الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكّرات متسوّل من الشّام

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2017 / 9 / 6
الادب والفن


في عامي الخامس كنت أعيش في قرية بعيدة، كان لدينا بقرة تنام قربنا. أحببتها كأميّ.
في عامي السّابع ذهبت إلى المدرسة في قرية كبيرة قرب قريتنا. كنت أتسابق مع رفاقي في الطريق، ومعنا زوادتنا من الخبز، عندما نجوع. نأكل الخبز اللذيذ.
في عامي العاشر انتقلنا إلى دمشق حيث كانت فرحة العائلة لا توصف فقد أصبح أبي مجنّداً، وله مرتّب شهري.
عندما غادرنا بيتنا. ودّعت البقرة، وأنا أبكي. بقيت البقرة في عهدة جدتي.
عندما أصبحت في الثالثة عشرة بدأت عملي بغسل السّيارات، وتلقّيت أوّل صفعة من شخص غريب لأنّ بلّور سيارته قد تغبّش.
في دمشق عشت بقيّة عمري أتنقل من رصيف إلى رصيف. لن أذكر تفاصيل عن حالي. فقط أذكر أوّل يوم بدأت فيه التّسوّل.
جلست إلى ناصية الطريق دون أن أمد يدي. أتذكّر أنّني أعيش في دمشق، ولا أعرفها، فجميع السكان في الحيّ من قريتي والقرى المجاورة، والرحلة إلى قلب المدينة مكلفة لذا كنا نكتفي بزيارة معرض دمشق الدولي، ومشاهدة المسرح الذي تغني عليه فيروز. لا أحبّها-أعني فيروز-، ولماذا أحبها وهي تحتل ذلك المسرح، بينما لا أستطيع الدّخول حتى لرؤيته. لا أحبّ معرض دمشق أيضاً، فكلّما كنت منه أن يشتري لي البوظة كان يضربني قائلاً:" هل تراني أجلس على بنك؟"
لم أتعلم التدخين مع أنّ كل الصبيان كانوا يدخنون. ليس لأنّني أحبّ نفسي. بل لأنّني ظننت أن بعض المال قد يجعل أمي سعيدة. عندما جلبت لها أول عشر ليرات. قالت: من أين جلبتهم؟
قلت: إنّني أتسوّل
قالت : أفضل من أن تصبح جندياً. عندما تكبر قليلاً اذهب وتسوّل في لبنان كي لا تذهب إلى الجيش.
. . .
ياسمين دمشق
ذهبت إلى الشّام القديمة من أجل التّسول، وكان معي بعض النقود. سرقت من أحدهم تلفون موبايل، وفتحت حساباً على الفيس بوك. أصبح لدي خمسة آلاف صديق كلّهم يضعون لي إعجاباً. دخلت باسم مستعار. فكرّت بالتّسول على الفيس.
أصدقاء الفيس جميعهم يتحدثون عن ياسمين دمشق، وجمالها وعشقهم لها. قلت لا شكّ أنّهم يصدقون. بحثت طويلاً عن الياسمين لم أجده ، لكنّني وجدت زاوية قرب الجامع أتسوّل بها. كنت أعطي للحارس عشر ليرات في الأسبوع كي يسمح لي بالبقاء فيها.
أصبحت أنام في زاويتي، وأذهب إلى بيتنا-أعني غرفتنا- في الشام التي سكانها هم من قريتنا. أستحمّ، وأعطي لأمي مئة ليرة، ثمّ أعود.
كان يتردّد على مقهى النافورة رجل يشرب قهوته لوحده، وكلّما مرّ من قربي رمى لي عشر ليرات. في إحدى الليالي دعاني لشرب القهوة معه . دار بيننا حوار طويل ، وثقت به. سألته عن دمشق الياسمين.
قال: لا تشغل نفسك بتلك التفاهات يا بنيَ. هذه مصطلحات جديدة لا تمتّ لأهل الشّام بصلة. كل الذين يتحدّثون عن ذلك ليسوا من مدينة دمشق، قد يكون في بعض البيوت الشّامية القديمة الياسمين، لكنها اليوم هي شام الاسمنت المسلّح، والكذب، والرّياء.
لا أعرف معنى رياء. أسمعه لأول مرّة. ألّفت جملة، وضعتها على الفيس: لا أحبّ الرياء.
ذلك الرجل الذي وثقت به رأيته يوماً يتعرّض للضرب من قبل مجموعة. أردت أن أنقذه. صرخ بي: لا تقترب. أنت لست مثلهم. مهنتك شريفة . حافظ عليها.
. . .
عودة مؤقتة
تحسّن وضع عائلتي الماديّ. أصبح أبي سائقاً عند ضابط له منصب هام.
طلب الضّابط أن نذهب إلى قريتنا، بنى لنا غرفة -على حسابه -كي نأتي إليها كلّ صيف، وكانت مهمة أبي جلب الجنود إلى قرية الضّابط المجاورة كي يبنوا القصر، وجلب مواد البناء من موقع عسكري. ذهبت مرّة واحدة إلى القرية، وعندما لم أجد بقرتنا عدت إلى دمشق، لم أكن أحبّ البيك في قريتنا، لكنّني بدأت احترمته بعد ان رأيت كيف يتعامل الضابط مع أبي، والجنود. سألت أمّي إن كانت سعيدة. قالت لي: وكيف أكون سعيدة، ونحن نعيش عبيداً؟
ثم تحدثت لي عن فضائح ذلك الضّابط، وعبثه مع الفتيات، حيث لا مانع عند بعضهن أن تنام معه ليلة مقابل وظيفة في المدينة، وفي منزله، وبعلم زوجته.
. . .
رحيل
خبرتي في الحياة جعلتني أعرف أنّ الشّر هو المنتصر الدّائم، وأنّ الأمثال التي تعلّمتها لا تمتّ للحقيقة بصلة، فليس للمجتهد نصيب على سبيل المثال, عليّ أن أنقذ نفسي أوّلاً. إن استطعت فعل ذلك، ونجحت. أفكّر في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في تلك اللية التي قرّرت فيها الرّحيل. كان عليّ أن أتسوّل متجوّلاً، أو راكباً في الباص.
نظرت إلى نهر بردى، والذي لم يعد سوى مستنقعاً تنطلق منه الرّوائح. جلست قرب حلّة العرانيس. اشتريت عرنوساً. ثم جلبت ورقة وقلماً وكتبت:
لا أحبّ دمشق، ولا الشّام القديمة، ولا معرض دمشق
لا أحب شعراء الشّام، ولا مطربيهم
أقسم بك يا مستنقع بردى بأنّني لا أنتمي إلى هنا
يا شام! أين أنت؟ سمعت عنك كثيراً، ولم أرك.
وقعت تحت الورقة باسم
ليس لي وطن، ورميت الورقة في النهر فغفت بين الطّحالب على سطحه.
. . .
في الأربعين
قد تستغرب أن يصل رجل إلى الأربعين، ولا يعرف الحبّ، أو الجنس.
أشبه بقرتنا. محكوم بما يقوله لي الآخرون
صور بعض أصدقائي على الفيس مع زوجاتهم وأطفالهم تثير في داخلي الغيرة. صحيح أنّني لا أعرفهم، ولا هم يعرفون من أنا، لكنه عالم كامل. لأوّل مرّة أتعلم معنى كلمة زيف. لذا قرّرت أن ألغي الفيس, صحيح أنّني لم أفهم معنى الكلمة، لكنّني أشعر بها عند جميع أصدقائي.
عمري أربعين، لكن عقلي عقل طفل. لا بأس. بدأت أشعر بالدنيا حولي.
سوف أستمع إلى أغنية. أصبحت أمشي، وأغني أحياناً.
اكتشفت أنّني على قيد الحياة.
ألّفت شعراً عن الوطن
وطني هو:
المكان الذي تفقد فيه الشّعور
تمشي على غير هدى
تعيش على الوهم
الوطن هو ذلك الرجل الخمسيني في الشام القديمة
الذي منعني من الدفاع عنه
ليس كل الأوطان هي دمشق
ففي وطني الجديد
أستحم كل يوم
أتعلّم القراءة والحساب
عادت غرائزي إليّ
أصبحت أشتهي النساء
في الوطن يعيش جميع الأرباب
عليك أن تعبدهم
وهنا لكل شخص ربّه
لا أعرف ما معنى الوطن. فقط كتبت لكم ما أشعر به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى


.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب




.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً