الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيت بلا أسوار

جعفر المظفر

2017 / 8 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


بيت بلا أسوار
هيأت لي نشأتي في حي (الخمسين حوش) من مدينة المعقل في البصرة أن أكون منذ أيامي الأولى عابرا للطائفية وتداعيات الإنحياز الديني أو القومي. صحيح أن الخمسين حوش كانت تحتوي كما يدل إسمها على خمسين دار, غير أننا, نحن الأطفال حينها, نجحنا أيما نجاح لتحويل الأسوار التي تحيط بكل بيت إلى أسوار إفتراضية فصار الحي وكأنه بيتا واحدا. ومثله كانت هناك عشرات الأحياء التي كانت تعيش ذاك الزمن العراقي الواعد رغم همومه وتصدعاته .
في منتصف الخمسينات من القرن الماضي أنشأ المرحوم الباشا سامي فتاح, مدير المواني العام والذي أصبح بعدها وزيرا للداخلية في العهد الملكي, ذلك الحي على أسس عصرية. الحي الذي ضم بيوتا صغيرة كان يعتبر نقلة حقيقية في حياة ساكنية الذين كان أغلبهم يعيش قبله في بيوت متواضعة. ثم أن تصميم الحي جاء بطريقة تكاملت فيه شوارعه وملحقاته وبيوته بشكل جعلته يبدو وكأنه يضم بيتا واحدا لا خمسين بيت, فلقد ضم الحي ساحة لكرة قدم قام أطفال الحي بتطويرها لكي تكون أيضا ساحة للرياضات الميدانية التي تتضمن الركض والقفز في المستطيل الرملي, وما شابه ذلك. وكانت الحدود الخلفية للحي هي نهر صغير يلتف بعد نهاية الحي في تلك الجهة لكي يحيطه من الجهة الأخرى جاعلا الحي يبدو وكأنه جزيرة سياحية يلتحق شارعها الوسطي بالشارع الذي يؤدي إلى أرصفة الميناء البحري, أما بوابة الحي الشمالية فكانت تحتوي على سينما صيفي ومسبح صيفي أيضا, وغير بعيد كان حي (الجاينة كامب) قد ضم دارأ للسينما الشتوية, أي المغلقة يقابله على الجانب الآخر ناديا عصريا رائعا هو نادي (البورت كلب .. اي نادي الميناء الخاص حينها بكبار الموظفين) وكانت هناك مقابل هذا النادي ساحة لكرة القدم تابعة لدائرة الموانئ العامة وكنا قد أدمنا حضور مبارياتها الدورية, وقد أنجب النادي نفسه لاعبين كبار مثل حمزة قاسم الذي لعب حارسا لمرمى المنتخب العراقي واللاعبين المخضرمين في المنتخب نفسه وهما علاء احمد وهادي أحمد, غيرهم من اللاعبين الكبار.
في ذلك الحي الذي كان عبارة عن بيت واحد بلا أسوار, والذي كان يضم عائلات مسلمة ومسيحية وصابئية, كردية وعربية وأرمنية وآثورية, والتي كانت شوارعه ومرافقه قد هيأت لكي تجعلنا, نحن الأطفال حينها, نعيش وكأننا عائلة واحدة, حتى كأنا حولنا بيوتنا إلى مكانات للنوم ليس إلا, نلجأ إليها حينما نتعب من اللعب والسباحة والمهرجانات الدورية, في ذلك الحي كان الوقت أسرع من أن يقف لكي يعلمنا الفرق بين المسيحي والمسلم, بين الأرمني والعربي والآثوري, ولذلك لم يكن صعبا أن يتزوج المسلم من مسيحية ويعيشان في نفس الحي أو بالقرب منه . ليس معنى ذلك أن العائلتين كانتا تتقبلان الأمر بشكل سهل, لكن علاقات الشارع كانت قد تغلبت على علاقات البيوت المغلقة .. لقد نجحنا نحن الأطفال, من مختلف الأديان والأجناس والإعراق, أن نخلق من خلال شارعنا المشترك لغة واحدة مشتركة هي اللغة العراقية الجامعة, التي إستطاعت أن تفرض ذاتها على لغات البيوت المختلفة. كان من حق إيشو توماس صديقي أن يدخل حديقة داري الصغيرة دون أن يضرب الجرس طلبا لإذن الدخول, ثم إذا به يشاركني أو أشاركه في بيته وجبة الأكل دون دعوة مسبقة.
لقد جعلتني البيئة التي نشأت فيها أقاوم كل أشكال العنصرية والتخلف الديني (لم أذكر الإنحيازات الطائفية إذ لم يكن لها أي ذكر في كراريس طفولتنا, ومن لم يكن يميز بين مسيحي ومسلم وبين آثوري وعربي, لم يكن على إستعداد للإستماع إلى اية لغة طائفية).
اليوم حينما أكتب عن قضية الإستفتاء الكوردي, وبالأمس حينما كتبت كثيرا عن الطائفية الشيعية أو السنية, أقول لمن يظن إنني اكتب بقلم عربي لا يا سيدي إنني أكتب بقلم خمسين حوشي. وأقول لمن يريدني ان أكتب بقلم شيعي لا يا سيدي أنا أكتب بقلم مَعْقلي (من مدينة المعقل).
كلا القلمين هما قلمان بصريان عراقيان يريان العالم, كل العالم, من خلال بيت في الخمسين حوش.
وهو بيت كان بلا أسوار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال مؤثر محرّك للمشاعر الانسانية
ملحد ( 2017 / 8 / 26 - 14:35 )
مقال مؤثر محرّك للمشاعر الانسانية....
صدقني ادمعت خلال قراءة المقال......
لك ان تصدّق او لا تصدّق.......
انا ادرك تماما لماذا كانت ضيعتكم (الخمسين حوش) وادعة هادئة جميلة ....... في ذلك الزمان ......
بالطبع فالسبب هو انه في ذلك الوقت لم يكن هناك تطرف ديني....
وعلى فكرة , كلمة حوش تعني حارة صغيرة وغالبا يقصد بها مجموعة بيوت تعود لنفس العائلة او الحمولة......
وعلى ذلك فالحيّ الذي تكلمت عنه ( خمسين حوش) قد قُصِد به ان ذلك الحي كان يعيش فيه بشر من مختلف الاعراق والاديان والثقافات.......

تحياتي لك


2 - شكرا لك أستاذي العزيز
جعفر المظفر ( 2017 / 8 / 26 - 17:50 )
عزيزي
دمعتك هي توقيع صادق على نبل ونقاء وصدق مشاعرك
سأحتفظ بهذا التوقيع فهو كتب بلغة المشاعر التي تتفوق كثيرا على لغة الحبر
أردت من الموضوع أن أستعرض مشاهد مهمة لكن أهمها كان ذلك المشهد الذي صنعناه نحن الأطفال حينما تجاوزنا ثقافة البيوت المسورة وجعلنا الأسوار التي تحيط ببوتنا ذات الموروث المتأصل بدون قيمة.


3 - المظفر جعفر الكريم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2017 / 8 / 26 - 21:03 )
تحية طيبة
نسيت الراقي رزاق احمد اللاعب الفذ و نسيت شباب الهيوه القريبين في راس الشارع... لكن لك العذر
كان كل العالم المحيط بتلك الخمسين حوش هكذا...بما فيهم ال الصُباح و ال سعود
دخلت العولمة فمزقت
.......................
اما كاتب التعليق رقم1 ملحد ...تحية له
اقول الحوش هو ساحة البيت الداخلية و تم تعميمها لتصبح في معناها البيت...ففي كل بيت حوش و ليس كما تقول تعني حارة...ربما انت بعيد عن معنى الحوش العراقي او الجنوبي بالذات... الحوش مغلق للعائلة و زوارها و ضيوفها الذين يطرقون الباب ان كانوا غرباء او من اهل الدار
الحوش بيت او ساحة البيت و لا تعني مجموعة بيوت حتى لنفس العائلة
الا اذا كانت العائلة تعيش في نفس الحوش اي كل عائلة في غرفة
.....................
المظفر الكريم تحية لك و امنيات بتمام العافية


4 - حوش ليس ككل الاحواش
Muwaffak Haddadin ( 2017 / 8 / 27 - 07:47 )
الاستاذ الدكتور جعفر المظفر المحترم
تحية طيب
جاء في مقالتك السامية المعاني ما يلي:
ولذلك لم يكن صعبا أن يتزوج المسلم من مسيحية ويعيشان في نفس الحي أو بالقرب منه
هل العكس صحيح اي ان المسيحي لم يكن صعبا ان يتزوج المسلمة، وهل حصل فعلا اي من الحالتين؟. اذا كان جوابك ايجابيا فان “الخمسين حوشا” كانت مدينة فاضلة يحق لهل ان تفخر بنفسها ونفخر بها نحن الذين ننظر للاخر كانسان مثلنا.
احييك مرة اخرى.
موفق حدادين
استاذ في الصيدلة
الاردن
٢-;-٧-;-/ اب،اوت،اغسطس/٢-;-٠-;-١-;-٧-;-
ملاحظة: كنت اعيش في صغري في حوش ولكنه لا يرتقي الى حوش جعفر المطفر


5 - عذرا
Muwaffak Haddadin ( 2017 / 8 / 27 - 15:24 )
جاء في تعليقي رقم ٤-;- خطآن هما
لهل والصحيح لها و المطفر والصحيح المظفر
اعتذر لاستاذي المظفر وكل من لاحظ الخطئين
موفق حدادين
٢-;-٠-;-١-;-٧-;-/٨-;-/٢-;-٧-;-


6 - الأكرم الأستاذ عبدالرضا
جعفر المظفر ( 2017 / 8 / 27 - 15:35 )
طبيعي هناك أشياء أكثر لم آتي عليها فليست فكرة الموضوعة أن تجرد تاريخ المنطقة وما يحيطها وإنما أردت للتفاصيل أن تكون وعاء لنقل الفكرة أكثر من أي شيء آخر.
سلمت لنا كاتبا متميزا وصديقا كريما


7 - الأخ الأستاذ موفق حدادين
جعفر المظفر ( 2017 / 8 / 27 - 15:46 )
أستاذي الفاضل موفق
حادثة زواج المسلم من مسيحية تأسس على إستعداد من قبل الطرفين على تجاوز وتحدي الثقافة
المانعة وهي لم تأت لأن المسلم أجاز لنفسه ذلك وفق ما يسمح به الشرع الإسلامي, اي جواز الزواج بكتابية. أجزم أن كلاهما لم يكن حسب أو عرف باساسيات تلك الشريعة, إنما الأمر كان عبارة عن خروج على ثقافة أو أعراف إجتماعية نشأت على وتفرعت من الشرع الديني. ولو أن الأمر حدث بالمقلوب فلربما كان رد الفعل أشد حدة من سابقه لكن لم يكن هناك ما يمنع حدوثه فالفترة تلك كانت فترة تحدي, وكما ذكرت فإن ثقافة الشارع كانت تغلبت على ثقافة البيوتات
.الموروثة وفرضت نفسها بالتالي, وفي حالات كثيرة فقد خرجت منتصرة.
تحياتي لك أيها الصديق العزيز والفاضل.


8 - الكريم المظفر جعفر
عبد الرضا حمد جاسم ( 2017 / 8 / 27 - 21:05 )
محبة و سلام
بخصوص زواج المسيحية من مسلم و عكسه ابين لكم اخي الفاضل ان لاعب منتخب العراق لكرة القدم المتميز الكبير فلاح حسن تزوج مسيحية و اعتقد انها لا تزال ام اولاده
و ان هناك اليوم شرطي اسمه سيد علي ابوه الشيوعي تزوج مسيحية و لا تزال على دينها و
و اتمنى ان تلتقيه يوماً لتجد جزء منك و منا فيه ...ابنها سيد و اليوم هو منتسب لدوائر الدولة العراقية...و الكل يفتخرون بذاك لليوم

اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران