الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفارقة بين معلمتين .!

بريهان قمق

2017 / 9 / 8
الادب والفن


مفارقةٌ عشتها وأستذكرها مع كل بداية عامٍ دراسيٍ جديد ...
لم تعلق بذاكرتي بعمق من بين كل من تتلمذت على أيديهن، في مرحلتي الدراسية طوال اثنتي عشرة سنة، سوى معلمتين بمفارقة غريبة، الأولى عرفتها وقد كنت في حوالي الثامنة من العمر أي في الصف الثالث الابتدائي.. نسيت اسمها ولكنّ صفعتها التي هوت على خدي ما زالت ترن في أعماقي، ولغاية اللحظة لا أعرف سببا لهذه الصفعة وما حماقتي، انما أذكر أنني كنت مع بقية الصغيرات كالببغاوات نردد خلفها نشيدا ما غير ممتع ، وعلى ما يبدو نشزت بكلمة ما ، صدقا لغاية اللحظة لا أعرف حتى الكلمة التي لم أتقنها مع الجمع وما حقيقة ما جرى.. لقد نسيت اسم هذه المعلمة ولكنني لغاية اللحظة لم أنسى صفعتها التي علقت عميقا في بئري العميق، وكانت سببا في كراهيتي لكلَّ مواد اللغة العربية ، وما من ضرورة لأحدثكم حول تداعيات الأمر وتدخلات أسرتي وما إلى ذلك من متابعات مع الإدارة لرفض عائلتي منطق الضرب، إنما ظلت هذه المعلمة ظلا للصفعة التي لم تبهت من حيث المعنى ..!!
وبسبب تلك الخبرة المؤلمة التي لاحقتني لسنوات أدّت لكراهيتي لمواد اللغة والأدب ، فاخترت دون تردد الإلتحاق بالقسم العلمي وقد كان مجموع علاماتي يؤهلني لذلك فانتقلت الى مدرسة زين الشرف..
وعلى الرغم من المواد العلمية المكثفة، انما كان لابد من دراسة مواد الأدب واللغة، رغم بساطتها قياسا بالقسم الأدبي.. انما كان القدر يرسم لي دربا للقاء مع معلمةٍ عظيمة تغلغلت كياني ، وهي السيدة الفاضلة "فردوس زعيتر" التي درستني اللغة العربية لسنتين، وتمكنت بما تتمتع به من كاريزما وثقافة واسعة وأسلوبية حكيمة بأن تسحرني وتجذبني بسلاسة إلى عوالم الأدب والشعر واللغة بشغف...
تمكنت بطريقتها الحكيمة التغلغل إلى أعماق المراهقة المتمردة ، التي ترتدي الجينز الممزق الأطراف وممتليء برسوم وشعارات تحت مريول المدرسة الأخضرالقصير وبشعرها الفوضوي الغجري بما توحيه من لا أبالية .. لا أدري ما الذي فعلته تلك السيدة تدريجيا بي وبصديقاتي بطريقة ساحرة، حملتنا على أجنحتها وقد تقبلت جنوننا ومراهقتنا وتمردنا غير آبهة بما نفعله وباختياراتنا في التعبيرعن أنفسنا، انما استطاعت وضعنا بمواجهة الذات كي ندرك معنى السؤال مع الذات .. بت أفكر واسال وانتقد وأحلل كل ما أقوم به وما ارتديه واسلوبيتي وافكاري وتمردي وحتى كسلي حتى انها الهمتنا أنا وصديقاتي للذهاب يوميا الى المدرسة سيرا على الأقدام لممارسة رياضة المشي عوضا عن الذهاب بسيارة كمرفهات مدللات ..مما كان له الأثر العميق بإحداث التغيير في أسلوبية تفكيرنا وبجريان الدم في عروقنا مع كل صباح باكر والانتباه لتفاصيل الأدراج العمّانية والياسمين المتفتح والتواءات الطرق ، والحجارة وملامح الناس ....
كانت تتحدث بحيوية وترمي الاشارات كما لو كانت غيمة تهطل براذاذ حكمتها الهوينا تلامس الخد الذي بعد لم ينسى صفعة ما ، إنما ثمة رذاذ ما من نوع آخرمدهش بات يعيد الرؤية ...
سحرتني بجديثتها وثقافتها الموسوعية وقدرتها على التفهم ....
هذه السيدة المعلمة الحكيمة "فردوس زعيتر" أعادتني بسلاسة وتدريجيا الى مرحلة الشغف إلى عالم الشعر والأدب وتذوقه .. وزاد منسوب النهم ، حتى كنت أواظب بعد الظهر لزيارة مكتبة أمانة العاصمة في وسط البلد قرب المدرج الروماني، للنبش في عالم الشعراء والأدباء العرب والغربيين وكشف مكنونات العوالم الأدبية والإبداعية ، وعلقت بعشق طرفة بن العبد وامرؤ القيس وجبران وبدوي الجبل وعرار، بل دفعتني أبعد من ذلك كي اكتشف عوالم الصعاليك من الشعراء والصوفيين الكباركالحلاج وابن العربي وغيرهما . وبنهم أروح لنجيب محفوظ ويحي حقي وتوفيق الحكيم والى عالم سحري لكازانتزاكيس وأتغلغل عوالم الإلياذة والأوديسة ومن ثم اقفز لشكسبير و غوته وانتقل لموليير ورامبو و فاليري و هاينريتش، الى ليو تولستوي و دوستويفسكي وتشيخوف و اتنقل من بين الثقافات المختلفة اتلمس ما يمكنني استيعابه بجدية مفرطة ورومانسية الى تمرد من نوع آخر ... من ثقافة الى أخرى حتى ان المكتبة لم تعد تكفي النهم ، فصرت ألجأ أيضا لبائع الكتب كشك أبو علي الشهير ، الذي يعرض كتبه على الرصيف وسط البلد لما يتمتع به من سمعة كبيرة وتنوع هائل بعناوين المؤلفات...
وما أن انتبه لشغفي بالقراءة حتى بات يُعيرني الكتب مجانا فأعيدها له حال الإنتهاء منها...واعترف أنني تمكنت من الحصول حتى على الكتب الممنوعة كالسياسية والفكرية والتي لعبت دورا كبيرا في تشكيل وعيٍ مُستجد على صُعدٍ أخرى ..
كانت الحكيمة المعلمة "فردوس زعيتر" مفتاحا سحريا لمعنى القراءة وعبور المعرفة الإنسانية عبر أسلوبيتها وانسانيتها وثقافتها الواسعة والكاريزما التي تمتع بها، كما لو كان قادمة الينا من كوكب آخر بمهمة منح مفاتيح تفتح الوعي للمراهقات المتمردات ..
تحولت تدريجيا لأيقونة روحية وشعلة لا ينضب ضوءهاـ حتى لما انتهت دراستنا الثانوية ، انما ضوئها ظل مشتعلا بالعروق، مساهمة بتشكيل الوعي الذاتي لكائن محموم بالنبش بين جمرالأسئلة التي لا تنفك عن التوالد بالمزيد.....
ومع كل بداية سنة دراسية سأظل ما حييت أستذكر بامتنان ومحبة للسيدة " فردوس زعيتر" المثقفة الحازمة النبيلة والحكيمة والجميلة الروح ، التي أنارت للمراهقات مفتاح الدرب وبحرية التلقي...
في كل سنة دراسية أتلمس خدي ويزداد ايماني وتترسخ قناعتي بان مقولة "من علمني حرفا صرت له عبدا " مقولة مدمرة .. بل إنّ من علمني حرفا صرت له ممتنة بالحرية والانعتاق.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأسد والثعلب كلاهما في الغابة.
خليل احمد ابراهيم ( 2017 / 9 / 8 - 09:33 )
سمعت هذا المثل أول مرة في الستينات من القرن الماضي من شخص سنجاري
ايزيدي وقال باللغة الكردية (شير وريڤ-;-ى هه ردو ل ده حلى هه ينا)أي الأسد والثعلب كلاهما موجودان في الغابة،وبالضبط عندما قارن شخصين كشخصياتك
التي ذكرتيهم،فانت أيتها الأخت الفاضلة رجعتيني إلى الماضي بهذا الموضوع الرائع.
كما سمعت من نفس الشخص وهو يقول ال مرحبا وال قوزل قورت،تنطقان بلسان
واحد قل للمقابل مرحبا بدلآ من الشتم وكان هو من هذا النوع رغم فقره وعيشه
على الكدح اليومي في عمل البناء كعامل اجير والجانب الآخر من سخصيته ايضٱ-;-
يعكس شخصيته عندما يشتمه أحد دون وجه حق يبتسم له ويقول سامحك الله.
هذه حقيقة البشر.كن متواضعٱ-;- تكبر بعيون الناس،والمغرور بغض النظر من موقعه
الناس لا يحترمون.
أحسنت اختي العزيزة بإعطاء حق تلك الإنسانة واتمنى أن تكون على قيد الحياة وقرأت موضوعك هذا.

اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى