الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السبب الستراتيجي الرئيسي لتغيير الموقف الأميركي في سوريا

جورج حداد

2017 / 8 / 27
الارهاب, الحرب والسلام


منذ بداية الاحداث الأليمة في سوريا في مطلع سنة 2011، كان من الواضح تماما ان الولايات المتحدة الأميركية تؤيد تغيير النظام وتدعم المعارضة في سوريا. وكانت وفود المعارضة السورية الى واشنطن تزاحم بعضها بعضا، طالبة الدعم السياسي والعسكري والمالي واللوجستي، لمواجهة النظام بقوة السلاح، لا سيما بعد بداية حركة الانشقاق عن الجيش السوري وتشكيل الجيش السوري الحر.
المنظمات الإرهابية تركب قطار المعارضة
وقد استفادت من هذا الجو المنظمات التي صنفتها الولايات المتحدة لاحقا كمنظمات إرهابية (كالقاعدة وداعش والنصرة)، كي تستجمع قواها من داخل وخارج سوريا (وخصوصا من المنظومة السوفياتية السابقة) وتحصل على التسهيلات والمساعدات من بعض الدول الصديقة لاميركا (وخصوصا تركيا) وتشن هجوما كاسحا على سوريا، وتتصدر واجهة الاحداث على حساب المعارضة السورية "المعتدلة" و"غير الإرهابية".
التدخل الروسي يغير الموقف الاميركي
ولكن مع بداية التدخل العسكري الجوي الروسي، بطلب من نظام الأسد الذي لا يزال يعتبر السلطة الشرعية في البلاد وتعترف به الأمم المتحدة ذاتها، بالرغم من "طرده" من "جامعة الدول العربية" كما طردت مصر في السابق، بدأ الموقف الأميركي يميل بالتدريج الى المرونة ثم التنسيق مع الخطة العسكرية والسياسية الروسية، الامر الذي قلب الأولوية في الحرب الدائرة في سوريا، من أولوية العمل لاسقاط النظام السوري سلما او حربا، الى أولوية محاربة الإرهاب والمنظمات الإرهابية، والسعي لايجاد حل سلمي سياسي مع النظام السوري، بما في ذلك ابعاد الأسد شخصيا عن السلطة بطريقة توافقية و"دستورية" يوافق عليها الأسد ذاته الذي تحول ـ في نظر شريحة واسعة جدا من الشعب السوري الى "بطل وطني" في مواجهة الإرهاب الذي لم تشهد له سوريا مثيلا منذ غزوة تيمورلنك.
تغيرات إقليمية ملحوظة
وقد أدى هذا التغيير في الموقف الأميركي الى نتائج لم يكن بالإمكان تصورها بدون التدخل العسكري الروسي الحازم، واهم هذه النتائج ان القيادات المخضرمة المجربة والحكيمة والقيادات الشابة الديناميكية والبراغماتية في السعودية ودول الخليج العربية الأخرى بدأت تعيد النظر في مقاربتها للحرب السورية ولاوضاع المنطقة ككل، وتعيد ترتيب أولوياتها في التعامل مع خطة العمل الروسية في سوريا ومع الدولة الروسية بذاتها.
الشرخ التركي
ومن ابرز هذه النتائج الشرخ الكبير الذي حدث في السلطة التركية، واقدام رئيس الوزراء محمد داود اوغلو (وهو من ابرز رجال الدولة في تركيا بعد الرئيس رجب طيب اردوغان) على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة ورئاسة حزب العدالة والتنمية، بعد ان رفع (اوغلو) شعار: صفر مشاكل مع المحيط.
البلبلة في صفوف المعارضة السورية
اما في أوساط المعارضة السورية فقد لاحظ المراقبون وجود عدم تفهم بل واستياء بعض الأطراف من المواقف الأميركية الجديدة، وهو ما يؤخر حتى الان مفاوضات الحل السياسي التي يديرها ممثل الأمم المتحدة ديميستورا بالتعاون الوثيق مع وزيري خارجية اميركا وروسيا كيري ولافروف. وقد نشرت وسائل الاعلام في حينه انه خلال اجتماع لاحد اطراف المعارضة في الرياض بحضور وزير الخارجية الأميركي، وخلال مداخلة احدى شخصيات المعارضة، قاطعه الوزير كيري قائلا له: وهل تريد ان نعلن الحرب على روسيا لاجلكم؟
المسؤولية العالمية لاميركا هي اكبر من سوريا
ان هذا الجواب للدبلوماسي المحنك جون كيري كان يحمل في طياته مفتاح تفهم الموقف الأميركي في سوريا والسياسة الخارجية الأميركية المعاصرة برمتها، وذلك طبعا لمن يريد ان يفهم. ونحاول فيما يلي مقاربة هذا الموضوع الستراتيجي العام والشامل في مساره التاريخي.
اميركا وروسيا على المسرح الدولي
في الحرب العالمية الأولى، وبعد تردد طويل، تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن سياسة العزلة الجزيرية التي كانت تنتهجها، وانخرطت بقوة في الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا العالميتين؛ واطلقت ما يسمى "مبادئ ولسون" (على اسم الرئيس الأميركي حينذاك وودرو ولسون) كخريطة طريق للسياسة الدولية بأسرها.
وفي الوقت ذاته كانت أوروبا تقدم لنا لوحة سوريالية لا مثيل لها: كان الجيش القيصري الروسي الملاييني (فزاعة أوروبا القديم) ينهزم بشكل مزر امام الجيش القيصري (حينذاك) الألماني، الذي كان بدوره ينهزم امام الجيوش الأوروبية المتحالفة.
ولكن من قلب هذه اللوحة القاتمة لروسيا، انفجرت الثورة الروسية، الدمقراطية أولا، ثم "الاشتراكية الكبرى"، التي غيرت ـ مرة والى الابد ـ وجهة سير التاريخ العالمي.
وظهر الاتحاد السوفياتي، وقلبه روسيا، كقوة عالمية كبرى على المسرح السياسي الدولي.
واذا قام أي باحث بإجراء مراجعة تاريخية شاملة، مهما كانت سطحية، سيكتشف ان التاريخ العالمي برمته، منذ الحرب العالمية الأولى، اصبح يتمحور حول طبيعة العلاقات او الصراع المباشر وغير المباشر بين القوتين العظميين: اميركا وروسيا.
ومهما كان من قوة او غنى او ضخامة أي دولة او اتحاد دولي آخرين، من المانيا النازية ودول المحور بالامس، الى الناتو والاتحاد الأوروبي والصين والكتلة العربية ـ الإسلامية، اليوم، فإنهم لم يكونوا، وليسوا الان، وليس في مقدورهم في المستقبل المنظور، ان يكونوا سوى "لاعبين ثانويين" و"كومبارس" في سيناريوهات الصراع والعلاقات السرية والعلنية، الأميركية ـ الروسية.
الحرب جعلت روسيا قوة مرعبة
وبعد الحرب العالمية الأولى، وخلافا لكل الانطباعات الخاطئة، لم يكن تشكيل دول المحور وظهور النازية سوى حبكة سيناريو أميركي هدفه الأول والاساسي تحطيم روسيا. ولكن بالنتيجة "انقلب السحر على الساحر" وبدلا من ان يدخل "الفهرماخت" النازي موسكو، تمهيدا لدخول الجيش الأميركي خلفه، دخل الجيش الروسي (السوفياتي حينذاك) برلين على انقاض 80% من مبانيها، واجبرت المانيا على الاستسلام في مطلع أيار 1945.
ولكنه كان هناك 4 ملايين جندي ياباني لا يزالون يحتشدون في شمال شرق الصين ومنشوريا لم تجرؤ اميركا على الاقتراب منهم، فتولى الجيش الروسي، أيضا وأيضا، محاصرتهم وشق صفوفهم ثم تحطيمهم تحطيما كاملا وفرض الاستسلام غير المشروط عليهم في مطلع اب 1945. وامام هذه الخريطة العسكرية الجديدة، ارتعدت فرائص الجنرالات الاميركيين امام فكرة انه لم تعد توجد قوة تستطيع الوقوف بوجه الجيش الروسي اذا تقدم باتجاه أوروبا الغربية، او باتجاه جنوب شرق اسيا. فقامت الولايات المتحدة الأميركية حينذاك برمي القنبلتين النوويتين فوق هيروشيما وناكازاكي، بدون أي مبرر عسكري من الجانب الياباني، وكان الهدف: تهديد الاتحاد السوفياتي بضربه بالقنابل الذرية، اذا قرر القيام بأي "نقلة" ستراتيجية لا توافق عليها اميركا.
وحتى لو كان لا يزال يوجد لدى اميركا حينذاك قنبلة او اثنتان أخريان، او اكثر، فهذا لم يكن ليخيف الاتحاد السوفياتي الذي كان يسابق عقارب الساعة في صناعة قنبلته النووية، والاخطر من ذلك انه كان خلال "الحرب الوطنية العظمى" (كما سمي الروس الحرب العالمية الثانية) قد جند جيشا تقول بعض المعلومات بلغ حوالى 30 مليون جندي وضابط تركوا وراءهم ارضا محروقة واكثر من 26 مليون شهيد من اهاليهم. 30 مليون جندي يأخذ منهم الغضب العارم كل مأخذ، ويتشوقون لان يدوسوا ويجتازوا كل الأرض الأوروبية حتى طرفها الاخر، ويغسلوا ارجلهم في مياه المحيط الأطلسي من جانبه غربي اوروبا.
سباق التسلح النووي
وقبل ان يدفن الروس كل آبائهم وامهاتهم وزوجاتهم واطفالهم القتلى، وقبل ان ينجلي الدخان من مدنهم وقراهم المحروقة، وتحت مظلة "اتفاقية يالطا" التي ضمنت لاميركا زعامة "الكتلة الغربية" ومستعمراتها، ومع اندلاع الحرب الباردة، بدأ بين اميركا وروسيا سباق محموم للتسلح بشكل عام، والتسلح النووي بشكل خاص.
اميركا تفلش قوتها في العالم وتنسى نفسها
وخلال هذا السباق، وتحت إغراء غناها الفاحش ومطامعها التوسعية غير المحدودة، ارتكبت اميركا خطأ ستراتيجيا أساسيا لم يعد بامكانها تصحيحه بعد فوات الأوان، وهو انها اعطت الأولوية لبناء الطائرات الحربية، ولا سيما بعيدة المدى، والاساطيل البحرية ولا سيما حاملات الطائرات الجبارة، وقوات الانزال الجوي والبحري (المارينز)، وذلك من اجل ان يكون لها القدرة على "الإمساك بالأرض" في أي بقعة كانت، او تدميرها، بالسلاح النووي او غيره.
روسيا تحاصر اميركا بحريا للدفاع عن نفسها
اما روسيا، الأقل غنى بكثير من اميركا، فركزت اولويتها التسلحية ليس على هدف الإمساك بالأرض الأميركية، التي هي مهمة مكلفة جدا، بل على مهمة اكثر تواضعا بكثير واقل كلفة بكثير، وهي مهمة الدفاع عن الأرض الروسية عن طريق تطويق اميركا بحريا لإبادتها وشطبها تماما عن الخريطة، بواسطة الصواريخ الباليستية عابرة القارات، والقاذفات الستراتيجية حاملة الصواريخ النووية الكلاسيكية والمجنحة، والغواصات العملاقة التي تحمل كل منها بضع عشرات الصواريخ النووية.
وفي الوقت الذي نجحت فيه اميركا في بناء قوة عسكرية خرافية لا مثيل لها في التاريخ والعالم، قادرة على الإمساك باراض شاسعة او تدمير اي هدف فردي من خلال نافذة في شقة في احدى البنايات في احدى المدن، نجحت روسيا في محاصرة اميركا بعدد من الغواصات حاملة الصواريخ النووية من المحيطات الثلاثة التي تحيط بها: الأطلسي والهادي والمتجمد الشمالي. وتحمل كل من هذه الغواصات منظومة من الطوربيدات المطورة لحمل رؤوس نووية تكتيكية للتدمير الأكيد لكل الأهداف البحرية المعادية، السطحية والغوصية، والصواريخ الباليستية العملاقة "توبول – M" التي يبلغ وزن كل منها 100 طن واكثر، ويحمل كل منها 10 رؤوس نووية ترمى فرادى او دفعة واحدة كل واحد منها يذهب في اتجاه مختلف او كلها في اتجاه واحد، والصواريخ المجنحة الشبحية الالتفافية التي تتسلل عبر ثغرات الموجات الرادارية الدفاعية، والتي تفوق سرعتها اضعاف سرعة الصوت والتي تبحث ذاتيا عن الهدف وفائقة الدقة في الإصابة والتي تحمل رؤوسا حربية مختلفة بما فيها النووية. وقد صممت كل غواصة روسية لتكون حمولتها وحدها كافية للقضاء على اميركا الشمالية وإغراقها كي تتلاطم فوقها أمواج المحيطات الثلاثة. وكل غواصة هي مرتبطة بمركز القيادة في موسكو ومستقلة ذاتيا عنه في الوقت نفسه، أي ان قيادة كل غواصة لها حق التصرف و"تفريغ" حمولتها و"هداياها" بمعزل عن قيادتها في موسكو او غير موسكو، اي حتى لو كانت قيادتها زالت من الوجود. وهذا يعني انه اذا كانت روسيا خصصت و"اهدت" اميركا بضع غواصات من هذا النوع، فإن اميركا، ولو احتلت جيوشها العالم كله فإنها محكومة مسبقا بالموت المحتم عدة مرات بعدد تلك الغواصات التي اذا أصيبت أي واحدة منها وانفجرت بحمولتها فإن مياه المحيط سترتفع في الجو مئات الأمتار او بضعة كيلومترات ثم تسقط بشكل ساحق فوق اميركا. أي ان الغواصات الروسية التي تحاصر اميركا هي مبرمجة بطريقة ان تقضي على اميركا في الحالتين: قاتلة او مقتولة.
وهذه الغواصات هي الان مصدر الرعب الأكبر لدى اميركا. لانها اذا تركت تسرح وتمرح حولها فتلك مصيبة كابوسية، واذا ضربت وانفجرت احداها فالمصيبة اكبر.
وفي السنة الماضية طار صواب القيادات العسكرية والسياسية الأميركية حينما اكتشفت فجأة ان هذه الغواصات الروسية قد نجحت في التسلل الى قربهم ومضى عليها اشهر وهي "تتنزه" على حدود المياه الإقليمية الأميركية، أي دون أي خرق لقوانين الملاحة الدولية وقانون البحار. وفي ليلة رأس السنة الجديدة 1-1-2016، وفيما كان المواطنون الاميركيون لاهين وهم يحتفلون بهذه المناسبة التقليدية ويتبادلون هدايا العيد، كان الجيش الأميركي منهمكا في اجراء مناورات تدريبية في منتهى الأهمية والدقة حول كيفية حماية البيت الابيض من هجوم مفترض بواسطة الصواريخ المجنحة الروسية الشبحية، خارقة الموجات الرادارية، والمتربصة في مكامنها في الغواصات المحيطة من كل جانب بشبه الجزيرة الأميركية الشمالية. وكانت التحضيرات لهذه المناورات التدريبية الهامة لحماية البيت الابيض قد استغرقت تسعة اشهر كاملة، وبدون ان يعلن عنها شيئا.
الامن القومي الأميركي اولا
وبالعودة الى الازمة السورية: انه طبعا يهم الدولة الأميركية ان يحصل اصدقاؤها على حصتهم في الكعكة السورية. ولكن على هؤلاء الأصدقاء ان يتذكروا ان اميركا هي ـ ولاشعار آخر ـ الدولة الأعظم في العالم ولديها هموم تبدأ بأمنها القومي وتشمل العالم بأسره. وان "سر" التسهيلات التي قدمها الطيران الأميركي للعمليات العسكرية الجوية الروسية في سوريا يكمن ليس في الحذاقة الدبلوماسية لوزير الخارجية الروسية لافروف، بل في صواريخ الغواصات الروسية الرابضة في أعماق المحيطات والتي اصبحت تهدد وجود اميركا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة