلية وحروب التدخل من تكريس جانبا من عقله وافكاره للبحث في مشاكل الادب والفن!ولماذا نذهب بعيدا مع مايقوله هو نفسه،لقد اندلعت الحرب لافي المانيا او اوربا بل في قلب الاراضي السوفيتية،فهل كف الشعب الروسي وطبقته القائدة فيه عن التطور والاهتمام بالفن والرقص والغناء؟!وهل خمدت انفاس الابداع الفني والادبي،وسحقت وخرست ربات الفن تحت وطأة قصف المدافع ولهيب الحرب؟!الواقع يؤكد عكس ذلك تماما،وما كان للامور ان تكون الا على هذا النحو والمنوال،فهل هناك تجربة اكثر درامية واثارة ومدعاة للتعبير والخلق لدى الشعوب من تجربة الحرب والموت؟!..كثيرة هي الاشياء التي تثير الجدل فيما يقوله تروتسكي،ومن هنا مصدر اهمية مقالاته،انها لاتترك القاريء متلقيا سلبيا دون تمثل،بل تجعله يتفاعل بحيوية مع مايطرح من قضايا هي ايضا حيوية ومتفجرة.نتفق معه هنا ونختلف معه هناك،لكن تبقى حقيقة ان(النص) جدير بالتأمل والاهتمام الجاد والقراءة المتأنية والناقدة،والكتاب يدفع للتساؤل:كيف لم يهتم احدا بهذا الجانب من كتابات تروتسكي من قبل،حتى ولا من فبل مؤرخ سيرته الاشهر اسحق دويتشر؟؟!!-تناول هذا الجانب بشكل هامشي ولم يتوقف عنده طويلا!-لعل احد الاسباب هو ان:نظريات الفن ،والادب،والشعر،والحزب،والفنانين،والالتزام،والنقد،والثقافة الخ،لايهم المنظمات التروتسكية المتناثرة هنا وهناك!!..في بيانه الشهير(من اجل فن ثوري حر)والذي كتبه في المكسيك مع اندريه بريتون،ادخل تروتسكي فقرة تؤكد بقوة على مبدأ الحرية الكاملة في الابداع الفني(اباحة كل شيء في الفن)وفي نهايته رفع شعار:استقلال الفن-من اجل الثورة.الثورة من اجل التحرر الكامل للفن..هذا هو شأن تروتسكي:منظرا بلشفيا مبدعا وعلما ثوريا لايبارى في السياسة،وايضا عاشقا للفن والادب الانساني بلا حدود....................................
............................................................................................................................................
وعلى الاخاء نلتقي.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الستالينية محاكم تفتيش بشعارات جدلية
نعمان رباع ( 2017 / 10 / 21 - 12:38 )
لافرق بين الخوارج واخواتهم والستالينية فواحدا شوه العلمية الجدلية وواحدا شوه مبادئ اشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فتحية الى روح الشهيد تروتسكي

اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري