الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المادية التاريخية وعلم المجتمع

خليل اندراوس

2017 / 9 / 16
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



** قضية تاريخية
كل اكتشاف ثوري في التاريخ لم يتحقق الا حين نضجت الظروف له وقامت الحاجة اليه، وهكذا لم تتحقق الاكتشافات العظمى للعلم الطبيعي الحديث الا حين خلق تطور اسلوب الانتاج شروطها والحاجة اليها. والأمر نفسه صحيح بالنسبة الى اكتشافات ماركس الاجتماعية، والثورة الاجتماعية في المستقبل لا يمكن ان تحدث الا بعد ان يخلق تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج شروطها والحاجة اليها.


تعرف النظرية العامة عن القوى المحركة للتغيير الاجتماعي وقوانينه التي وضعت على اساس اكتشافات ماركس – باسم المفهوم المادي عن التاريخ، وقد تم التوصل الى هذا المفهوم بتطبيق النظرة المادية الى العالم على حل المشكلات الاجتماعية، ولأن ماركس قام بهذا التطبيق فان المادية معه لم تعد مجرد نظرية تستهدف تفسير العالم وانما مرشدا لممارسة تغيير العالم، وبناء مجتمع ليس فيه استغلال انسان لإنسان.
وللمادية التاريخية في المقام الاول دلالة معاصرة، فهي قابلة للتطبيق، وهي تؤدي الى استخلاصات لا عن اسباب أحداث الماضي فحسب بل كذلك عن اسباب الأحداث التي تقع الآن، وبالتالي عما ينبغي عمله وعن السياسة التي ينبغي النضال من اجلها لكي تلبي الحاجات الحقيقية للشعب، لذلك نستطيع ان نقول بأن موضوع المادية التاريخية هو دراسة المجتمع وقوانين تطوره. وهذه القوانين موضوعية، أي مستقلة عن وعي الانسان تماما كقوانين تطور الطبيعة، ومثلها مثل قوانين الطبيعة يمكن معرفتها ويستخدمها الانسان في نشاطه العملي. والى جانب هذه السمات المشتركة توجد هناك فروق جوهرية بين قوانين الحياة الاجتماعية وقوانين الطبيعة، وتعكس قوانين الطبيعة فعل قوى عفوية عمياء، بينما تظهر قوانين التطور الاجتماعي دائما من خلال افعال الناس ككائنات واعية تضع لنفسها اهدافا معينة وتعمل على تحقيقها.
ولكن علينا ان نؤكد بأن قوانين الحياة الاجتماعية لا تُدرس من جانب المادية التاريخية وحدها، بل كذلك من جانب العلوم الاجتماعية الاخرى، الاقتصاد السياسي، التاريخ، علم الجمال، علم التربية الخ.. لكن جميع هذه العلوم تدرس مجموعة معينة فقط من الظواهر الاجتماعية وتتناول المجتمع من احد جوانبه فقط، دون ان تعطي فكرة عن عملية التطور الاجتماعي ككل. على سبيل المثال، يدرس الاقتصاد السياسي العلاقات الاقتصادية او الانتاجية بين الناس ويهتم التاريخ بتطور المجتمع في مختلف العصور ومختلف البلدان، ويقتصر علم الجمال على مجال الفنون وهكذا.
وخلافا لعلوم المجتمع المحددة تدرس المادية التاريخية أعم قوانين التطور الاجتماعي، وبحكم كونها جزءا لا يتجزأ من النظرة الماركسية – اللينينية الى العالم تقدم المادية التاريخية تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية، وهي تعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، وأهمية الانتاج المادي في حياة الناس وأصل ودور الافكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها. وتساعدنا المادية التاريخية في فهم دور الشعوب والأفراد في التاريخ، وكيف نشأت الطبقات وكيف ظهر كل من الصراع الطبقي والدولة ولماذا تحدث الثورات الاجتماعية وما هي أهميتها بالنسبة للعملية التاريخية وعدد آخر من المسائل العامة لتطور المجتمع.
فماركس وإنجلز لأول مرة في كتاب "الايديولوجية الالمانية" صاغا النظرية المتكاملة ومتعددة الجوانب لأول اكتشاف عظيم لماركس وإنجلز وهو الفهم المادي للتاريخ. وبذلك قدما الأساس التاريخي الأول وهو الاساس الفلسفي لنظرية الشيوعية العلمية.
وفي صلب هذا الانجاز ايضاح الطبيعة الديالكتيكية للقوى المنتجة وللعلاقات الانتاجية، ذلك الاكتشاف الذي ساعد على صياغة الفهم المادي للتاريخ كنظرية متكاملة، وكانت نتيجة هذا الكشف هي الايضاح النهائي لبناء المجتمع الانساني العام (القوى المنتجة – العلاقات الانتاجية – البناء الفوقي السياسي – اشكال الوعي الاجتماعي)، وكذلك ايضاح القوانين العامة لتطوره التاريخي (بداية نظرية النظم الاجتماعية) اضافة الى الاستنتاج عن حتمية الثورة البروليتارية الشيوعية كنتيجة لتطور التناقضات بين القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية في المجتمع البرجوازي. إن الفهم المادي للتاريخ اصبح اساسا منهاجيا وسندا نظريا لأبحاث ماركس في مجال الاقتصاد السياسي، تلك الابحاث التي قادته الى اكتشافه العظيم وهو اكتشاف القيمة الزائدة ووضع نظرية القيمة الزائدة. ان تعرية أسرار الاستغلال الرأسمالي عن طريق هذا الاكتشاف الجديد كانت بمثابة البرهان الاقتصادي النهائي والثاني من الناحية التاريخية لنظرية الشيوعية العلمية. وهكذا بفضل اكتشافي ماركس العظيمين (المادية التاريخية الجدلية والقيمة الزائدة) تحولت الاشتراكية من طوباوية الى علمية.
إن واحدا من أهم الفوارق العميقة للنظرية الجديدة التي وضعها ماركس وإنجلز، قد صيغ بشكل كلاسيكي في موضوعة ماركس الأخيرة عن فورباخ! "ان الفلاسفة لم يفعلوا غير ان فسروا العالم بأشكال مختلفة، ولكن المهمة تتقوم في تغييره".
(ماركس "موضوعات عن فورباخ" في ماركس وإنجلز ومختارات في اربعة اجزاء، الجزء الأول – دار التقدم موسكو 1968 ص 40 الطبعة العربية). فماركس وإنجلز أكدا بأن تغيير الوعي من دون تغيير العالم ذاته، يعني الاعتراف بالموجود، وذلك بمنحه فقط شرحا آخر وتفسيرا آخر، وتأويلا آخر. من اجل تحرير الناس لا يكفي تغيير وعيهم، بل من الضروري تغيير الواقع الاجتماعي الموجود.
وهذه هي العلاقة الجدلية بين الوعي والوجود، فالثورات الاجتماعية تعود الى فعل القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي. "وفي النشاط الثوري يجري تبدل الذات نفسها في آن واحد مع تحول الظروف" (ماركس – موضوعات عن فورباخ).
عثر العاملون في المعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي عام 1962 في امستردام على ثلاث صفحات غير المعروفة من قبل، من مخطوطة "الايديولوجية الالمانية" وتم نشرها لأول مرة ومن بينها، الورقة الاولى من مخطوطة ماركس وإنجلز، حيث قام مؤلفا "الايديولوجية الالمانية" في بداية بحثهما بمعارضة الخيالية المثالية المسكن والملبس لأنفسهم. و"التحرير" قضية تاريخية وليست قضية فكرية، والعلاقات التاريخية هي التي تقود اليه".
والشروط المادية لعملية التحرير أي إحداث الثورة الاجتماعية هما شرطان اساسيان، الاول الدرجة العالية لتطور القوى المنتجة، ويرتبط معها بالضرورة. الشرط الثاني – تجمع البروليتاريا وتكوين الطبقة الثورية، فبدون هاتين المقدمتين الماديتين تكون الثورة الاجتماعية مستحيلة.
وفي النهاية كل اكتشاف ثوري في التاريخ لم يتحقق الا حين نضجت الظروف له وقامت الحاجة اليه، وهكذا لم تتحقق الاكتشافات العظمى للعلم الطبيعي الحديث الا حين خلق تطور اسلوب الانتاج شروطها والحاجة اليها. والأمر نفسه صحيح بالنسبة الى اكتشافات ماركس الاجتماعية، والثورة الاجتماعية في المستقبل لا يمكن ان تحدث الا بعد ان يخلق تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج شروطها والحاجة اليها.
فضرورة الثورات الاجتماعية تعود الى فعل القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعية، ولكن علينا ان نؤكد بأن نضج العامل الذاتي هو الشرط الرئيسي لتحقيق امكانيات الحالة الثورية، ثم ان وحدة الحالة الثورية والعامل الذاتي الناضج هي المقدمة الشاملة والضرورية للقيام بالثورة الاجتماعية، وتشكل وحدة الظروف الموضوعية والعامل الذاتي، عند لينين القانون الأساسي لأي ثورة اجتماعية. (انظر لينين المؤلفات الكاملة المجلد اع – ص 77-79)، وحينها كما يتنبأ إنجلز بأن الانسان سيسيطر في المستقبل ليس على قوى الطبيعة وحدها بل على قواه الاجتماعية ايضا ويصوغ هذا الاستنتاج في أهم موضوعة ماركسية عن المستقبل: "يبدأ الناس ابداع تاريخهم بأنفسهم بكل وعي".




**المراجع:
ماركس إنجلز – مختارات. أسس المعارف الفلسفية – أفانا سييف
ملامح المستقبل – بغاتوريا
مدخل الى المادية الجدلية – موريس كورنفورت
مبادئ ما هي الثورة – ياكوفليفا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ