الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البديل الحضاري عند سيد قطب(1)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2017 / 9 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



الفكرة الحضارية للسلفية الدينية

يمثل سيد قطب في مواقفه الفكرية تجاه إشكاليات الحضارة المعاصرة والبديل الاسلامي نموذجا كلاسيكيا لثلاثية "موت الحضارة الغربية" والتعارض التام بينهما وأفضلية البديل الاسلامي. فهو ينطلق من اعتقاد شخصي وأيديولوجي يرتقي إلى مصاف المسلمة القطعية عما يدعوه بمأساة ودمار الحضارة الغربية (الاوروامريكية)، ومن ثم موتها المحتوم. وينطلق في موقفه هذا مما يسميه بتدمير الإنسان والحياة الإنسانية في الغرب. وذلك لان الحضارة الغربية تدمر أولا وقبل كل شي "خصائص الإنسان الأساسية". وان أهم عناصر "هذه المأساة" هي كل من الجهل المطبق بالإنسان، والتخبط الملازم لهذا الجهل، وبالتالي قيام حضارة مادية لا تلائمه ولا تحترم خصائصه. أما النتيجة فهي انهماكها في الموقف الآلي من الإنسان.
إن للموقف الآلي أشكاله ومظاهره في كل شي. فهو ينظر إلى المرأة على أنها حيوان جنسي، والى متطلبات الإنسان على أنها مادية صرف. الأمر الذي يجعل من هذه الحضارة إبداعا لا يلائم حقيقة الإنسان وخصائصه.
ينظر سيد قطب إلى الوجود وإشكالاته بمعايير الرؤية الدينية السلفية المتزمتة، أي انه لا يراها، بل يرى ويتذوق الوجود بمعايير ومقاييس العقائد الموروثة، أي أنها بلا عقل نقدي ولا حس إنساني ولا معاناة حية لتجارب الأمم. من هنا رؤيته للمرأة كامرأة بمعايير التقاليد البدوية والدينية والتقليدية وليس بمعايير الرؤية الإنسانية. أما إقراره الجزئي بان الحضارة المادية هي من صنع الإنسان، وان الحضارة الغربية الحديثة هي حلقة من حلقات الحضارة الإنسانية غير منفصلة عنها في جذورها العميقة، إلا أن نقطة ضعفها الجوهرية هي أنها لا تمتلك "العلم بحقيقة هذا الإنسان وخصائصه"، مع ما يرافقه من انعدام "الرغبة في احترامه وتكريمه". بمعنى إننا نرى نموا في الحضارة المادية الأوربية ولكننا نرى فيها في الوقت نفسه بقاء واستمرار "الجهالة المطلقة بالإنسان".
إن سبب هذا الخلل من وجهة نظر سيد قطب، يقوم فيما يمكن دعوته بالاستعمال الجزئي والنفعي الضيق لحصيلة القيم العلمية للحضارة الإسلامية. فقد قامت الحضارة الأوربية، كما يقول سيد قطب، على "أسس الاتجاهات التجريبية العلمية" التي أبدعها الأندلس والشرق الإسلامي، ومن روح الإسلام الواقعية الإنسانية. لكن المشكلة أو العقدة القاطعة لإمكانية هذه الجوانب العلمية يقوم في أن انتقالها إلى أوربا لم يرافقه انتقال "جذورها الفلسفية" سوية معها ! إضافة لذلك، إن هذا الانتقال قد صادف حالة وفكرة "الفصام النكد"، كما يصفه سيد قطب، بين الدين والنهضة الحضارية. وهنا، كما هو الحال في اغلب أحكامه المتعلقة بالتاريخ والثقافة وإشكالاتهما المعقدة، عادة ما لا يرى المقدمات الفعلية للمسار التاريخي، أو انه يتجاهل قيمتهما الذاتية بالنسبة لهذا المسار، ولا يدرك طابعهما الجوهري الملازم لتجارب الأمم في تذليل ما ادعوه بالمرحلة الدينية اللاهوتية في الوعي. من هنا يمكن فهم تفسيره للمسار التاريخي للحضارة الأوربية على أنها نتاج "للفصام النكد" بين الدين والدولة، عوضا عن أن يرى فيه حاملا للفكرة الإنسانية نفسها. فهو يرتد هنا ويتراجع إلى الوراء خطوات كبيرة مقارنة بأفكار ومواقف الإصلاحية الإسلامية الحديثة. لكنه يجعل من هذا التراجع تقويما للفكرة الإسلامية فيما يتعلق بالموقف من الحضارة الأوربية. لكنه تقويم لا يتعدى في الواقع حدود النظرة المبسطة والمبتسرة لإشكاليات الحضارة المعقدة، من خلال إرجاعها إلى فكرة "الفطرة" الإنسانية. بحيث نراه يحول فكرة الفطرة، أي المكونات الطبيعية للإنسان ووجوده التاريخي، إلى هالة مقدسة، رغم أصولها الطبيعية. ومن ثم يجهل طبيعة وحقيقة الثقافة والحضارة بوصفها تهذيبا للفطرة وليس خروجا عليها. فالأصول الطبيعية للإنسان وثقافته تبقى في النهاية المكون الطبيعي لارتقائه الماوراطبيعي، بوصفها الحلقة التاريخية من اجل الرجوع إليها ولكن بمعايير التجارب العقلية والنزعة الإنسانية. الأمر الذي يلازمه بالضرورة مختلف مظاهر الخطأ والخطيئة، باعتبارها الحالة التاريخية لوجوده الطبيعي والثقافي. أما سيد قطب فانه يرجع ما يعتقد انحطاطا في الحضارة الغربي إلى كمية من العبارات اللغوية والبلاغية مثل "لم يكن بد" من "انهيار الحضارة" بسبب شرود "الإنسان عن ربه ومنهجه وهداه"، بسبب "جهل الإنسان نفسه"، وبسبب "جعل الإنسان من المرأة حيوانا لطيفاً"، وبسبب تعطيله "لخصائصه الإنسانية وحصر طاقته في الإنتاج المادي"، وبسبب "أقامة نظامه على الربا". أما النتيجة فهي حلول "عقوبة الفطرة به". وهي عقوبة "فادحة قاصمة مدمرة"، لعل أهم مظاهرها هي التناقص في النسل الذي يهدد بالانقراض، والتناقص في الخصائص الإنسانية المؤدي إلى البربرية، والتناقص في الذكاء والمستوى العقلي الذي يهدد بانهيار العلم الذي قامت عليه الحضارة، وبانهيار الحضارة ذاتها في النهاية.
إننا نقف هنا أمام رؤية اقل ما يقال فيها، عمياء أو غبية فيما يتعلق بالمسار التاريخي والواقعي للرقي الحضاري المعاصر. فالبشرية عموما في ازدياد مفرط، والعلم في تطور وارتقاء مثير وليس له مثيل فيما مضى، بل لا يمكن مقارنتهما من حيث الديناميكية والاكتشافات والتحقيق والتصنيع، والشيء نفسه بالنسبة للتحرر الفعلي من "منظومة الفطرة" البدائية صوب صيغتها العقلية والعقلانية والإنسانية. وهي عملية صراع عنيف وقاس، لكي يتحرر الإنسان من أولوية وجوهرية الغرائز الكامنة في "الفطرة الطبيعية" نحو تهذيبها الثقافي. بينما يرى سيد قطب فيها سر انتكاسة وسقوط الحضارة الغربية وكل أمراضها ! ومن اجل استكمال هذا اليقين اللاهوتي، يستند إلى ما قاله برتراند راسل عن انتهاء العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة . بل نراه يعتبره ناقصا أيضا بسبب ما اسماه بسطحية المقدمات ومادية الأسباب الملازمة لذهنية المفكر الغربي "أيا كانت قيمة تحرره العقلي"، وذلك لأنه يبقى "أسير عقلية وبيئة وحضارة معينة، لا تسمح له بأن يفكر وراءها، ولا أن يخرج من إسارها ليرى الأمر كله جملة، ومن زاوية أخرى جديدة" . لقد وجد في هذه الفكرة حكما ناقصا. وانه كان ينبغي القول، بأنه قد "انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين"، أي "النمو والترقي للعنصر الإنساني وللقيم الإنسانية والحياة الإنسانية". فهي حضارة "أصيبت بالعقم أو كادت بعدما ولدته في (الماجنا كارتا) الإنجليزية. ومبادئ الثورة الفرنسية. ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه" . مما أدى في نهاية المطاف إلى هيمنة عناصر الدمار والموت كما نراها في "الخواء الذي ينخر في روح الحضارة الغربية بمذاهبها جميعا وبأنظمتها جميعا"ـ و"الخواء الذي تختنق فيه روح الإنسان وقيمته، بينما تتكدس الأشياء وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان". لهذا نراه "يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة والشقاء والتعاسة والأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة"، كما نراه "هاربا من نفسه ومن المخاوف والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية"، ونراه "هائما على وجهه يقتل سآمته وملله بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه من المكيفات والخمور"، بل نراه "يبيع أولاده ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية". الخلاصة إننا نقف أمام انهيار تام لهذه الحضارة . بعبارة أخرى، لقد "انتهى دور الرجل الأبيض" بغض النظر عما إذا كان روسيا أم أمريكيا، إنجليزيا أم فرنسيا أم سويسريا أم سويديا". والسبب يكمن في "ذلك الفصام النكد" المميز للتاريخ الأوروبي، وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم في الغرب.
إننا نقف هنا أمام صورة مبسطة للغاية ومبتذلة من حيث مستوى تحليلها لمقدمات وخصائص "الحضارة الغربية" وانعكاسها في الإبداع الأوربي على مدار قرون وكذلك محددات الرؤية النقدية الذاتية التي أفرزت عبارة "انتهاء دور الرجل الأبيض". وهنا تجدر الإشارة إلى أن آراء وأحكام برتراند رسل في مجال الفلسفة، وفلسفة التاريخ، والتاريخ الثقافي ليست من العمق والهيبة العلمية التي يمكنها أن ترتقي إلى مصاف دوره العلمي. لكن اجتهاده يبقى فرديا وجزئيا للغاية، ومع ذلك فان مقصود كلامه لا يعني ما عناه سيد قطب. إذ لم يعن انتهاء "دور الرجل الأبيض" انتهاء أو موت الحضارة الأوربية. مع أن هناك من هو أكفئ منه وأعمق بما لا يقاس في هذا المجال من بين الأوربيين الذين قالوا بأفول الحضارة الأوربية. وهي رؤية لا علاقة لها بفكرة موت الحضارة الأوربية كما هي، بقدر ما أنها تعكس الفكرة المنهجية عن القيم الذاتية للحضارات وتكافؤ قيمتها التاريخية الثقافية. وان لكل منها تاريخه الخاص وخصائص ولادته وحياته وموته. وهذا ينطبق على الجميع دون استثناء. وبالتالي، فهي رؤية تعكس احد نماذج المواقف النقدية المتراكمة في فلسفة التاريخ والثقافة. ومن ثم لا يرتقي أيا منها، مهما كان نصيبها من التدليل والبرهنة، إلى مصاف الحقيقة المطلقة أو اليقين التام. وهو الاختلاف الذي يميز الفكرة العلمية والتاريخية الثقافية عن الفكرة الدينية بشكل عام والسلفية المتشدد بشكل خاص، التي تعتاش على فتات الثقافة العلمية وتزدريها. فالصورة التي يقدمها سيد قطب عن فضائح الحضارة الأوربية هي من حيث جانبها "النقدي" نتاج التأثر السطحي بالنقد التاريخي والثقافي الأوربي نفسه بشكل عام وصيغه الانجلوسكسونية بشكل خاص. كما أن الصورة التي يرسمها سيد قطب عن معالم انحطاط واحتضار الحضارة الغربية تنطبق على "العالم الاسلامي" أولا وقبل كل شي. فالإمراض التي يشير إليها هي الأوسع انتشارا في العالم الاسلامي الآن. وعلى العكس من ذلك تشكل قوة النموذج الغربي قوة في كل شي. كما أنها حضارته متكاملة بذاتها وأصيلة وعظيمة، لكنها لا تخل من خلل هو جزء من مراحل الانتقال الثقافي الملازم لتاريخ التطور الثقافي للأمم وليس بسبب غربيتها. لكنها تستجيب لما يدعوه سيد قطب "بالتصور الاعتقادي" السلفي المتشدد الذي ينظر إلى أن كل أمراض ومظاهر احتضار الحضارة الغربية هو بسبب "تصورها الاعتقادي" الكامن في مذاهبها ومناهجها ونظمها وأوضاعها الحياتية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة