الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرحلة الردة الرجعية - البلشفية طريق الثورة

آلان وودز
(Alan Woods)

2017 / 8 / 27
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


البلشفية طريق الثورة

الفصل الثالث: مرحلة الردة الرجعية

الأوهام البرلمانية

ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

يوم 27 أبريل (10 ماي) 1906، الذي كان يوم صيف حار، افتتح دوما الدولة الأول أبوابه في قصر توريد الرائع. وفي القاعة الفخمة، المليئة بالدوقات ورجال الحاشية والشعارات الملكية، استمع ممثلو الشعب المنتخبون بكل احترام إلى الخطاب الافتتاحي للقيصر نيكولاس. هذا المشهد الفسيفسائي والمتناقض إلى حد ما أثار انتباه أحد المراقبين الإنجليز الذي خلده للأجيال القادمة:


«الفلاحون في معاطفهم السوداء الطويلة، وبعضهم يرتدي الميداليات العسكرية والصلبان؛ الباباوات (أي الكهنة) والتتار والبولنديين، ورجال يرتدون كل أنواع اللباس باستثناء الزي الرسمي. . . ترى رجالا كبار السن بمعاطف فراء، يبدون "مثقفين" ديمقراطيين بشعرهم الطويل ونظارات الأنف؛ وأسقف بولندي يرتدي زيا أرجواني اللون، يشبه البابا. ورجال دون ياقات. وأعضاء بروليتاريين، رجال بالقمصان الروسية الفضفاضة مع الأحزمة؛ ورجال يرتدون أزياء عصرية غالية الثمن، وآخرون يرتدون زيا يعود إلى قرنين من الزمان. . . كان هناك عضو بولندي يرتدي جوارب زرقاء خفيفة، وسترة إيتون قصيرة وأحذية هيسيان. لديه شعر مجعد، ويبدو تماما مثل بطل كافاليريا روستيكانا. وهناك عضو بولندي آخر يرتدي معطفا طويلا من الفانيلا البيضاء يصل إلى ركبتيه. . . وهناك بعض الاشتراكيين الذين لا يرتدون الياقات، وهناك، بالطبع، كل أنواع القبعات التي يمكنك تصورها»[1].

يظهر بشكل واضح من خلال هذا الاستشهاد التكوين غير المتجانس للغاية لمجلس الدوما. وأخيرا يبدو هنا مقطع حقيقي لفئات المجتمع الروسي التي اجتمعت معا تحت سقف واحد، وعلى استعداد لحل مشاكل المجتمع من خلال النقاش الديمقراطي وحسن النية! لكن وتحت الطلاء البراق والاحتفالية كانت هناك هوة عميقة غير مرئية. عانت أم القيصر من صدمة كبرى لرؤيتها لهؤلاء الناس إلى درجة أنها لم تتمكن من استعادة رباطة جأشها لعدة أيام. وقد قالت في وقت لاحق لوزير المالية: «كانوا ينظرون إلينا مثل الأعداء. لم أتمكن من التوقف عن النظر إلى بعض الوجوه التي كانت تعكس كراهية غريبة لنا جميعا»[2]. لم تحقق الأحزاب اليمينية نجاحا كبيرا في الانتخابات، ولم يتم انتخاب سوى 12 من الأوكتوبريين (الليبراليين اليمينيين). بينما استفاد الكاديت من مقاطعة الاشتراكيين الديمقراطيين للانتخابات. وبما أنهم كانوا البديل الوحيد على اليسار، فقد فازوا بـ 184 مقعدا. إن التباس الموقف تجاه انتخابات الدوما كلف الاشتراكيين الديمقراطيين ثمنا باهظا. لقد عمل الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي على مقاطعة الانتخابات، وبعد ذلك، عندما أصبح واضحا أن الجماهير كانت تشارك، سارع إلى تعديل موقفه لكن الأوان كان قد فات لاستعادة الأرض المفقودة. لقد قدم الاشتراكيون الديمقراطيون في الواقع خدمة لحزب الكاديت. لو أن الاشتراكيين الديمقراطيين والاشتراكيين الثوريين عملوا على تقديم مرشحين لتلك الانتخابات، لما كانت نتيجة الكاديت لتكون مثل تلك التي حققها، وهو ما اتضح لاحقا في الانتخابات التالية.

إن التكتيكات الخاطئة للاشتراكيين الديمقراطيين سلمت للكاديت السيطرة الفعلية على الدوما على طبق من ذهب. الكاديت الذين اغتروا بانتصارهم طرحوا على الفور اقتراحا يدعو إلى تشكيل حكومة تكون مسؤولة أمام مجلس الدوما، بدلا من النظام المعمول به والذي يعمل فيه القيصر على تعيين حكومة تكون مسؤولة أمامه وحده. وكان هذا في الواقع مطلبا يعني بأن تنتقل السلطة إلى الكاديت. وبسبب أوهامهم البرلمانية أيد المناشفة مطلب الليبراليين، في حين عارضه البلاشفة باعتباره تلاعبا بالبرلمان. وحتى من وجهة النظر الديمقراطية البحتة، لم يكن هذا مطلبا يمكن أن يدعمه أي حزب ثوري يستحق اسمه. فطالما لم يكن هناك اقتراع متساو ومباشر وشامل في روسيا، فإن مجلس الدوما لم يكن ممثلا حقيقيا للشعب. ودعم المناورات البرلمانية للكاديت سيخلق الأوهام في أذهان الجماهير بأن مثل تلك الحكومة ستكون أفضل من الحكومات القيصرية غير الديمقراطية السابقة. لكن ذلك ليس صحيحا. كانت البرجوازية لا تريد سوى عقد مساومة مع النظام الملكي، في حين أراد حزب الطبقة العاملة الثوري أن يكنس ذلك النظام ويستبدله بنظام ديمقراطي حقيقي. كان الهدفان متناقضان وقد عبرا عن نفسيهما في تكتيكات متناقضة. وقد أدى الصراع حول التكتيكات تجاه الدوما إلى انقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى جناحين. "مع أو ضد حكومة الديمقراطيين الدستوريين؟" كان هذا هو السؤال الذي طرح في استفتاء داخل الحزب.

في سياق الحملة حول الاستفتاء، وصفت المنشفية إيفا برويدو اجتماعا نظم في رصيف بناء سفن البلطيق في بيترسبورغ، معقل المناشفة، حيث ألقى لينين خطابا:


«بعد أن أعلنت افتتاح الجلسة أعطيت لينين الكلمة. لقد تحدث بشكل جيد جدا وبثقة كبيرة. وكثيرا ما قوبلت كلماته بالتصفيق. وما فاجئني هو أنه لم يهاجم المناشفة ولو مرة واحدة»[3].

فقد لينين التصويت بأغلبية كبيرة، 50 إلى 13، لكن هذا الحدث يظهر أسلوبه في الجدل الحزبي، وخاصة عند التعامل مع العمال. اعترفت برويدو بدهشتها، هل كان هذا هو نفسه لينين الذي قطع بحزم مع مارتوف وبليخانوف؟ لكنه في نقاش أمام العمال الذين ما زالوا تحت تأثير المناشفة، "لم يهاجم المناشفة ولو مرة واحدة". يوضح لنا هذا الحدث كثيرا أسلوب لينين في الجدال.

على الرغم من أنه لم يتم الاحتفاظ بنص خطاب لينين الذي ألقاه في رصيف بناء السفن، فإنه ليس من الصعب أن نتخيل محتواه. لا بد أنه هاجم، ليس قادة المناشفة، بل العدو الرئيسي، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين والنظام القيصري. كان ليوضح أن من يسمون بالليبراليين في الدوما (الكاديت)، قد أداروا ظهرهم للثورة وصاروا يسعون إلى التوصل إلى اتفاق مع النظام القيصري؛ ويدعو العمال إلى الاعتماد فقط على قوتهم الخاصة، وألا يتورطوا في التحالفات والتعامل مع الليبراليين الخونة؛ وكان ليطالب الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، بأن يتبنى بحزم سياسة الاستقلالية الطبقية. كان لينين يعتمد دائما على قوة حججه وأرقامه وبراهينه من أجل إقناع جمهوره. وفقط بهذه الوسائل كان في نهاية المطاف يكسب الأغلبية إلى صفه، بدءا من الفئات المتقدمة، ثم الطبقة العاملة ككل. وقد استخدم لينين نفس الأساليب في عام 1917، عندما وجه الحزب البلشفي لكسب الجماهير بشعاره الشهير "اشرح بصبر!"

على الرغم من أن الكاديت كانوا يهيمنون على الدوما، إلا أنهم لم يكونوا يشكلون أكبر مجموعة برلمانية. كانت هناك، لأسباب سبق شرحها، كتلة كبيرة من نواب الفلاحين - 200 في المجموع. ورأى البعض أن ذلك سيكون عامل استقرار. كان الوهم بخصوص الموجيك الذي يخاف الله والوفي للقيصر ما يزال قويا في أوساط الطبقة السائدة: "شكرا للسماء!" هتف الكونت ويت، "ستكون الدوما مشكلة في أغلبيتها من الفلاحين". لكن هذا التفاؤل كان سابقا لأوانه. كان الموجيك قد بدأ يكتسب الوعي بمصالحه. ونظم قسم كبير من نواب الفلاحين أنفسهم في ما أسموه "مجموعة العمل" ("ترودوفايا غروبا" أو "الترودوفيك" كما صاروا يعرفون). استوعب لينين على الفور أهمية ذلك. لقد أرسل الفلاحون ممثليهم إلى الدوما ليس لإلقاء الخطب، بل للحصول على الأرض. وكانوا سرعان ما سيكتشفون عمليا أن مجلس الدوما عاجز عن تلبية احتياجاتهم الأكثر إلحاحا. وفي تلك الأثناء، كان يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين أن يحاولوا بكل الوسائل إقامة صلات قوية مع نواب الفلاحين الذين وصف لينين نفسيتهم المتناقضة قائلا:

[الترودوفيك النموذجي هو فلاح] لا يعارض التوصل إلى اتفاق مع النظام الملكي، للحصول بهدوء على قطعة أرضه الخاصة في ظل النظام البرجوازي. ولكن جهوده الرئيسية في الوقت الحاضر تتركز على النضال ضد كبار ملاكي الأراضي، وعلى الكفاح ضد الدولة الإقطاعية، ومن أجل الديمقراطية[4].

كان تكتيك البلاشفة يتمثل في محاولة كسب الترودوفيك وإبعادهم من تأثير الكاديت. لكن مثل هذا التكتيك كان يفترض بالضرورة الاستخدام الماهر للبرلمان. لقد فشل تكتيك المقاطعة، وكان من الضروري تكييف تكتيكات الحزب مع الظروف السائدة وإلا تحول إلى عصبة عاجزة مفصولة عن الجماهير. إن الجمع الماهر بين العمل الشرعي وغير الشرعي، سيمكن من الحصول على أفضل ما في العالمين. يمكن للثوريين الاستفادة من المنابر الشرعية التي ما تزال متاحة، ويكملوا هذا العمل بأنشطة غير شرعية. فالأشياء التي لا يمكن قولها على صفحات الصحافة الشرعية ومن منبر الدوما، يمكن طباعتها في الجرائد السرية. كان يمكن نشر عمل النواب الاشتراكيين الديمقراطيين في الدوما على صفحات الجرائد الشرعية مثل فولنا وفبريود وإكو، التي تفضح الطابع الاحتيالي لهذا البرلمان المزيف وخيانة الليبراليين.

بالنسبة للمناشفة أصبح الدوما مركز الاهتمام. وقد لوحظ هذا الانحراف الإصلاحي على الفور في تصريح الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي داخل الدوما، يوم 16 يوليوز، الذي أكد أن الدوما «يمكنه أن يصبح مركز حركة الشعب بأسره ضد الدولة البوليسية الاستبدادية»[5]. وهكذا بدأت سلسلة من الاشتباكات المتواصلة بين البلاشفة والمناشفة حول مسألة الموقف من الدوما. أرسلت اللجنة المركزية التي كان يسيطر عليها المناشفة تعميما إلى جميع فروع الحزب، طالبة منهم دعم جميع الخطوات التي يتخذها الدوما (أي الكاديت) لاستبدال غوريميكين، رئيس مجلس الوزراء، بعضوٍ من الكاديت. احتج البلاشفة بشكل فوري ضد هذا الدعم المقدم لليبراليين في الدوما. وقد رد المناشفة على ذلك بأنه من الضروري دعم البرجوازية التقدمية (أي الكاديت) ضد الحكومة. وقد أجاب لينين بأنه على ممثلي الحزب في البرلمان أن يحافظوا على استقلاليتهم التامة عن جميع الأحزاب الأخرى، وخاصة الليبراليين البرجوازيين. قال لهم: «اعتمدوا على قواكم الخاصة. بهذه الطريقة فقط يمكننا أن نكسب الفئات الدنيا المضطهدة من البرجوازية الصغيرة الثورية (الترودوفيك)، وفصلهم بعيدا عن الليبراليين (الكاديت)».

سرعان ما تسببت الطموحات الوزارية عند الكاديت، ورغبتهم الحارقة في إنقاذ النظام الاستبدادي من نفسه، في جعلهم يصطدمون بالحكومة. كانوا في الواقع يقولون للقيصر:

انظر، لا يمكنكم الاعتماد على وزرائكم للدفاع عن النظام القديم. إنكم تحتاجون رجالا جدد، تحتاجون أناسا يتمتعون بثقة الجماهير. فقط نحن من بإمكانه إبقاء الجماهير تحت السيطرة، لكن عليكم أن تتزحزحوا وتتقاسموا السلطة معنا.

لكن في ذلك الوقت كان النظام القائم قد تعافى من الصدمة الأولى، كان قد بدأ يستعيد السيطرة على الوضع بمساعدة الرصاصة والمشنقة، وبالتالي فإنه لم تعد هناك حاجة إلى خدمات الليبراليين. زمرة البلاط، التي كانت مصممة على اجتثاث آخر مكاسب الثورة، انتقلت إلى الهجوم. وحتى المقاومة الخجولة من جانب الدوما، كانت أكثر مما يمكن للقيصر نيكولا أن يسمح به.

في 13 ماي 1906، رفضت الحكومة مطالب الدوما والكاديت. وردا على ذلك، أصدر مجلس الدوما قرارا يعبر عن "عدم الثقة" في الحكومة ويصر على استقالتها. وزعت اللجنة المركزية المنشفية للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي توصية على منظمات الحزب تقترح فيها دعم مطلب الدوما الكاديتي من أجل وزارة تابعة للدوما، أي للكاديت. كانت انتهازية المناشفة في الدوما أكثر مما يمكن لأعضاء الحزب أن يهضموه. نجح البلاشفة في الحصول على إدانة الحزب لتكتيكات دوما ميليوكوف. في بيترسبورغ صوتت منظمة الحزب بـ 1760 صوت لصالح البلاشفة مقابل 952 للمناشفة في هذه القضية. وفي مؤتمر يوليوز أكدت منظمة الحزب بسان بيترسبورغ على هذا الموقف. وبعد نقاش تحدث فيه لينين باسم البلاشفة ودان باسم المناشفة، رفض الاشتراكيون الديمقراطيون في بيترسبورغ على وجه التحديد الدعوة إلى وزارة الدوما. لكن وعلى الرغم من ذلك، واصل الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي موقفه التوفيقي بدعم قرار الكاديت بشأن المسألة الزراعية.

سلط لينين نقدا شديد على تكتيكات الليبراليين في الدوما، وكتب:


«الدوما عاجز، انه عاجز ليس فقط لأنه يفتقر إلى الحراب والبنادق التي تملكها الحكومة، بل أيضا لأنه ككل ليس مؤسسة ثورية، وغير قادر على خوض نضال حازم»[6].

وسرعان ما اتضح أن لينين كان محقا. كان الدوما قد تأسس على وجه التحديد على مسألة الأرض. وعوض أن يشكل الفلاحون الترودوفيك أساسا متينا للردة الرجعية، استخدموا موقعهم في الدوما للدفاع عن حقوق الفلاحين. وقد طرحوا مسألة الاستيلاء على أراضي كبار الملاكين العقاريين في الدوما، مما أثار رعب القيصر. وكان رده الغاضب هو: "إن ما للمالك للمالك". وهو ما أعلن نهاية مجلس الدوما الأول. فالقيصر الساخط على الخطابات الجذرية التي كانت تنبعث من قاعات قصر توريد، قرر أن يضع حدا لذلك السيرك.

هوامش:


1: M. Baring, A Year in Russia, London, 191–92, 202. Quoted by L. Kochan, Russia in Revolution, 121.

2: O. Figes, A People’s Tragedy, 214.

3: Eva Broido, Memoirs, 132.

4: LCW, An Attempt at a Classification of the Political Parties of Russia, vol. 11, 229.

5: Istoria KPSS, vol. 2, 202.

6: LCW, Resolution (II) of the St. Petersburg Committee of the RSDLP on the Attitude Towards the State Duma, vol. 10, 481.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا


.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.




.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي


.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024




.. الشرطة الأميركية توقف متظاهرين بعدما أغلقوا الطريق المؤدي لم