الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرؤية الغربية لقضايا وإشكالات -الشرق والغرب-

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2017 / 8 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تتحول الكلمة إلى مفهوم حالما تتضح وتتاطر معالم المفهوم نفسه، بوصفه فكرة متميزة. وبالتالي ليس بإمكان الكلمات جميعا أن تتحول إلى مفاهيم ومصطلحات. وإلا لأدى ذلك إلى نفاذ طاقة القاموس اللغوي في الإبداع والخطاب. وهي فرضية محتملة حالما تفقد الكلمات طاقتها الوجدانية، بمعنى بقاءها وفعلها بهيئة فكرة منطقية خالصة، اي عندما تصبح الكلمة رقما والعبارة معادلة من معادلات الجبر والرياضيات. ولكن قبل الوصول إلى هذه الحالة -الفرضية، ينبغي للوجود الإنساني أن يمر بجبر الانكسارات التي لابد منها من اجل بلوغ ما ادعوه بمراحل التاريخ الماوراطبيعي، ومن ثم الرجوع إلى الطبيعة المتسامية، اي الوحدة الحية للوجود بوصفه لغزا ومغامرة ومعنى. ولعل مثال الشرق والغرب احد نماذجها التاريخية والثقافية والعقلية.
فمن حيث معناها المباشر تتمثل كلمات الشرق والغرب صيرورة النغم والمعنى. ففي العربية هي جغرافية المعنى، أنها الشرق وشروق الشمس والإشراق والمشرق اي الجمال والبهاء والحياة، بينما الغرب هو الغروب والظلام والفراق ونعيق الموت(الغراب) والغريب والغربة. بعبارة أخرى، أنها الرؤية المتراكمة في تأمل الوجود والعدم والمعنى، بمعنى أنها لا تحتوي على معاني الجغرافيا السياسية والقومية والثقافية. فالأخيرة هي من صنع الرؤية الأوربية، التي هي نفسها قد طابقت بين وجودها الجغرافي والثقافي بوصفها غربا، اي كينونة مغايرة ومختلفة ومناقضة للشرق. بينما لا نعثر في تاريخ "الشرق" والثقافات والحضارات "الشرقية" القديمة على وعي من هذا النوع. والسبب يكمن أساسا فيما يمكن دعوته بالامتلاء الذاتي للشرق بوصفه طاقة تاريخية، وليس مرحلة تاريخية أو زمنا عابرا كما أراد تصويره ماركس للمرحلة العبودية وكارل ياسبرس في مفهوم الزمن المحوري Achsenzeit. فالمرحلة التاريخية بمعايير ماركس هي اقتصادية اجتماعية، بينما عند ياسبرس هي فلسفية منطقية. وتحتوي كل منهما على إشارة إلى وقائع وحقائق، لكنها لا تفسر حقيقة الحقيقة التي أنا بصددها، والتي ادعوها بالطاقة التاريخية للروح الثقافي.
إن الانتقال الجوهري الأكبر في المسار التاريخي للإنسان والبشرية قد جرى عبر تكثيف وخزن الطاقة التاريخية المشتعلة في عوالم ما وراء الطبيعة، اي تراكم التجارب التاريخية الثقافية الذاتية. فحد الإنسان وحقيقته تقوم في كونه كينونة ثقافية وليس في كونه حيوانا اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا. وبالتالي، كان الانتقال من عالم الطبيعة المباشرة وعبرها إلى عالم ما وراء الطبيعة الحركة الأولى لتراكم الطاقة التاريخية للثقافة، والتي تتألف فيها وتنتج وتبدع كل مكونات التجارب الذاتية للأفراد والجماعات والأقوام والأمم.
وقد شكلت القارة الآسيوية بداية وميدان هذا الانتقال التاريخي، اي تجربة الانتقال من المرحلة العرقية الثقافية إلى المرحلة الثقافية الدينية، التي أفرزت وحدة واختلاف الإنسان والآلهة، المجتمع والدولة، القيم والقانون، العقل والطبيعة، الإيمان والمعرفة، الدين والفلسفة، اي كل ما ساهم في صيرورة وتراكم الطاقة التاريخية للثقافة في مواجهة وحل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والمجتمع والدولة والثقافة نفسها. ومن ثم إبداع وتنظيم مرجعياتها العلمية والعملية ومنظومة مبادئها المتسامية، التي تجلت في منظومات فكرية دينية وفلسفية متعرجة ومختلفة ومتناقضة، لكنها كانت تسير صوب البحث عن الوحدة. فالتعرجات التي مر بها وادي الرافدين (العراق) ومصر والهند والصين واليونان والرومان تكشف عن تنوع في بلوغ الوحدة، لكنها جميعا كانت تتراكم في مجرى الانتقال من المرحلة العرقية الثقافية إلى المرحلة الثقافية الدينية، كما هو جلي في هيمنة مركزية الدولة وآلهتها المتعددة لكل مظاهر الوجود والحياة والموت والمتداخلة في نسج الإله الواحد والعقائد المقدسة وأساطيرها.
لقد كان الامتلاء الذاتي للحضارات القديمة تراكما تلقائيا أصيلا ومعقدا، ومن ثم لا يمكن حده بالسهولة التي ميزت سطحية العلاقة العابرة بين "الشرق والغرب" التي ابتدعها الوعي الأوربي الحديث. فهو توصيف نابع من خلل التوازن في القوة آنذاك وليس إدراكا لحقائق الأشياء كما هي. بمعنى بلورة مفهوم عن الشرق يمكنه خدمة مساعي الهيمنة والاستحواذ والغزو السياسي الاقتصادي والسرقة. وهي حالة ليست مفتعلة، بمعنى أنها تاريخية طبيعية لازمت خصوصية انتقال الشعوب الأوربية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية في تطورها التاريخي. كما أن لها تقاليدها الخاصة فيما أسميته بالطاقة التاريخية للثقافة، التي تجذرت في أعماق الوعي الثقافي للشعوب الأوربية في الزمن القروسطي. فقد كانت شعوب القارة الأوربية الحديثة، حديثة أيضا برؤيتهـا "العالمية" بعد ألفية الانغلاق شبه التام ضمن حدود الجغرافيا والإثنية وتحت أجنحة الكنيسة البابوية وعقائدها النصرانية المتزمتة والميتة، على خلاف مراكز الحضارات القديمة (الإغريق والرومان) التي كان توجهها الثقافي صوب الجنوب (الشرق) وتوجهها القتالي صوب الشمال (الغرب). فقد اعتبر أرسطو على سبيل المثال، بان شعوب الجنوب حضارية لكنها ضعيفة الإرادة، بينما الشمال همجي وقوي الشكيمة، أما الإغريق فأنهم يجمعون بين الحضارة وقوة الإرادة والشكيمة. وليس مصادفة أن تكون وجهة الكسندر المقدوني صوب الجنوب (الشرق) بما في ذلك مساعيه لجعل بابل عاصمة الإمبراطورية. بينما يدفن في مصر (الإسكندرية)، والشيء نفسه يمكن قوله عن روما، التي كانت مصر مغناطيس جذبها الدائم. أما اسبانيا فقد توجهت صوب المحيط وما وراءه. الأمر الذي حدد حدود الرؤية الثقافية ومداها حالما برزت إلى الوجود القوى السياسية الاقتصادية الجديدة المتمثّلة في إنجلترا وهولندا وفرنسا، اي صوب القارة الآسيوية والإفريقية.
فقد كانت آسيا مهد الحضارات "الشرقية" الكبرى. من هنا تنوع الصيغ المختلفة والمتعارضة والمتضادة في المواقف الثقافية والعملية من "الشرق". وإذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن الباعث الجوهري وراء هذه المواقف هي المصالح الاقتصادية، من هنا اتسام السياسة الأوربية ببعد واحد، والمواقف الثقافية أيضا، مع ما لازمه بالضرورة من تشوه وتشويه.
وبالمقابل لم يتجه "الشرق" إلا صوب ذاته، وأهمل على امتداد تاريخه الاهتمام "بالغرب" ومهمة احتلاله. والاستثناء الوحيد ما قام به وسعى إليه هانيبعل في التاريخ القديم من اجل دحر الإمبراطورية الرومانية بوصفها ممثلة "الغرب"، وما قام به العرب المسلمون بالاكتفاء عند حدود فرنسا، وما لحقه بعد قرون من الغزو العثماني واحتلال الجزاء الشرقية من أوربا.
فقد كان هانيبعل (247-182 قبل الميلاد)، احد أعظم القادة العسكريين لقرطاج سليلة الفينيقيين أو الكنعانيين، الذي اقلق وما يزال يقلق الوعي التاريخي الثقافي "الغربي". وفيما يبدو أن المسلسل التلفيزيوني الأمريكي الذي جرى إنتاجه على أساس رواية (التنين الأحمر) لتوماس هاريس تحت عنوان هانيبعل، الطبيب النفساني اللامع والقاتل وآكل لحوم البشر، ليس أمرا عارضا أو سهوا. فلماذا، على سبيل المثال، لم يستعاض عنه بأسماء جنايوس بومبيوس أو يوليوس قيصر أو ماركوس أنطونيوس أو نابليون بونابرت أو أمثالهم. إن الاختيار الخاص لعنوان هانيبعل وبالإنجليزية غانيبال (بالكاف المعجمة)، والذي يتشابه مع كلمه كانيبال التي تعني آكل لحوم البشر، ليس مصادفة أو ولع بالتشابه اللفظي أو ما شابه ذلك. إننا نعثر هنا إلى جانب نماذج لا تحصى في الوعي الغربي فيما يخص العالم الاسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص على استظهار واع أو غير واع للوعي الثقافي الغربي نفسه، المبني في الكثير من جوانبه بهذا الصدد على إثارة الكراهية والحقد والضغينة والتشويه وما شابه ذاك من اجل تأليب الجسد الغربي على خوض مغامراته التائهة في البحث عن تلبية حاجاته المادية التي لا تقف عند حد! فقد بدء في العصر الحديث بالتنافس الحاد بين فرنسا وإنجلترا. وأراد كل منهم ابتلاع كل ما يمكن ابتلاعه بأسرع وقت. فتوجهت فرنسا صوب مصر بقيادة نابليون ثم صوب المغرب العربي وأفريقيا، بينما كان الاهتمام البريطاني موجها صوب آسيا والهند بشكل خاص. الأمر الذي حدد بقدر واحد الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية للمركزية الأوربية الحديثة.
فقد كان الشرق وما يزال يثير شهية لعاب الرغبة الأوربية بالاستحواذ والسرقة حتى تجاه أكثر مناطقه تخلُّفا وفقرا! وبالتالي، فان هذا الخزين الهائل للطاقة التاريخية المتراكمة في أوعية الرؤية الثقافية الغربية لا يمكنه التبخر بين ليلة وضحاها إلى أثير يمكن تكثيفه في عطور شرقية.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب إسرائيل وإيران... مع من ستقف الدول العربية؟ | ببساطة مع


.. توضيحات من الرئيس الإيراني من الهجوم على إسرائيل




.. مجلس النواب الأمريكي يصوت على مساعدات عسكرية لأوكرانيا وإسرا


.. حماس توافق على نزع سلاحها مقابل إقامة دولة فلسطينية على حدود




.. -مقامرة- رفح الكبرى.. أميركا عاجزة عن ردع نتنياهو| #الظهيرة