الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلت المناضلة حمدية مصطفى احمد ...ولكن

شه مال عادل سليم

2017 / 9 / 15
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


هكذا كانت حياتي بكل اختصار، والدتي حملتني في بطنها وأنجبتني بشوقٍ وانتظارٍ طويلين في ضروف سياسة بالغة الصعوبة , منذ نعومة اظفاري عشت طفولة قاسية لم اعشها كباقي الاطفال , فتحت عيني في مقرات الحزب الشيوعي العراقي في جبال كردستان و تأقلمت مع ظروف العيش الصعبة والمليئة بالمخاطر, تحملت الجوع وزمهرير الشتاء , تعودت على سماع اصوات الانفجارات وقصف المدافع والطيران , كان بيتنا الصيفي عبارة عن خيمة رملية اللون , صغيرة وخفيفه الحمل وسهله البناء والفك , اما بيتنا الشتوي كان عبارة عن غرفة طينية صغيرة نافذتها فتحة مربعة ومغلفة بالنايلون الابيض الشفاف , اما باب الغرفة فكان عبارة عن بطانية ,اروع ما فيها الوانها المتاكلة وثقوبها الدائرية الصغيرة التي اخترقتها شظايا الصواريخ والتي كانت تتسلل منها خيوط الشمس الذهبية التواقة لاختراق الفضاءات السوداء مع اطلالة قرص الشمس الذهبي التي كانت تشرق خلف جبال ( هندرين , كاروخ ,رووه له , سه رى باله كى و و کيله شاخ) ، المحيطة بقرية ( ده ركلة ) لتضيء زوايا غرفتنا المعتمة معلنة غروب عتمة الافق الطبيعي واشراقة يوم جديد .
, انتصبت في وسط غرفتنا مدفأة تعمل بالخشب، مصنوعة من برميل نحاسي صغير يخرج انبوبها الطويل من سقف الغرفة ليخرج منها دخان حطب البلوط المشتعل كانها قطار يتجه نحو قمم جبل كاروخ الشاهقة , كانت والدتي تضع امام المدفئة وفي مكان خصصته لاحضار شاي قوري قديم كانت تشبه بـ( فرخ البط الاسود ) مُعَد خصيصا للضيوف الذين كانوا يحلون على بيتنا بعد العشاء ليتلذذوا باقداح من الشاي الحارليمدهم بقليل من الدفء وهم يسردون لنا قصصاً قريبةً من الخيال ببراءة طفولية عجيبة ليتركوا مشاعرهم واحلامهم الشابة تتنقل من غرفة الى أخرى بهيئة اساطير ولوحات وقصص قريبة من الخيال .
في هذه الغرفة الصغيرة بحجمها وكبيرة بتواضعها وقفت لاول مرة على قدمي في سن( 10 )أشهر تقريبا وبمساعدة خالتي ( حمدية ـ ام بيشره و )* التي كانت تحملني بين يديها وتسندني على كتفيها وخطوت أولى خطواتي متشبثًا بكفيها وكف زوجها الرفيق ( كريم احمد ).
لا يُخفى أبدًا فهي التي علمتني المشي خطوة خطوة في هذه الغرفة الطينية الواقعة في اخضان قرية ( ده ركلة ) , كانت ( ام بيشره و ) تهتم بي كثيراً وتلعب معي وكانت تلبي كل طلباتي , وعليه تعلقت بها بشدة , كانت تمسك يدي وتمشيني في البساتين وبين غرف البيشمركة المليئة بالقصص والبطولات , وهي التي كانت تطعمني وترجعني الى والدتي بعد يوم طويل وشاق ومليئ بالاحداث التي لم اكن استوعبها اصلا ( ولم افهم لماذا كانت الطائرات غاضبة منا وتقصفنا بين حين واخر بـ( قنابل النابالم والصواريخ الحارقة ) ؟
نعم خالتي ( ام بيشره و ) هي التي علمتنا نحن الاطفال (البيشمركة ) عند سماع صوت تحليق الطيران الحربي ان نركض باتجاه المخابيء ( كونه ته ياره ) , هي التي كانت تاخذنا لمشاهدة سباقات الخيل المثيرة واستعراضات والعاب شباب قرية ( ده ركله ) الشعبية والى الاحتفالات ومراسيم الاعياد الوطنية منها ( عيد نوروز ) , هي التي كانت تقرأ علينا في ليالي الشتاء الطويلة وبصوت مسموع اجمل القصص الكردية الفولكلورية , فكنت انتشي عند سماع هذه القصص وافكر بها طويلا وانا راقد بجانب المدفئة التي كانت حبلى بجمراغصان البلوط , وفي النهار كنت اتقمص شخصيات ابطال القصص واصنع من اغصان الاشجار سيوفأ ورماحا وكنت اتجول في الوديان والبساتين القريبة من المقر والمدرسة الحزبية بصحبة اطفال القرية متحدين الاشرار والغيلان الملثمة.
نعم , هي التي علمتنا ( اناشيد ومحفوطات وطنية وزرعت في قلوبنا حب الانسان والانسانية ) , هي التي كانت ترافق والدتي في جولاتها في القرى القريبة من بيتنا منها قرية ( سه ران , ره ژووكه ريان ، ماويليان ) حيث كانتا تساعدن اهالي القرى وتقدمن لهم المشورة والنصائح وطرق الوقاية من الامراض التي كانت منتشرة انذاك , بالاضافة الى مهماتهن الكثيرة والمتعددة في مواقعهم الانصارية , فكانت والدتي ( ام شوان ) تقدم الارشادات الصحية لاهالي القرى ( حيث عملت لسنوات طويلة في مدينة اربيل كمشرفة صحية ومسؤولة التغذية في المدارس ), وعليه وبفترة قياسية قصيرة ذاع صيتهن بين اهالي القرى واصبحن محل التقدير والفخر والاعتزاز .
رفيقتي ومربيتي الغالية ام بيشره و :
رحيلكِ ايقظ ذكريات سنوات الطفولة , ذكريات الجبل والجمر والنضال من اجل وطن حر وشعب سعيد , رحلتِ , ولكن تركتِ في قلوبنا ذكريات ومواقف وبطولات لاتمحى ابدا ...
رحلتِ وتركتِ جبالا من الذكريات وسط ضوء فانوس خيمتنا السرمدي والتي كنا نعشقه كالفراشة حتى الاحتراق والذي كان مصدر النور الوحيد في ظلام ليالي النضال البارتيزانية القاسية ومصدر الهام روّاد القصص الطفولية في احضان الجبال الشاهقة والمليئة بالاحلام المؤجلة .
في هذه الليلة المليئة والمزدحمة بالذكريات تصفحت البوم صوري وحملت الفانوس الانصاري وبدات اتنقل من وادي لوادي ,من جبل لجبل , من قرية لقرية , من كهف لكهف , دون همٍّ او تعب , عسى ان التقي بكِ وبرفيقات دربكِ ( فتحية محمد ـ ام شوان , عائشة كلوكة , خوشكة فريشتة)(1 ) عسى ان التقي بكن في خيمة انصارية او في كهف (جمکان او رووته له او باسان )(2 ) او عند احد الينابيع الصافية في وادي ( سماقولي )(3 ) او في احد البيوت الحزبية في بغداد او كركوك اوالسليمانية اوالموصل اوبعشيقة , تلك البيوت التي كانت تنطلق منها شرارة الانتفاضات المسلحة والمظاهرات والاعتصامات الشعبية من اجل ( وطن حر وشعب سعيد ) .
نعم , رحيلكِ ايقظ سرب من الذكريات والاحداث والقصص البطولة بحلاوتها وما كان فيها من الصعوبات التي لا يصدقها الا من عاشها , رحيلكِ عاد بي الى خيمتنا (في ده ركلة ) ,
رحيلكِ ايقظ طفولتي بحلوها و مُرِّها . والهب في قلبي الشوق والحنين للقاء بكِ وبرفيقات دربكِ البطلات لنستمع معا من جديد اغنيتكِ المفضلة لفيروز ( يا جبل البعيد ) .
ارقدي بسلام ايتها المناضلة , وعهدا بالوفاء .
ـــــــــــــــــــــــــــ
*حمدية مصطفى احمد , معروفة بـ( ام سليم او ام بيشره و ) , مواليد 1934 , وهي زوجة الرفيق ( كريم احمد )عضوقيادي في الحزب الشيوعي العراقي وسكرتير الحزب الشيوعي الكردستاني سابق وام الشهيد ( بوتان ) .
1 ـ مناضلات ونصيرات الحزب الشيوعي العراقي ورفيقات النضال الداخلي ورابطيات من الرعيل الاول .
2 ـ كهوف قريبة من قرية ( دركلة )
3 ـ وادي سماقولي كان مركزا لمقرات البيشمركة منذ الستينات .














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - النهايه السعيده
Almousawi A.S ( 2017 / 9 / 15 - 12:59 )
لا استطيع الا ان اقول
ما احلى واعذب وصفك للانسان والمكان
انها حقا حلاوة الحياه وجمالها في النهايه السعيده
الذكر الابدي لكل الصادقين في رساله الحياه وغايتها النبيله
احسنت يا شه مال عادل سليم


2 - Almousawi A.S
شه مال عادل سليم ( 2017 / 9 / 15 - 17:07 )
اشكركم جزيل الشكر , هذه الكلمات المتواضعة هي نقطة في بحر نضال مناضلات ومناضلين قدموا حياتهم وحيوات عوائلهم في سبيل العدالة والحرية ـ ممتن لكم

اخر الافلام

.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح


.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز