الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية في خلاصات عابدالجابري وجورج طرابيشي

طريق لمقدمي

2017 / 8 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قراءة نقدية في خلاصات عابدالجابري وجورج طرابيشي


من المفيد للعقل البشري عامة وللعقل الفردي على وجه الخصوص أن يتناول كل الأحداث والقضايا الحياتية التي تعترض أو تتعايش سواء مع المجموع أو الفرد بعين الرافض النسبي،بمعنى أن لا يقبلها جملة وتفصيلا وأن لا يرفضها مطلقا.
وهذه العملية إن كانت في غالبيتها تحدث في الجانب اللاشعوري من الدماغ الانساني، إلا أنها عند البعض خاصة المحسوبين من "النخبة" "العالمة" و"المثقفة" تجري بشكل واعي أي برضا الشعور. وبالتالي، نجد أنفسنا أمام فئتين تبغي واحدة على حساب أخرى، أو بكلمات أخرى الفئة التي يغلب عليها الفعل اللاشعوري في الواقع الفعلي الحياتي تبقى تحت وطأة الفئة الثانية التي تحتكم إلى الوعي، وبالتالي، إلى إعمال العقل الفعال بصيغة أرسطو وليس المنفعل وفقط كما في المثال الأول.

ومن هذا المدخل المقتضب سوف أحاول أن أكون من الفئة الثانية، أي من الذين ينظرون إلى القضايا والاشكاليات بعين الناقد الواعي المكرس للبناء المعرفي والعقلي وليس بعين الناسف المهدم.
إذن، فبعدما عرضنا المحورين السابقين لرؤية الجابري وطرابيشي للعقل العربي، عرضا موضوعيا دون تحيز ولا تعديل في المعنى أو المقصد،(كان ذلك في بحث مفصل بعنوان" الصراع الفكري بين المغرب والمشرق عابد الجابري وجورج طرابيشي –نموذجين-") بقدر ما كنا ملتزمين تمام الالتزام بمبدأ تحليل وتبسيط ما يمكن تبسيطه، ليتسنى لنا أولا وللقارئ ثانيا التموضع والفهم الجيدين للتنظير الجابري والطرابيشي لماهية داء العقل العربي، وبالتالي، لإستخلاص الأدواء. وطبيعي كل حسب وجهة نظره.

كتب الجابري يقول :«لعل أهم ما جعل الدراسات الإسلامية الحديثة والمعاصرة تتعثر ولا تنتهي إلى نتائج يكمل بعضها بعضا وتساعد على توسيع البحث وتعميقه، تأرجحها بين مناهج وطرق في البحث والتفكير تفقد التراث العربي الاسلامي أصالته، وتفكك وحدته، وتخرج به، أو ببعض جوانبه وقضاياه، عن إطارها الحقيقي، الاطار الذي في أرضه نبتت، وفي مناخه تنفست»
«والواقع المؤسف إن دراستنا لتراثنا العربي ما زالت تخضع لهذه الرؤية التجزيئية العازلة اللاعلمية: فما زلنا ننظر إلى الفقه والكلام والفلسفة والنحو والأدب والحديث والتفسير والتاريخ، كعلوم لكل منها كيانه الخاص المستقل تمام الاستقلال، وكأننا إزاء خزانة تضم تراثنا في درج منفصلة مقفلة لا ينفتح الواحد منها إلا بإغلاق الآخر، خزانة معلقة في الهواء لا يربطها بالواقع وما يجري فيه أية رابطة.»
«نخلص من هذا كله إلى الفكرة الأساسية التي نريد التأكيد عليها من جديد، وهي أن البحث في تراثنا الفلسفي وغير الفلسفي، لن يؤدي إلى النتائج المطلوبة، لن يكون هادفا ومساعدا على تعميق وعينا بتراثنا وتأصيل شخصيتنا الثقافية والعلمية، ما لم تنطلق فيه من نظرة شمولية تربط الأجزاء بالكل الذي تنتمي إليه وتحاول أن تقيم ما يمكن إقامته من الروابط بين عالم الفكر وعالم الواقع..، ان ربط الفكر العربي بمختلف أطواره ومنازعه بالفكر الإنساني عامة، ضرورة أكيدة. اننا نؤمن بوحدة الفكر البشري، وبقوانين الصيرورة العامة... إن الفلسفة اليونانية ضرورية لفهم الفلسفة الإسلامية، ولكن من الخارج فقط أما الفهم الحقيقي لها، الفهم العميق لدلالتها ومغزاها، فلن يتأتى إلا بالنظر إليها من منظور عربي إسلامي، أي في إطار الحضارة العربية الإسلامية بوصفها كلا مترابط الأجزاء ذاتي التطور.»

لقد انتقيت هذه الفقرات عن وعي، وذلك لأنها تجسد كل مشروع الجابري اللاحق المتضمن في كتبه الاربعة لنقد العقل العربي. وتنبغي الإشارة إلى أن كتاب: "نحن والتراث" هو الأرضية والمنطلق لمشروع الجابري النقدي لأن كل الأساس تم وضعه فيه ليتم البناء في : تكوين العقل العربي وبنيته والعقل السياسي والأخلاقي.
ولهذا، أقول بدون خجل ولا تردد أن الجابري وقع في تناقض كبير بين شعوره ولاشعوره. فكيف حدث ذلك؟
أولا: أنه دخل "معركة" دراسة وتحليل ومحاولة معرفة التراث وهو حامل لنظرة رئيسية في وعيه. مفادها أنه يتوجب دراسة التراث في مجموعه دون تجزيئه أي النظر إلى التراث نظرة شمولية.
ثانيا: أنه ينبغي أن نعتبر أن المعرفة الإنسانية متصلة وليست منفصلة وأنها (أي المعرفة) مترابطة في سيرورة كمية يجسدها العقل الإنساني عامة.
من هاتين الزاويتين الأولى والثانية انطلقت، لأنها تشكل جوهر مشروع الجابري ورؤيته وقد عرضت لها في السابق. لأن الجابري يبدو لي أنه وقع في صراع بين الوعي و اللاوعي أي بين القول المتخيل والنظري.. في التمهيد لبداية مشروعه في "نحن والتراث" وبين محاولة التطبيق لذلك المتخيل القابع في ذهنه العميق، أي النقد والتنظير الحقيقين للعقل العربي كما أفصح عن ذلك في اللاشعوره في تكوين وبنية العقل العربي وكذا العقل السياسي والأخلاقي.

ولكي لا أشتت ذهن القارئ، سوف أبسط بكلمات أخرى: إن عابد الجابري عندما ادعى أنه سيدرس التراث وبالتالي العقل الذي صنع ذلك الأثر دون أن يجزئه إلى أجزاء متناثرة مأخوذة من التراث الفارسي واليوناني والعربي الجاهلي/المروئي والتراث الاسلامي الخالص. فإنه ناقض نفسه إذ عمل على تجزيئ وتشتيت كل ما ادعى وحدته وشموليته،وهذا التناقض سينكشف بشكل واضح في كتبه اللاحقة المذكورة آنفا (نقد العقل العربي الاجزاء 4).
وهذا التناقض يتمثل في عدم التزامه بالرؤية الشمولية للتراث وأن كل حضارة تراثية بكل ثقلها المعرفي تكمل الحضارة اللاحقة والمعاصرة لها في آن، كما نظر في "نحن والتراث".
حيث عمل على تجزيئ بل إلى تفكيك كل الموروث الحضاري الإنساني إلى أجزاء، ليست متباعدة ودخيلة على غيرها من الحضارات وفقط ، بقدر ما جعالها متناقضة ومتحاربة فيما بينها. وعوض التراكم الكمي المعرفي الذي يشكل العقل الإنساني كما قال في البداية، حل مكانه التقسيم المعرفي للمنظومة المعرفية من عقل بياني وعقل عرفاني وعقل برهاني.
واعتبر أن العقيدة والقبيلة والغنيمة هي التي تشكل في نهاية العملية الجدلية بين الفعل الديني "الإسلامي" خاصة والمكونات القبلية المتعددة وما يترتب عن ذلك من تراكم الثروة التي تحددها الامتيازات والهدايا والأعطيات.. في تشكل السلطة السياسية التي يحكمها حسب الجابري مكون العقل السياسي.

ومن كل ما تقدم، يخلص الجابري في مشروعه النقدي المنسوف من أساسه أصلا على يد مؤسسه. أن العامل الأساس في نكسة العقل العربي هو ذلك الفعل المعرفي الذي اعتمده مجموعة ممن يمثلون العقل الإنساني (كما قال بنفسه الجابري) المتمثل في الأخذ بثقافة اليونان وغير اليونان ومحاولة إيجاد موطئ قدم لها في داخل الموروث الحضاري "الإسلامي" الخالص الذي في نظر الجابري يمثله، ابن رشد والشاطبي وابن حزم... أما الدخلاء فهم في نظر الجابري: ابن سينا الذي وصفه بالظلامي والذي يمتهن السحر والطلاسم وكذا بالمحرف الفارابي والغبي الكاهن أبو حامد الغزالي...، وعلى هذا الأساس انشطرت الجغرافية العربية الإسلامية إلى شطرين: الأول: مغربي/أندلسي ويمثله، ابن حزم والشاطبي وابن خلدون وابن رشد خاصة وهذا الشطر يمثل العقل البرهاني العقلاني. والشطر الثاني وهو مشرقي أي المشرق العربي،ويمثله الكندي وابن سينا والفارابي والغزالي... ويمثلون هؤلاء العقل العرفاني اللاعقلاني.
وبهذا يكون الجابري قد أحدث شرخا عميقا في الجغرافية العربية/"الإسلامية "ما بين المغرب والمشرق، عوض ما نظر إليه في بداية كتاباته، حول نقد العقل والتراث معا، بالوحدة الجغرافية وبالتالي المعرفية دون القطيعة التي خلص إليها مشروعه النقدي.

ولكي لا أسبق الأمور وأسقط في تناقض بين شعوري واللا شعوري بتعبير "فرويد" وأطرح وجهة نظري حول نكسة العقل العربي "الإسلامي". سوف أؤجلها ريثما أعيد قراءة ما خلص إليه جورج طرابيشي حول العقل العربي بعين الناقد الموضوعي الواعي، وهذا ما سأعرض له في الآتي.
يبدو لي أن جورج طرابيشي نحى عكس منحى عابد الجابري وهذا ما جسدته تساؤلاته التالية: «هل يصلح "حصان طروادة" لتفسير ظاهرة استقالة العقل في الإسلام؟ بعبارة أخرى،هل يمكن رد أًفول العقلانية العربية الإسلامية إلى غزو خارجي من قبل جحافل اللامعقول من هرمسية وغنوصية وعرفان "مشرقي" وفلسفة باطنية وتصوف إشراقي وسائر تيارات "الموروث القديم" التي كانت تشكل بمجموعها "الآخر" بالنسبة إلى الإسلام والتي اكتسحت تدريجيا، وبصورة مستترة، ساحة العقل العربي الإسلامي حتى أخرجته عن مداره وأدخلته في ليل عصر الإنحطاط الطويل؟ أم أن استقالة هذا العقل ما جاءت بعامل خارجي، ولا تقبل بالتالي التعليق على مشجب الغير، لأنها في الأساس مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية،يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟.»
وهنا يجيب طرابيشي ليتضح أنه ذهب عكس الطرح الجابري حيث يكتب قائلا: «..وفي نفينا أن تكون استقالة العقل في الإسلام قد تمت من جراء غزو خارجي، كما تذهب إليه فرضية محمد عابد الجابري، وتعهدنا بإصدار مجلد خامس وأخير نبرز فيه دور الذات، لا الغير، في هذه الاستقالة.
والحال أننا، في سياق هذا البحث عن العوامل الذاتية لأقول العقلانية العربية الإسلامية،وجدنا أنفسنا أمام عامل لا متوقع: المعجزة ومنطق المعجزة في الموروث العربي الاسلامي. عامل غائب كل الغياب عن شبكة القراءة الجابرية ذات المنزع "البراني" في التعليل، ولكنه حاضرا كل الحضور في مأساة سقوط العقل العربي الاسلامي من داخله.»
ويضيف طرابيشي أنه، ما لم يقم العرب والمسلمون بثورة على مستوى العقل، كتلك التي حدثت في أوروبا القرن 16م، ويقصد الثورة الكوبرنيكية نسبة إلى عالم الفلك كوبرنيكوس الذي تطرقنا إليه في الفصل الأول من هذا البحث. سيغرق العالم العربي والاسلامي في غياهب الجهل والظلمات وبالتالي سيرتد إلى عصر الانحطاط والتشرذم. وفي هذا يقول: «لعلنا لا نغالي إذا قلنا إن اتخاذ موقف عقلاني ونقدي جذري من أدبيات المعجزة ومنطق المعجزة يكاد يعادل انقلابا كوبرنيكيا.
وبالفعل، ساهمت هذه الأدبيات، بالمنطق المبطن لها، في إذاعة الوهم في الثقافة العربية الإسلامية الموروثة بإمكانية سيطرة سحرية على الطبيعة والكون والتحكم بقواهما من دون حاجة إلى معرفة قوانينهما، بله بتحدي هذه القوانين والقفز فوقها. من هنا فإن الثقافة العربية الإسلامية لم تساورها الحاجة قط إلى معرفة علمية لقوانين الطبيعة والكون، ولم تجد نفسها بالتالي مدفوعة إلى اجتراح ثورة كوبرنيكية كتلك التي أعطت شرارة الانطلاق للحداثة الأروبية. بتحويلها يؤرة اهتمامها المعرفي من عالم الكتاب إلى كتاب العالم، وبقلبها اتجاه مسارها من العقل الديني إلى العقل العلمي...
ففي عالم تحكمه ثقافة تراثية، كما هو حال عالم الثقافة العربية الإسلامية، ليس ثمة من سبيل إلى تغيير العالم ما لم يتم أولا تغيير تفسيره.
وفي زماننا المعاصر، حيث يبدو العالم العربي -و الإسلامي بشكل أعم- مهددا بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، فإن ثورة كوبرنيكية على صعيد العقل، وعلى صعيد عالم العقل الذي هو التراث والتأويل الموروث للتراث، هي شرط شارط لاستئناف عملية الإقلاع نحو الحداثة التي كان لاح بارقها مع عصر النهضة قبل أن يخمد في ما لم نتردد بأن نسميه عصر الردة.»
«وأدبيات المعجزة في الإسلام، كما استعرضناها مع القارئ، تقدم حقلا تجريبيا خصبا لانقلاب معرفي وعقلي من طبيعة كوبرنيكية. ومع أن مثل هذا الانقلاب قد يبدو استفزازيا، بل منتهكا للقدسيات، في نظر سدنة هياكل الوهم، القيمين اليوم على مصائر الثقافة العربية الإسلامية الموروثة، فإنه قابل لأن يبقى انقلابا لا على التراث، بل من داخل التراث نفسه..
ومن هذا المنظور المحدد فإن الانقلاب الكوبرنيكي المنشود في الثقافة العربية الاسلامية يمكن أن يأخذ -ضمن جملة أشكال أخرى- شكل عودة إلى الإسلام القرآني دون ما عداه. واليوم كما بالأمس البعيد، فإن القرآنيين الخلص يمكن أن يضطلعوا بدور ريادي في هذا الانقلاب.. يمكن القول إن الثورة الكوبرنيكية بالنسبة إلى العقل العربي المعاصر، المتوثر بين قطبي التراث والحداثة، قد تتمثل بثورة ذاتية ينتقض فيها العقل كما تكون في التراث على نفسه ليعيد تأسيس ذاته في عقل مكون جديد يستطيع معه، وبه، أن يكسب رهان الحداثة.»

لقد تعمدت أن أعرض هذه الفقرات التي تشكل عصارى رؤية طرابيشي علاوة على ما قدمت في المحور الخاص به (في بحثي السالف ذكره). لكي يتسنى للقارئ كشف ما ذهب إليه طرابيشي في فرضيته نحو ارتداد العقل العربي وتدهوره، جراء آلياته الداخلية. وبكلمة أخرى، العقل العربي "الإسلامي" خرب "داره" بيده لكن، يبدو لي، أن القارئ سيطرح بعض الأسئلة من قبيل: وكيف أن العرب والمسلمون يخربون عقولهم بأيديهم؟ ثم إلى أي عصر ينسب هؤلاء العرب والمسلمون؟
الإجابة بسيطة وسريعة وهي كالتالي:

أولا: المشروع النقدي لطرابيشي والجابري كما هو معلوم ابتدأ من عصر التدوين أي العصر العباسي الأول، إلا أن طرابيشي عاد إلى ما قبل ذلك، أي إلى مرحلة الخلافة الراشدة تحديدا ابتدأ نقده بعيد وفاة "الرسول محمد ".
ثانيا: وهنا سأجيب على تساؤل القارئ، وفي نفس الآن ستكون إعادة لقراءة خلاصة طرابيشي بعين، الناقد، كما سلف الذكر.
حسب طرابيشي، إن الخلط القائم وعدم التفريق بين الكلام المنزل أي الوحي، وما بين القول الرسولي، أي الحديث، وكذلك التناقض الكائن في مجموعة من الأحاديث المروية عن النبي، خاصة تلك المتضمنة في كتاب "الموطأ" لمالك بن أنس والتي عرضنا لنماذج منها في المحور السابق. والأخطر ما أورده طرابيشي، هو التشريع الديني الذي أقامه الشافعي (السالف ذكره في بحثي الكامل السابق) والذي بموجبه خالف القول الرباني المتضمن في القرآن. وهذا "التشريع"، المنسوب للشافعي في رسائله وفحواه أن : عدد الشهود الذين جاء بهم الوحي للنظر في الأمور والقضايا الحياتية للمسلمين بشكل عام، يمكن أن نعيد النظر في عددهم أثناء الاحتكام في مختلف القضايا في الزنى مثلا والبيع والشراء وغيرها... وهذا في نظر طرابيشي علاوة على ما تقدم ذكره سواء في هذا المحور بشكل مختصر وشامل، أو في المحور الخاص برؤية طرابيشي لسبب تخلف العقل العربي و"الإسلامي"، هو ما أفضى في نهاية النقد والتحليل، إلى اعتبار أن العقل العربي الإسلامي سبب نكسته و"ضياعه" ذاتية أي بسبب من يعتبرون أنفسهم خدام -الله -على أرضه يشرعون ويفتون كما يريدون.
وهذه الأرضية هي التي جعلت طرابيشي يبني ويؤسس عليها ليستشرف كل مكنونات العقل العربي ويختزله في ما انتقاه من بعض النماذج الفقهية المنضوية تحت لواء الدين "الإسلامي". هذا بصرف النظر عن التمذهب السني الذي صب عليه طرابيشي جام نقده وإن شئنا القول عمل على تشويهه. وهذا طبيعي مقارنة بما فعله الجابري الذي هو الآخر ألقى بكل ثقله النقدي "المضلل" على كل من يمت بصلة إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي وهو ما جعله يعتبر ابن سينا خاصة ذو فكر خرافي لا عقلاني..

إذن، فطرابيشي له جانب سلبي وآخر إيجابي فالأول: هو اعتماده على المنهج الانتقائي وهذا الأخير ليس الخطأ في توظيفه بل الخطأ كل الخطأ هو توظيفه في مسألة خطيرة من خلالها تتحدد مصير أمة بكاملها وأقصد العرب و"المسلمون" على امتداد الجغرافية المغربية المشرقية. إذ لم يعر اهتماما لرموز الأمة "الإسلامية" خاصة السنية منها. فشكك في بعضها ونزع المصداقية من البعض الآخر. ثم الغريب عند طرابيشي هو دعوته إلى الطرح العلمي بدل الاعتماد على ما هو غيبي ثم نجده في أواخر كتابه :"المعجزة أو سبات العقل في الإسلام" يدعو إلى الرجوع إلى القرآن الصحيح وهذا الأخير كما هو معلوم ينتمي إلى ملكوت الغيب أي إلى ما هو غيبي، وهذا ما يجعل طرابيشي يسقط في تناقض مع شعوره، حيث هذا الأخير يبدو أنه يتجه وينحو منحى علميا ثوريا، في حين يبدو لا شعوره دينيا "إسلاميا"(قلت إسلاميا لأنه ركز على الاحاديث المروية عن محمد النبي) صرفا، و هذا القول هو طبيعي ونتاج كتابات طرابيشي ولست أقوّله ما لم يقله.
أما الجانب الإيجابي فيجسده طرابيشي عندما صرح بكونية المعرفة البشرية واعتبرها نتاج تراكمات، في أشكال متصلة بصرف النظر عن مصدرها. وهذه إن سامحني القارئ هي بدورها تسقط طرابيشي في تناقض مع ما ذهب إليه في فرضيته حول تراجع وتخلف العقل العربي مرده الى عامل داخلي. فكيف ذلك؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ستكون بمثابة فرضية مستخلصة من الفرضيتين الجابرية والطرابيشية حول نقد العقل العربي.
إذ الجابري يذهب إلى أن سبب نكست العقل العربي هو بالدرجة الأولى جراء عوامل خارجية، والمتمثلة في التراث اليوناني والفارسي الهرمسي الغنوصي والتراث الجاهلي العربي. والتي اعتبرها الجابري بمجموعها بمثابة استعمار خارجي فكري/تراثي، غزى العقل العربي الإسلامي، وبالتالي حرف أصوله وثوابته..
اما طرابيشي فهو نقيض الأول، حيث يذهب إلى أن السبب الرئيس في تخلف العقل العربي "الإسلامي" هو عامل داخلي/ذاتي. والذي مثله هم رجال الفكر "الإسلامي" العربي نفسهم،وهو ما سيفضي في نظر طرابيشي إلى توريثه للأجيال اللاحقة. وهو بالتالي، بمثابة الأردّة التي نخرت العقل العربي ودمرته من الداخل.

يبدو لي مما سلف، أن كلا الرجلين: جورج طرابيشي وعابد الجابري لديهما رؤية أحادية الجانب في نقدهما للعقل العربي و"الإسلامي" .
بدون تريث سيطرح السؤال التالي: وماهي نظرتك أنت للعقل العربي "الإسلامي"؟ إن الإجابة هي بيت القصيد في خاتمة هذا الموضوع وسأبدأ بالقول التالي:
"إن اليد الواحدة لا تستطيع التصفيق" هذا هو المثل الشعبي السائد على امتداد الجغرافية العربية الإسلامية على الأقل من طنجة إلى دمشق. ولو أن العرب خاصة المثقفون والباحثون في مختلف ميادين العلم والمعرفة طبقوا هذا المثل الشعبي وعكسوه على مستوى عقولهم. أي التفكير بشكل جماعي وليس فردي، فمثلا المغربي يفكر جنبا إلى جنب مع السوري والمصري مع الجزائري والفلسطيني مع اليمني وهلم جرا. لو كانت هذه هي المعادلة السائدة في عالمنا لما أذلنا مستعمِر (بكسر الميم) ولما اعتمدنا على الآخر في سد حاجاتنا الضرورية.
إن المثل ينطبق على المفكر الكبير الراحل محمد عابد الجابري والمفكر الكبير الراحل جورج طرابيشي. فلو أن كلا المفكرين اتحدا فكريا لما تجزأت الجغرافية العربية و"الإسلامية" من عقلانية مغربية إلى لا عقلانية مشرقية. ولما تم الاستنقاص من قيمة الرموز "الإسلامية" والطعن في السني على حساب الشيعي وفي الشيعي على حساب السني. هذا مع العلم أن القرآن المنزل لا يتضمن مثل هذا الخطاب العدائي. إذ نجده يخاطب قائلا: يا أيها الناس، يا أيها المسلمون، يا أيها المومنون.. ولا توجد إطلاقا كلمة يا أيها السني أو يا أيها الشيعي.
إن النظرة الأحادية للجابري كما لطرابيشي تتمثل في أن الأول رأى بأن الخلل والضعف والتراجع أتى من الخارج. في حين أن الثاني، قال بأن التخلف والانكسار مردّه إلى الداخل.
أما الصائب من وجهة نظر متعددة الزوايا فهي كالتالي:
أولا: التخلف والجهل أصله خارجي وداخلي في آن، خارجي يتمثل في رفض كل جديد مستحدث يحمل بذرات التجديد والتطور. والتعامل مع العوامل الخارجية الحضارية والتراثية، كأنها داء عضال وهي سبب الكفر والزندقة والانحطاط والتخلف...
ثانيا التقوقع على الذات والانكماش حول ما هو كائن وتغييب ما هو ممكن، بكلمات أخرى، الاعتماد والإرتكان على الموروث القديم دون التفكير في البديل حتى ولو لم يعد يتناسب مع الواقع المعاش. وعدم التطلع إلى البديل أي الممكن خاصة الاقتباس ومحاولة جني الثمار من الآخر وتوظيفها بشكل لا يلغي ما هو كائن داخلي، بقدر ما يروم إلى تحسينه وجعله حي في الزمان والمكان، بمعنى نفي ما يبطئ التطور والتحضر والتأسيس على ما يساعد على ذلك من ما هو إيجابي داخلي وذاتي.
هذه هي خلاصتنا النقدية لخلاصات الجابري وطرابيشي لفرضيتهما حول النقد ونقد النقد للعقل العربي الإسلامي.
فإن أصبت فلي أجران وإن أخفقت فلي على الأقل أجر واحد.



المراجع
محمد عابد الجابري، نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة، 1993
جورج طرابيشي، المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و