الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البديل الحضاري عند سيد قطب(2)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2017 / 9 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



التصور الاعتقادي
إن "التصور الاعتقادي" الذي يقدمه سيد قطب بصدد الموقف من البديل الحضاري يوحي كما لو انه لم يبق على قيد الوجود من حيث الطاقة والبدائل غير سيد قطب وأتباعه! والأغرب ما فيه انه يتخذ صيغة اليقين الجازم. بمعنى انه يصل إلى نتيجة تأملية صرف بلاغية بصورة تامة عن أن الحضارة الغربية عاجزة عن القيام بمهمات جعل الإنسان إنسانا! بل على العكس، أنها تهوي به إلى مصاف البهيمة وتسلبه كل "خصائصه الإنسانية". والسبب الرئيسي وراء كل ذلك هو عدم إدراكها بان الإنسان بذاته "عاجز عن وضع نظام شامل مضبوط صالح مصلح لحياته". ومن ثم فان أي نظام يضعه الإنسان بذاته لذاته لابد و"أن يعرّض الإنسان نفسه وحياته للعطب والدمار".
وقد وضع سيد قطب هذه المقدمة الدينية المتزمتة الصرف والمقلوبة والمعارضة لتيار الوجود الطبيعي للإنسان وتاريخه الإنساني، بما في ذلك الديني، في صلب "تصوره الاعتقادي" عن البديل الحضاري الاسلامي. ليس التصور الاعتقادي الديني سوى احد التصورات الإنسانية، أي البشرية في تعاملها مع إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي. إذ ليس "الإلهي" سوى البشري بعد أن يتطاير في سماء الأوهام الجليلة ووحيها التاريخي، كما هو جلي في تنوعها واختلافها وصراعها الدموي أيضا، قديما وحاضرا، ما لم يجر تذليل البنية التقليدية للأديان تذليلا نهائيا عبر تحريرها من ثقل أولوية وجوهرية النص والمقدسات الوهمية.
فالتصور الاعتقادي عن البديل الحضاري الاسلامي عند سيد قطب هو احد النماذج الكلاسيكية للنمط السلفي التقليدي المتزمت في تعامله مع هذه القضية. ومن ثم يعكس النموذج الأولي والبدائي عن التاريخ والوعي الثقافي والبدائل الإنسانية. فهو يسحق الأخيرة سحقا تاما ويجعل من "خصائص" رؤيته للإنسان "خصائص إنسانية" مطلقة. بعبارة أخرى، إن الصفة الملازمة للوعي الديني المتشدد، الذي يستغني بتجربته الخاصة عن كل تجارب الأمم والتاريخ، ويرفعها إلى مصاف المطلق والمقدس، لا يدرك الحقيقة البسيطة القائلة، بان ما يدافع عنه هي مجرد تجربة ماضية، وان اندثارها هو مجرد حالة طبيعية لازمت وجودها التاريخي واستنفذت طاقتها وقوتها، بوصفها مرحلة من مراحل التطور الثقافي. وان "البديل الإلهي" هو بديل بشري لا غير محكوم بنفسية وذهنية الأحكام الجاهزة والنصوص المقدسة، أي المتحجرة والمحاصرة للعقل الإنساني وطاقته الحية في التعامل مع الوجود والتاريخ بوصفه وعيا ذاتيا. من هنا رفضه لكل الأيديولوجيات بوصفها "أفكار جزئية سطحية، وكلها محاولات مصطنعة لا جذور لها في الفطرة البشرية". أما البديل لكل هذه "الأيديولوجيات" فهو "التصور الاسلامي"، أي أيديولوجية سيد قطب. فحين نتلفت من حولنا في الماضي والحاضر والمستقبل، كما يقول سيد قطب، "لا نجد الحل المقترح لتجنيب البشرية ذلك الدمار إلا في التصور الإسلامي، والمنهج الإسلامي، والحياة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي". الأمر الذي يجعل من "قيام المجتمع الإسلامي ضرورة إنسانية، وحتمية فطرية".
فالبديل الاسلامي بهذا الصدد يقوم في تقديمه تصورا اعتقادي خاصا لا مثيل له في موقفه من النظرة إلى الإنسان وحقيقة فطرته واستعداداته، والنظرة إلى المرأة وعلاقة الجنسين، ومسألة النظم الاقتصادية والاجتماعية. ففي الموقف من الإنسان وفطرته واستعداداته، يقوم التصور الاسلامي في أن الإنسان كائن فذ وشديد التعقيد في هذا الكون، وله خصائص، الأمر الذي يقتضي وجود منهج للحياة الإنسانية يرعى تلك الاعتبارات كلها. وان هذا "المنهج الوحيد الذي راعى هذه الاعتبارات كلها" هو المنهج الاسلامي، الذي "يحقق غاية وجوده ويحقق التوازن في أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعيته كذلك". فكل ما كان قبله وبعده هو مجرد محاولات منحرفة عن جادة الصواب. ففي الأساطير الإغريقية كان الإنسان نداً للآلهة، ينازعها السلطة والمعرفة. فلما جاء العهد الروماني، باعتباره "الأساس الحقيقي للحضارة الأوروبية القائمة" بهت ظل الآلهة وبقى الإنسان يعبد ذاته وشهواته. ولما سيطرت النصرانية، كما تصورتها الكنيسة، على الدولة الرومانية، وسم الإنسان بالخطيئة ونكس رأسه بالذل. إذ اعتبرت ميوله الفطرية رجساً ودنساً، وعلاقاته الجنسية قذراً ووسخاً، وشعوره بذاته إثماً وخطيئة.. ولما وقع رد الفعل، وثارت أوروبا على الكنيسة، وعلى التصورات الكنيسة، وعلى المفهومات الدينية كلها بالإجمال، وجدت مع الثورة نظرة جديدة للإنسان. وبالذات إلى العقل في الإنسان. وأصبح هذا العقل إلهاً في عصر التنوير. ثم انتهى عصر التنوير في القرن التاسع عشر بضربة قاصمة لهذا العقل وللإنسان معه. إذ جاءت الفلسفة الوضعية تعلن أن المادة هي الإله. فتضاءل العقل، وتضاءل معه الإنسان. ثم جاء داروين بحيوانية الإنسان. ثم تمت الضربة القاضية على يد فرويد من جانب، وكارل ماركس من الجانب الآخر. والنتيجة هي "أن أوروبا ظلت تتراوح بين الإفراط والتفريط، بين الكبت والتهور". وظلت هذه الموجة العاتية، كما يقول سيد قطب، في مدها حتى اللحظة الحاضرة عبر انتشارها إلى أمريكا ثم العالم ككل، بوصفها عاصفة مدمرة.
أما المرأة وعلاقات الجنسين، فان التخبط في النظر إليهما "لا يتسق مع فطرة ولا خلق". والشيء نفسه ينطبق على النظم الاجتماعية والاقتصادية. إذ كما وقع التخبط والتطرف والهزات العنيفة وعدم اعتدال الميزان في الوسط العادل المتناسق، كما وقع في النظرة إلى الإنسان وفطرته واستعداداته. أما النتيجة التي توصل إليها سيد قطب بعد هذه الرؤية البلاغية المجردة، أي المعزولة عن إدراك حقيقة التطور التاريخي والانقلاب الهائل في المسار الإنساني الذي ذلل بصورة أولية مركزية الإلهة بمركزية الإنسان والطبيعة، ومن ثم الارتقاء عبرها إلى وعي الذات الإنساني، فانه يجد فيه مجرد مسار إلى "هاوية الدمار الأكيد". وذلك لانها حضارة صناعية محكوم عليها بالإعدام، بوصفه نتاج طبيعيا لما فيها. وذلك لانها حضارة "لا تعلم حقيقة الخير والشر" كما لا تعرف ما تؤل إليه الأمور.
ويضع سيد قطب هذه النتيجة اللغوية الخالصة في رغبته الحالمة عما يمكن دعوته ببصيص الأمل القائم فيما اسماه سيد قطب بالإذن الإلهي في تسليم "القيادة بيد غير تلك اليد الرعناء المجنونة الشاردة المحمومة".
إن هذه الأحكام الساذجة عن مسار التاريخ الفعلي وتعقيداته الهائلة في العالم المعاصر والمستقبل تنطلق من تضافر الأحكام النفسية البسيطة المميزة للبنية التقليدية المتحجرة وتقاليد الرؤية الدينية اللاهوتية التي تعتقد بان من الممكن تغيير العالم بالوعظ والإرشاد، وليس بالعمل التاريخي لتأسيس مرجعيات كاملة ومنظومات حية ودينامكية علمية وعملية عصرية في مختلف نواحي الحياة. بعبارة أخرى، إن البدائل بالنسبة لسيد قطب هي مجرد تصنيف وترتيب الآيات والأحاديث (النصوص الميتة)، باعتبارها أسس الوجود الحق. ومن هذه المقدمات يمكن فهم الأسباب والمحددات القائم وراء وضع سيد قطب هذه الرغبات المميزة لأحلام الأطفال وخرافة العجائز فيما اسماه بكيفية الخلاص، أي البديل الاسلامي الشامل.
ففي الموقف من الإنسان يستلزم ذلك الابتداء "من نقطة تصحيح مركز الإنسان في هذا الوجود"، بأنه ليس إلها وليس حيوانا. عندها ستتلاشى كافة المشاكل التي تنتج بأثر الصناعة والحضارة الصناعية. لاسيما وأنها كانت نتاج التأثر بنظرة الإسلام إلى الكون والحياة والإنسان ودور الإنسان في هذه الأرض. ومن ثم ستتلاشى أيضا مختلف المشاكل الناتجة عن هذه الحضارة الصناعية ورؤيتها المادية المتراكمة في نظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فهو يعتقد بان الاستمتاع المعاصر لها من جانب الحضارة يقوم في تحويل ثمارها إلى استمتاع حيواني! بينما المهمة تقوم في أن يجري الاستمتاع بها بطريقة إنسانية، أي على الطريقة الإسلامية! وهي طريقة مجهولة الهوية ومنافية لمعنى العلم والتصنيع والتكنولوجيا. إضافة لذلك أن هذه الأحكام التأملية الصرف ليس بالإمكان بلوغها وتنفيذها، وذلك لانها لا تعدو كونها مجرد رغبات باطلة وغبية ومحكومة بنفسية التعالي المميزة للتسكع العقلي والعلمي والعملي.
إن النقد الجدي والواقعي والحقيقي هو نقد الواقع، أي البدائل العملية الفعلية. وهذه بدورها عملية تاريخية معقدة وليست معزولة في العالم المعاصر عن مختلف المتغيرات البنيوية الكبرى على النطاق العالمي. كما أنها محكومة بالضرورة بمسار العلوم الطبيعية واكتشافاتها والتكنولوجيا وتطبيقاتها، وليس بولع اللاهوت الديني الغائر في ثنايا القيل والقال والرغبات السقيمة. إن الفكرة المنهجية النوعية التي يدخلها سيد قطب من اجل تغيير منحى ومعنى "الحضارة الصناعية" الغربية هي مجرد "الاستمتاع بطيباتها في حدود منهج الله، مع التوجه لله بالعبادة والشكر والاعتراف على ما سخره للإنسان من طاقات في نفسه ومن مدخرات في هذه الأرض". فهي "الفكرة النوعية الكبرى" التي تجعل من منهجه "الرباني" منهجا "يرفض أن يستمتع الإنسان بخيرات الأرض ونتناج الحضارة كما يستمتع الحيوان".
باختصار إن البديل الحضاري الاسلامي الذي يقدمه سيد قطب لا يتعدى من حيث الجوهر أكثر من عبارات بلاغية وشعارات جوفاء عادة ما تميز العقل الكسول والروح المطمئنة إلى التلذذ بجنة على الأرض أو ما بعد الموت ولكن دون البلاء بدروب الحرية والإبداع الحر، بل عبر تمجيد الرب الغفور! ووضع هذه "الفكرة" و"المنهج" فيما اسماه "بطريق الخلاص"، كما لو أن العالم الأكثر رقيا وتقدما وتطورا وإنسانية (بمعايير تجاربه الذاتية) يسير نحو الهاوية والموت، بينما من يعيش على فتات "الحضارة الصناعية" ويستمتع بها بعد إضافة عبارات "الشكر لله بالعبادة والاعتراف على ما سخره للإنسان" هو حامل البديل الفعلي.
يدرك سيد قطب، بان هذا الكلام الفارغ لا يغني شيئا. ويعترف بان من الضروري للإنسان ويقينه أن يرى نموذجا عمليا مجسدا. لكننا لا نعثر عنده على شيء باستثناء عبارات عامة وفارغة مثل أن "المجتمع الإسلامي هو طريق الخلاص الوحيد للبشرية المهددة بالدمار والبوار"، و"إنه الاستجابة الوحيدة لنداء الفطرة في ساعة العسرة"، و"إن حتمية قيام هذا المجتمع بوصفه ضرورة إنسانية لإنقاذ الإنسانية، وبوصفه الترجمة العملية للمنهج الإلهي الذي لابد غالب". لكن هذه "الحتمية ليس معناها أن الطريق إليه نزهة مريحة". انطلاقا من أن "حتمية الميلاد لا تغنى من آلام المخاض". ويضع سيد قطب هذا الاكتشاف المثير للعقل الوجدان فيما اسماه بان "الطريق إلى المجتمع الإسلامي طويل وشاق وملئ بالأشواك". وبالتالي، فان المهمة تقوم من اجل بلوغه هو يقوم المسلم برفع تصوراته وأفكاره وخلاقه وسلوكه، وبالتالي واقعه الحضاري المادي إلى مستوى الإسلام.
إن هذه الأحكام والتصورات الخيالية والساذجة عما يسمى بنقل الوجود إلى مستوى الفكرة المثلى، أي بالضد من منطق الحق والحقيقة والأشياء والتاريخ الفعلي، الذي يستلزم ظهور وتراكم وتهذب الأفكار والقيم والمرجعيات في مجرى الوحدة النموذجية للعلم والعمل، لا تعني بالنسبة لسيد قطب سوى رفع كل شيء في الوجود الاسلامي إلى مستوى تصوره الخاص عن الإسلام. من هنا الاستدارة "الحضارية" صوب فكرة الحاكمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير