الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصهيونية ٬ الاضطهاد القومي والعنصرية

موشه ماحوفر

2017 / 9 / 1
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير




10/05/1976

ان المناقشات العامة التي أثارها قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة والذي أدان الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية يشكل بالنسبة لنا مناسبة سهلة ومرغوبة فيها لكي نوضح من جديد رأينا حول الصهيونية وبشكل خاص حول مظاهرها العنصرية . لكن يبدو لي ان بحث هذا الموضوع ناقص أحيانا وذلك بسبب عدم الوضوح السائد ‒ ليس فقط في المعسكر الصهيوني انما أيضا لدى اليسار المعادي للصهيونية ‒ حول اصطلاح الظواهر العنصرية وبسبب الميل للخلط بينها وبين ظواهر الاضطهاد القومي . بودي ان أخصص هذا المقال لتوضيح هذه التعابير .

توضيح كهذا ملح كذلك في سياق آخر مختلف بعد الشيء : الخلط بين ظواهر التمييز العنصري والاضطهاد القومي يتخلل ٬ أحيانا ٬ بحث المسألة القومية من قبل اليسار الاسرائيلي .

لا أنوى التعمق في الموضوع وتحليل جذور العنصرية وأسبابها من الناحية الاجتماعية ‒ الطبقية ٬ كذلك لن أبحث في الايديولوجيا العنصرية . وعندما أطرح سؤال "ما هي العنصرية؟" فانني أقصد حاليا الشكل المميز الذي تتخذه العنصرية عمليا في الحياة الاجتماعية الفعلية .

أحد الأخطاء الشائعة هو ان اصطلاح "العنصرية" يصف ظواهر تمييز مجموعة عرقية المعاملة على يد مجموعة عرقية أخرى فحسب . هكذا ٬ على سبيل المثال ٬ حاول بعض المدافعين عن الصهيونية رفع تهمة العنصرية عنها بقولهم : "عندما يتهمون الصهيونية بالعنصرية فانهم يقصدون بشكل رئيسي علاقتها بالعرب . لكن العرب واليهود ينتمون الى نفس العرق ولذلك فلا يمكن للصهيونية ان تكون عنصرية" . وبناء على هذا الادعاء ٬ حتى اذا ميزت الصهيونية ضد العرب ولصالح اليهود ٬ فان هذا الأمر ليس عنصرية .

هذا هراء ٬ بالطبع فوفقا لذلك المنطق يمكن القول ان التمييز المعتمد في جنوب أفريقيا ضد أناس من أصل أفريقي هو بالفعل عنصرية ٬ بينما التمييز ضد أبناء الأقلية الهندية ليس عنصرية لأن المميزين (بكسر الياء) والمميز ضدهم ينتمون الى نفس العرق ٬ أي العرق الهندي ‒ أوروبي . وهكذا ٬ يجب أن نفحص كل حالة لنرى ما اذا كان المميزون والمميز ضدهم يتحدرون من أعراق مختلفة وعندها فقط تستطيع تسمية ذلك عنصرية .

في الواقع لا حاجة لحذلقات ومماحكات كهذه . لكي نقرر ما اذا كانت هناك عنصرية ٬ لسنا بحاجة الى تصنيف الجنس البشري الى أعراق اذ ان هذا الموضوع ليس دقيقا على الاطلاق كما انه ٬ بالتأكيد ٬ لا يمت بأية صلة للمقولات السياسية التي نحن بصددها . فاصطلاح "العنصرية" يدل على ظواهر التمييز ضد الأشخاص حسب أصلهم سواء كان من حيث العنصر أو العرق أو القبيلة أو القومية .

من المهم ان نشدد على مظهر رئيسي آخر مشترك لجميع ظواهر العنصرية : التمييز العنصري هو دوما تمييز في مجال حقوق الفرد أي ان المقصود ليس سلب الحقوق الجماعية لجمهور بأسره وانما سلب الحقوق الفردية (الخاصة) لكل انسان ينتمي ٬ بحكم الأصل ٬ لجمهور معين .

ولكي يتضح الفارق بين هذين الأمرين أورد بعد الأمثلة عن وجود اضطهاد جماعي لجمهور معين مع عدم وجود تمييز شخصي ضد الأفراد الذين ينتمون الى هذا الجمهور . في اسبانيا الفاشية يوجد اضطهاد شديد للشعب الباسكي يصل الى حد منع تدريس اللغة الباسكية واستعمالها . بلاد الباسكيين تشكل منطقة متخلفة ومستغلة بشكل خاص ضمن الدولة الاسبانية . لكن الفرد من الأصل الباسكي لا يعاني من اضطهاد خاص عما يعاني منه أي مواطن اسباني اذا كان (هذا الباسكي) قاطنا في مدريد ومستعدا لاستعمال اللغة القيشتالية وللاندماج في الثقافة القيشتالية . وضع مشابه لذلك نجده قائما بالنسبة للأكراد في تركيا (في تركيا ٬ الى جانب حظر استعمال اللغة الكردية ٬ فان استعمال كلمة "كردي" غير قانوني . فالأكراد يدعون هناك "الأتراك الجبليين") . المثال الأخير من بريطانيا : كثيرون من السكوتلانديين وسكان ويلز يشكون من هضم حقوقهم القومية . وبالفعل ٬ فسكتلندا وويلز تشكلان منطقتين مهملتين ومستغلتين بشكل خاص ٬ لغتا هذين الشعبين وثقافتاهما لا تحظيان بالتشجيع وبالمساواة مع الثقافة واللغة الانجليزيتين .. ألخ . لكن لا يتعرض أي انسان للتمييز في الناحية الشخصية بسبب أصله السكتلندي أو الويلزي فقط . في جميع هذه الحالات من الممكن التكلم عن اضطهاد قومي لا عن عنصرية .

طبعا ٬ هناك حالات كثيرة (وبضمنها دولة اسرائيل كما سنرى فيما بعد) يمتزج فيها الاضطهاد القومي ضد جمهور معين ‒ أي الاضطهاد الجماعي ‒ بالتمييز العنصري ٬ أي الشخصي ٬ ضد أبناء ذلك الجمهور وسنبحث هذا الموضوع لاحقا . اما الآن فنكتفي بأن نقرر ان هذه الظواهر ‒ على الأقل مبدئيا ‒ مختلفة بعضها عن البعض الآخر .

عنصرية في اسرائيل

في اسرائيل يوجد تمييز شديد وبارز لصالح اليهود وضد غير اليهود وبشكل رئيسي ضد العرب في نواح عديدة ومختلفة من حقوق الفرد مثل شؤون الهجرة والجنسية واختيار مكان الاقامة والعمل وملكية الأراضي ٬ وامتيازات عديدة تمنح أو تمنع من قبل السلطات في أغلبية نواحي الحياة اليومية .

قسم من هذه التمييزات موجود بشكل واضح في قوانين الدولة مثل قانون العودة وقانون الجنسية . قسم آخر ‒ يفوق القسم الأول في أهميته ‒ ل تنص عليه القوانين بشكل مباشر انما يوجد في دستور الوكالة اليهودية والقيرن قييمت ولهما وضع شرعي في اسرائيل والذي يحظر على العرب ليس فحسب شراء أراض تابعة للقيرن قييمت انما يحظر عليهم كذلك استئجار أراض كهذه أو العمل فيها كأجراء . لكن القسم الأكبر والأهم من التمييزات التي يعاني منها العرب في اسرائيل ليس مكتوبا في قوانين الدولة أو في أي مكان آخر ٬ انما يمارس كعرف غير مكتوب . فعلى سبيل المثال لا يوجد أي قانون ينص على ان أراضي العرب هي التي تصادر دوما لتوطين اليهود فيها أو لاسكانهم عليها ٬ وليس العكس . لكن لم يحدث في الواقع ان صودرت أراض من يهود وأعطيت للعرب في حين يتم نقل الأراضي من العرب لليهود بالاكراه يوميا . نستطيع ان نورد مئات ٬ بل الاف الأمثلة من جميع مجالات الحياة لكنني سأكتفي بايراد مثال آخر ليست له أهمية خاصة بحد ذاته انما يكتسب أهميته بسبب تفاهته . ففي عدد 30/8/1970 من صحيفة يديعوت أحرونوت نشرت القصة التالية : "يواجه موظفو وزارة الاستيعاب في منطقة حيفا في هذه الأيام مشكلة مربكة : لقد حضر اليهم أحد سكان قرية عرعرة الواقعة في وادي عارة مطالبا بالتمتع بجميع الحقوق والتسهيلات الممنوحة لكل مواطن اسرائيلي عائد . "كيف يمكن ذلك؟" ‒ تعجب الموظفون ٬ فأجاب العربي : "بعد قيام دولة اسرائيل مباشرة ٬ هاجرت ٬ الآن عدت ٬ وكمواطن اسرائيلي عائد ٬ بلغني ان لي الحق في الحصول على تسهيلات عديدة منها الحصول على قرض لامتلاك شقة ولشراء سيارة معفاة من الرسوم الجمركية" . لقد أوضح الموظفون للرجل ان بامكان اليهود فقط التمتع بحقوق المواطن العائد ٬ وعاد العربي الى قريته بخفى حنين" .

في غضون ذلك تعلمت سلطات اسرائيل درسا . ففي الأشهر الأخيرة ظهرت من جديد في صحف البلاد اعلانات عن منح تسهيلات وحقوق مختلفة للمواطنين العائدين . غير ان الاعلانات في هذه المرة لم تنشر من قبل الحكومة فقط انما باشتراك جسمين آخرين هما : المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية وذلك لعدم وجود امكانية قانونية سهلة تسمح للحكومة بمنع التسهيلات والهبات عن مواطن عربي عائد ٬ في حين ان المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية تعتبران بمثابة جسمين "خاصّين" مسموح لهما بان يكونا عنصريين بشكل سافر . ومن أجل سد جميع الثغرات والشقوق يطلب من "الاسرائيليين المقيمين في الخارج والذين يعتزمون العودة الى اسرائيل" ان يطلبوا المعلومات ٬ لا من أقرب سفارة اسرائيلية اليهم ٬ بل وبالذات من "مكتب دائرة الهجرة والاستيعاب التابعة للوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية القريب من أماكن سكناهم" . علاوة على ذلك ٬ فبعد ان كانت هذه التسهيلات تمنح في الماضي وفقا لمقاييس مكتوبة وثابتة وعلنية ‒ حتى انها وصلت الى مسامح ذلك العربي الساذج من عرعرة ‒ "يتشاطر" صهاينتنا الآن فيعلنون ان "منح الشروط (شروط التسهيلات ‒ المترجم) سيبث فيه بشكل فردي حسب وضع كل طالب لذلك واحتياجاته" . وهكذا فاذا اعتقد مواطن اسرائيلي عربي يسكن في الخارج ان هذا الاعلان يمسه وتوجه ٬ بناء على ذلك ٬ لأقرب مكتب تابع للمنظمة الصهيونية ٬ فانهم يستطيعون دوما ان يوضحوا له "بشكل فردي" انه حسب وضعه كعربي لن يحصل على مليم صدئ .

لقد استفضت في الحديث عن هذا المثال لكي ادلل على مدى التفاهة المقرفة الذي تستطيع ان تصله السفالة العنصرية .

من المستحسن ايراد أمثلة اخرى : العربي الذي يريد ان يتهود يستجوب قبل كل شيء من قبل سلطات الأمن . اما اذا تقابل فتى عربي وفتاة يهودية فتحابا فعاشا سوية فانهما معرضان في حالات كثيرة لتدخل … الشرطة التي تستجيب في هذه الحالات لطلب الأسرة اليهودية للتفريق بينهما .

يجب التأكيد على اننا لسنا الآن في صدد التقييدات المفروضة على الجمهور العربي في اسرائيل كجمهور والتي تحرمه من التعبير الحر عن طابعه القومي وكيانه الجماعي . فهذا موضوع آخر . اننا نعالج الآن قضية التمييز الذي يعاني منه كل عربي كفرد ٬ لا لسبب الا لأنه من أصل عربي . هذا التمييز يكون حتى من نصيب عربي يتكلم العبرية بطلاقة ويسكن بين اليهود (ما زالت هناك أماكن معدودة في البلاد يمكن فيها هذا الأمر!) ولا يهتم بالسياسة وبالقومية العربية وعلى استعداد أيضا لوضع القبعة اليهودية على رأسه وان يدعى باسم يهودي . الواقع ان عربيا كهذا يتعرض لخطر اضافي … خطر ملاحقة الشرطة الاسرائيلية وتهمة "التنكر كيهودي" . ولقد حدثت أمور كهذه بالفعل .

جريمة فظيعة كهذه ‒ جريمة "التنكر كيهودي" ‒ هي من نوع الجرائم الموجودة في أكثر الدول عنصرية فقط : في جنوب أفريقيا يقترف الانسان الأسود جريمة اذا تنكر كانسان أبيض . وفي ألمانيا النازية كان اليهودي يقترف جريمة اذا تنكر "كآري" . لكننا لم نسمع عن اتهام أي شخص باقتراف "جريمة" التنكر كبريطاني .

الأمر هو كالتالي : ان يكون المرء يهوديا في دولة اسرائيل معناه التمتع بوضع خاص حسب القانون المكتوب وحسب العرف والعاداة . لذلك فغير اليهودي الذي يتنكر كيهودي يخرق بذلك القانون لأنه يكتسب وضعا قانونيا لا "يستحقه" .

من هنا تتضح أيضا أهمية سؤال "من هو اليهودي؟" التي تثور حولها في اسرائيل نقاشات وقضايا أحيانا متعددة . هذه النقاشات ليست نقاشات أكاديمية حول جوهر اليهودية التاريخي انما لها أهمية عملية وقانونية من الدرجة الأولى : فالجواب على "من هو اليهودي؟" يقرر من يستحق التمتع بجميع الحقوق المنصوص عليها في القانون والعرف والممنوحة لليهود فقط ‒ ابتداء بالحصول على الجنسية أوتوماتيكيا حسب قانون العودة وانتهاء بتخفيضات الرسوم الجمركية المفروضة على سيارة المواطن اليهودي العائد من الخارج ٬ وبالمناسبة ٬ يجدر بنا ان نذكر ان القرن العشرين شهد دولة أخرى أولت أهمية قانونية لسؤال "من هو اليهودي؟" ٬ الا وهي المانيا النازية حيث كان الأمر لسبب مشابه لكن معكوس الآية .

في الدول المتنورة ‒ وبضمن ذلك دول برجوازية كثيرة ‒ لا يمكن ان يثار سؤال كهذا مطلقا . ففي فرنسا ٬ على سبيل المثال ٬ هناك أهمية قانونية لسؤال "من هو المواطن الفرنسي؟" . لكن جميع مواطني فرنسا يعتبرون متساوين امام القانون (وهذا أحد مآثر الثورة الفرنسية . وحقيقة ان المساواة امام القانون هي حق برجوازي ٬ لا يجب ان تدفعنا ٬ كاشتراكيين ٬ الى ازدراء هذا الحق بالرغم من اننا لا نستطيع الاكتفاء به) . لذلك لا توجد أهمية قانونية لسؤال "من هو الفرنسي حسب أصله؟" ولا يشغل بال الجمهور الفرنسي .

قبل ان ننتقل الى موضوع آخر سنعالج ادعاء آخر نسمعه أحيانا من المدافعين عن الصهيونية . حسب هذا الادعاء لا يمكن اعتبار التمييز المتبع في اسرائيل عنصرية لأن تعريف اصطلاح "يهودي" يتم وفقا للديانة اليهودية وعليه ‒ هكذا يزعمون ‒ يستطيع كل انسان غير يهودي ان يتمتع بجميع حقوق اليهودي شريطة ان يتهوّد . ادعاء كهذا يثبت ان العنصرية المتبعة في اسرائيل ليست عنصرية فقط انما عنصرية ممزوجة بالاكليريكية . صحيح ان الاجابة عن سؤال "من هو اليهودي؟" تحددت ٬ جزئيا على الأقل ٬ وفقا لمبادئ الديانة اليهودية . لكن هذه المبادئ بدورها تقرر يهودية انسان ما أو عدم يهوديته حسب الأصل وليس حسب الايمان وذلك بشكل حاسم . اذا كان الملحد غير يهودي الأصل فليس باستطاعته التهود . غير ان من كانت أمه يهودية فبامكانه ان يكون ملحدا وان يطبخ علانية لحم الخنزير بالسمن الحيواني في عيد الغفران الواقع في يوم السبت ‒ وبالرغم من ذلك كله فانه يعتبر يهوديا .

لذلك لا مفر من الاستنتاج ان اسرائيل دولة عنصرية لأنها تمارس في قوانينها المكتوبة وفي أعرافها غير المكتوبة نظاما واسعا من التمييز يطبق على الأشخاص حسب أصلهم وفي مجال حقوقهم الشخصية .

التفرقة العنصرية والاضطهاد القومي

وحيثما وجد تمييز عنصري يبذل المضطهدون (بكسر الهاء) جهدهم لتأسيس (من مؤسسة) وتوطيد خاصيّة ابناء المجموعة المضطهدة (بفتح الهاء) وللتشديد على الفوارق ولمنع الاندماج . فالمضطهِدون بحاجة الى التفريق الواضح لكي يتضح ضد من يميزون ومن "يستحق" الامتيازات . لذلك توجد في أماكن كهذه قوانين أو أعراف ترغم ضحايا العنصرية على حمل سمات خارجية مميزة خاصة أو هويات خاصة تدل على أصلهم "المنحط" وتمنعهم (بشكل مطلق أو شبه مطلق) من اختيار مكان سكنهم خارج منطقة محدودة وتحرمهم من الامكانية القانونية أو الفعلية ان يتزوجوا مع أفراد المجموعة الحاكمة الى غير ذلك من التقييدات المختلفة .

بالمقابل فان الآية تظهر معكوسة حيثما وجد اضطهاد قومي : الشعب الذي يعاني من الاضطهاد يصبو بنفسه لتأسيس خاصيته القومية وللحصول على اعتراف بلغته القومية المختلفة ولنيل الاستقلال الثقافي والحكم الذاتي ويرفع في حالات عديدة مطلب الانفصال السياسي التام واقامة دولته الخاصة ٬ في حين يرفض المضطهدون (بكسر الهاء) الاعتراف بالكيان القومي للشعب المضطهَد وبخاصيته ويحاولون منعه من التعبير الحر عن ثقافته القومية المختلفة ويسلبونه الحق في اقامة حكم ذاتي أو دولة خاصة به . وفي معظم الحالات التي لا يقترن فيها الاضطهاد القومي بالعنصرية يحاول المضطهِدون دمج الشعب المضطهد (بفتح الهاء) .

هذا الفارق ناتج عن الاختلاف الأساسي بين هذين الشكلين من الاضطهاد . ففي حين تحرم العنصرية أبناء المجموعة المضطهَدة من حقوق الفرد ٬ نجد ان الاضطهاد القومي يعني سلب الشعب المضطهَد من حقوقه الجماعية . فالمشكلة القومية ليست مشكلة التمييز الشخصي ضد أبناء الشعب المضطهد انما سلبه من حقه الجماعي في تأسيس خاصيته القومية . يجب التمييز دوما بين هذين النوعين من الظواهر حتى لو ظهروا مقترنين سوية ٬ لأن المشكلة القومية تستوجب حلولا تختلف عما تستوجبه مشكلة التمييز العنصري .

بالنسبة لموقف الحركة الاشتراكية من مشاكل التمييز العنصري فلا توجد ‒ ولا يمكن ان توجد ‒ هناك أية صعوبة ٬ فالفكرة الاشتراكية وأهداف الحركة الاشتراكية تستلزم معارضة شديدة للتمييز ضد الأشخاص ولسلب أفراد مجموعة معينة من حقوقهم الخاصة ومنح الامتيازات لأبناء مجموعة أخرى بسبب الاختلافات في الأصل . فالاشتراكيون ملزمون اذن بالنضال ضد أي تأسيس (من مؤسسة) للفوارق في الأصل ومن أجل منح حقوق متساوية للجميع من الناحية الفعلية .

اما الوضع بالنسبة للمشاكل القومية فهو أكثر تعقيدا . الاشتراكيون ليسوا معنيين باقامة الحواجز بين الشعوب وانما بازالتها كذلك فانهم لا يرغبون في تشجيع أية انعزالية قومية . نت الجهة الأخرى فان معارضة مطمح شعب مضطهد (بفتح الهاء) في تأسيس كيانه القومي تعني تأييد الاضطهاد القومي . ففي اسبانيا ٬ على سبيل المثال ٬ يطالب الشعب الباسكي بالاعتراف بحقه في وجود قومي خاص به بينما ينفى المضطهِد الاسباني هذا الحق بحجة ان لا وجود لكيان باسكي مختلف وان الباسكيين هم جزء من الأمة الاسبانية . وحيثما وجد اضطهاد قومي فان الوضع يكون كالتالي : اذا عارض الاشتراكيون حق شعب ما في وجود قومي خاص به فانهم يجدون أنفسهم الى جانب المضطهدين (بكسر الهاء) . لقد اختلف الاشتراكيون ٬ وما يزالون ٬ حول المسألة القومية . غير ان الخلاف ليس ما اذا كان يجب تأييد حق شعب في تأسيس كيانه القومي انما حول مدى تأييد ذلك . في أوساط الاشتراكيين هناك رأيان حول هذا الموضوع : الرأي الأول وهو رأي الأغلبية يرى وجوب تأييد حق الشعوب في تقرير مصيرها ٬ بشكل مطلق ٬ وبضمن ذلك حقها فا اقامة دولة قومية مستقلة . الرأي الآخر يرى وجوب تأييد حق جميع الشعوب في الاستقلال اللغوي ‒ الثقافي ٬ لكن لا في الانفصال التام .

لا اود هنا التعمق في هذا النقاش بل سأترك ذلك لمناسبة أخرى . ما أريده هنا هو ابداء ثلاث ملاحظات ايضاحية :

أولا : يوافق الطرفان على ان لكل شعب الحق في التعبير بشكل مؤسس (من مؤسسة) عن كيانه القومي وخاصيته اذ ان الاستقلال القومي يشكل تأسيسا للقومية .

ثانيا : ان الذين يؤيدون "حق تقرير المصير وبضمن ذلك الحق في الانفصال السياسي" يوافقون بدورهم على عدم تشجيع اقامة أطر سياسية منفصلة بشكل عام . تأييد حق تقرير المصير لا يعني تشجيع ذلك انما يعني معارضة فرض اطار مشترك بالقوة من قبل شعب على شعب آخر . الأكراد في العراق ٬ مثلا ٬ لا يطالبون بدولة منفصلة وانما بحكم ذاتي معيّن ضمن اطار الدولة العراقية . اذا أيدنا حقهم في تقرير مصيرهم فهذا لا يعني ان نشجعهم على توسيع مطالبهم والمطالبة باقامة دولة منفصلة . لكنهم لو رفعوا في المستقبل مطلبا كهذا وحاولت حكومة العراق الحيلولة دون ذلك بالقوة (وبالقوة فقط يمكن منع ذلك !) فعندها يتحتم علينا معارضة محاولة الاكراه هذه . ان الذين يتبنون هذا الرأي يرتأون وجوب تشجيع شعب ما على اقامة دولة منفصلة خاصة به في حالات معينة فقط عندما يكون لذلك سبب خاص . وباختصار فتأييد حق الانفصال لا يعني تشجيع الانفصال في جميع الحالات ‒ تماما كما ان تأييد حرية القول يلزمنا بالاعتراف بحق انسان ما في ان يتفوه بهراء (وبمعارضة كل من يحاول اسكاته بالقوة) دون ان يعني ذلك تشجيعه على قول السخافات .

ثالثا : هذا النقاش ٬ الذي هو نقاش تاريخي في الحركة الاشتراكية ٬ يتعلق فقط بالمسألة القومية ٬ أي بحالات الاضطهاد القومي الذي معناه سلب شعب ما من حقه الجماعي . النقاش لا يتعلق ابدا بالتمييز العنصري . فحول الموقف من التمييز العنصري لا يوجد ٬ لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل ٬ أي نقاش بين الاشتراكيين الجديرين بهذه التسمية .

دولة اسرائيل ‒ ما هي ؟

لقد درجت الصهيونية على الاعلان عن هدفها بالقامة دولة قومية في البلاد . غير ان دولة اسرائيل التي انشأتها الصهيونية هي ٬ دون شك ٬ دولة يهودية لكنها ليست دولة قومية ٬ على الأقل ليس بالمفهوم المتعارف عليه .

ليس بامكاني هنا بحث الجذور الاجتماعية ‒ الطبقية لقومية الحديثة ولفكرة الدولة القومية كما تطورت منذ الثورة الفرنسية . لكن ٬ دون بحث عميق كهذا ٬ يبقى أمر واحد واضحا , في الدول القومية الطبيعية التي اقامتها الطبقات البرجوازية (في أوروبا بشكل رئيسي) لا تعتبر "قومية" أية دولة سببا كافية لتبرير التمييز العنصري . فرنسا ٬ على سبيل المثال ٬ تعتبر دولة قومية فرنسية . "فرنسية" هذه الدولة تتجلى في ان حدودها تطابق (بقليل أو بكثير) المناطق الجغرافية التي يشكل فيها أفراد الأمة الفرنسية غالبية السكان ٬ وفي ان لغة فرنسا وثقافتها هما اللغة والثقافة الفرنسيتان . لكن ضمن اطار فرنسا توجد مجموعات قومية أو شبه قومية أخرى : باسكيون ٬ بريتانيون وكورسيكيون . وتحت شعار تجانس فرنسا الفرنسي رفض حق هذه المجموعات في التواجد القومي المنفصل . لكن القضية هنا ٬ كما أوضحنا سابقا ٬ ليست قضية تمييز عنصري وانما ٬ في أقصى الحالات ٬ قضية قومية . بالطبع من الصعب ان نجد دولة برجوازية لا وجود فيها على الاطلاق لظواهر العنصرية وبضمن ذلك فرنسا أيضا حيث يوجد فيها تمييز عنصري ‒ ليس حسب القانون انما "فقط" عمليا ‒ ضد العرب الجزائريين على سبيل المثال . لكن ليست هناك علاقة مباشرة بين ذلك وبين "فرنسية" فرنسا . على أي حال لا يمكن الادعاء بان من يعترف بحق فرنسا في التواجد كدولة قومية فرنسية يؤيد بذلك التمييز العنصري سواء كان ذلك ضد ذوي الأصل العربي أم أي أصل آخر . وهكذا هو الوضع بالنسبة لكل دولة قومية طبيعية أخرى .

غير ان الوضع في اسرائيل يختلف تماما . غالبية سكان الدولة تشكل كيانا قوميا ‒ الشعب اليهودي الاسرائيلي ‒ له لغته الخاصة وما يشبه الثقافة القومية . غير ان "يهودية" دولة اسرائيل ليست في انها (أي اسرائيل) تشكل تعبيرا قوميا عن هذا الكيان القومي . فحسب العقيدة الصهيونية السائدة ٬ حسب القانون ٬ والى حد معين حسب الممارسة ٬ فان اسرائيل هي "دولة جميع يهود العالم" أي دولة جمهور يتحدد حسب مقياس الأصل . بالاضافة الى ذلك فباسم "يهودية" الدولة تسلب الحقوق الشخصية من مواطنيها غير اليهود ٬ وبشكل خاص العرب .

يجب التوكيد هنا على ان هذا التمييز العنصري ضد العرب باسم الطابع اليهودي لاسرائيل يحظى بموافقة جميع التيارات الصهيونية وبضمنها "اليسارية" و"الحمائمية" (انظر على سبيل المثال مقال أفي نوعام في عدد 75 من "ماتسبين" حول عنصرية أ.ب. يهوشواع ٬ وكذلك مقال ب. موراد عن أوري أفنيري وعاموس كينان وشركائهم في عدد 76 ‒ باللغة العبرية) .

وهكذا فان "يهودية" دولة اسرائيل تختلف عن "فرنسية" فرنسا وعن "اسبانية" اسبانيا لأن دولة اسرائيل الصهيونية ليست دولة قومية بالمعنى المتعارف عليه انما هي تجسيد لمزيج خاص بين القومية والعنصرية والاكليريكية .

بالطبع فان التمييز الذي يمارس ضد العرب الفلسطينيين من مواطني اسرائيل ليس تمييز عنصريا فحسب ٬ فانهم لا يسلبون فقط حقوقهم الشخصية انما أيضا حقوقهم القومية الجماعية في تأسيس كيانهم القومي الخاص كجزء من الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية . أي انهم بين المطرقة والسندان : لا يدعونهم يمزجون هويتهم مع اليهود (حتى لو أرادوا ذلك) ٬ ومن الجهة الأخرى لا يدعونهم يعبرون عن هويتهم القومية الخاصة .

مزيج جهنمي كهذا بين التمييز العنصري والاضطهاد القومي ضد الجمهور ذاته لا يوجد ‒ حسب معرفتي ‒ في أية دولة قومية عادية . لكنه يظهر أحيانا عديدة في دول من نوع آخر : في دول المستوطنين . هذا هو ٬ الى حد كبير ٬ تفسير الطابع الخاص لدولة اسرائيل الصهيونية : فهي دولة استيطانية تشكل ثمرة الاستيطان الصهيوني واداة لاستمراره وتوسيعه .

ليست القضية ان الكثيرين من زعماء الصهيونية والمحكومين بواسطتهم حملوا ٬ وما زالوا ٬ آراء عنصرية . الحقيقة ان عددا كبيرا من الصهاينة لا يعتقد ‒ ولم يعتقد ‒ ان اليهود شعب سام والعرب رعاع متدنون . العنصرية الصهيونية هي في الأساس عنصرية عملية ناتجة عن ان الاستيطان الصهيوني لا يمكن ان يتحقق الا على حساب حقوق العرب الفلسطينيين ‒ لا حقوقهم القومية فحسب انما الشخصية أيضا . المشروع الصهيوني ‒ ماضيا وحاضرا ‒ هو مشروع استيطان اليهود في المناطق التي كانت مأهولة بالعرب … هو جعل البلد العربي بلد يهوديا . ومن أجل تحقيق مشروع كهذا من المحتم التفريق بين اليهود والعرب في شئون الهجرة والجنسية وملكية الأراضي الخ … الى حد التفريق في مجال حقوق المواطنين العائدين .

وبالمناسبة ٬ يمكن الافتراض ان مزج الاضطهاد القومي والتمييز العنصري مرتبط بكون المشروع الصهيوني مشروعا استيطانيا وليس بالخطوط الخاصة التي تميزه عن نماذج لاستيطانية أخرى . اذ ان مزجا مشابها قائم في روديسيا وكان قائما في الجزائر في عهد الحكم الفرنسي بالرغم من ان روديسيا والجزائر تمثلان نماذج استيطانية مختلفة عن المشروع الصهيوني .

خلاصات سياسية

في الختام أود الاشارة الى العلاقة بين ما ورد ذكره سالفا وبين شعاراتنا السياسية .

أولا : بما ان العرب المتواجدين تحت الحكم الاسرائيلي يعانون من مزيج من الاضطهاد القومي والتفرقة العنصرية ٬ يجب علينا ان نعالج هذين المركبين . يجب ألا نكتفي بالنضال ضد التمييز ضد المواطنين . كما اننا يجب ألا نكتفي بالنضال ضد الاضطهاد القومي الذي يعاني منه الشعب العربي الفلسطيني . لذلك رفعنا ٬ عادة ٬ شعار "تأييد نضال الشعب العربي الفلسطيني من أجل حقوقه الانسانية والقومية" . تأييدنا لحقوق الشعب الفلسطيني القومي يتجلى ٬ بين أمور أخرى ٬ في نضالنا من أجل حقه في اقامة دولته الخاصة وضد محاولات حكومة اسرائيل منعه من ذلك . غير ان هذا النضال لم يحل مكان نضالنا ضد التمييز العنصري المتبع في اسرائيل ضد السكان العرب .

ثانيا : حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ‒ ونحن نؤيد هذا الحق ‒ يعني حق هذا الشعب في ان يعبر بشكل مؤسسي عن هويته القومية والذي يتضمن حقه في اقامة دولته القومية الخاصة ٬ لكن لا يتضمن ٬ بالطبع ٬ أي "حق" في التمييز ضد اليهود أو ضد أية مجموعة أخرى . اما ادعاء البعض في ان دولة عربية فلسطينية ‒ اذا أقيمت ‒ سوف تمارس بالضرورة تمييزا ضد اليهود فهو ادعاء باطل يعتمد على الخلط بين الدولة القومية والدولة العنصرية .

ثالثا : اننا نؤيد حق الشعب اليهودي الاسرائيلي في تقرير مصيره . هذا لا يعني اننا سنوصى بقيام دولة يهودية منفصلة . العكس هو الصحيح : اننا نؤيد اندماج اسرائيل في وحدة اشتراكية منطقية تشمل الشرق العربي بأسره . لكننا نصر على ان يكون هذا الاندماج اختياريا وطواعيا ودون قسر ٬ في حال رفض يهود اسرائيل الانضمام الى وحدة كهذه ٬ عندما تقام ٬ فسنأسف كثيرا لذلك وسنبذل قصارى جهدنا لتغيير رأيهم . لكننا نعارض أية محاولة خارجية لفرض ذلك عليهم بالقوة . وطالما انهم لا يوافقون على الانضمام للوحدة ٬ فسنؤيد حقهم في دولة قومية منفصلة . ستكون هذه الدولة يهودية لكننا لا نوافق بأي شكل من الأشكال على دولة يهودية بالمعنى الصهيوني للكلمة . لا نستطيع مطلقا وبأي حال ٬ لا في الحاضر ولا في المستقبل ٬ ان نؤيد "الحق" في التمييز ضد الأشخاص حسب انتمائهم لأصل مختلف . ومرة أخرى نقول : الادعاء اننا عندما نؤيد حق يهود اسرائيل في تقرير مصيرهم فاننا نؤيد ضمنا التمييز ضد العرب ٬ هو ادعاء باطل مردّه الخلط الصهيوني بين الدولة القومية والدولة العنصرية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو العسكرية شمال محافظة بابل ج


.. وسائل إعلام عراقية: انفجار قوي يهزّ قاعدة كالسو في بابل وسط




.. رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بابل: قصف مواقع الحشد كان


.. انفجار ضخم بقاعدة عسكرية تابعة للحشد الشعبي في العراق




.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي