الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مثلثُ التفوق والإنسانية

فاطمة ناعوت

2017 / 9 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مثلثُ التفوق والإنسانية

جلسنا نتابعُ ما يجري للمُستضعفين في ميانمار من ويل وتقتيل وتهجير قسري، والقلبُ ينزف. ثم تضاعف نزيفُ القلب حين صفعتني تعليقاتٌ طائفية لبعض المتصفحين في مواقع التواصل الاجتماعي! هل تُطلُّ الطائفيةُ بوجهها القبيح، حتى في لحظات الحزن على الأرواح المُزهَقة والأسر المُشرّدة والأطفال المرتعبين؟! هل نسألُ عن عقيدة المقتول أو المُغتصب أو المُهجّر، حتى "نُقرّر" إن كنّا سنتعاطفُ معه أو نحزن لأجله، أم لا؟! لستُ أصدّق!
الطائفيةُ مرضٌ خطير. لم أرها يومًا منهجًا في التفكير. إنما هي مرضٌ قاتل، لا يدمّر الآخرين، إنما يدمّر صاحبَه، أولًا. والحمد لله الذي عافانا من ذلك المرض. وأنا أتابع بعض التعليقات الطائفية على صفحتي الرسمية، لا أدري لماذا تذكّرتُ ابني "مازن" وهو بعدُ طالبٌ في الصف الثالث من كلية الهندسة قسم العمارة، حينما كان جالسًا يفكّر في تصميم مميز لقاعة المؤتمرات التي طلبها منهم أستاذهم بالكلية. رسم أربعة قاعات متصلة، منفصلة. قاعة على شكل قلب كبير، تجاورها ثلاثُ قاعات أصغر، كلٌّ منها على هيئة مخٍّ بشري. ثم كتب فلسفة التصميم كالتالي: "مثلث التفوّق: المعرفة- العقل- القلب. فالمعرفةُ لا تأتي إلا إذا استخدمنا ‘العقلَ’ لنتعلّم، و‘القلبَ’ لنحبَّ." تلاقت عيناي بعيني والده، المهندس المعماري أيضًا، وابتسمنا. لقد تعلّم ابنُنا الدرسَ الطيب الذي غرسناه فيه منذ طفولته: "إن امتلأ قلبُ الإنسان وعقلُه بحبِّ الله، ما عاد بقلبه، ولا عقله، متسعٌ لكراهية أحد.” الإنسانية هي الحل لجميع مشاكل الإنسان. أدرك الصبيُّ الجميلُ أن العقلَ (وحدَه)، قد يشيّدُ مجتمعًا عالِمًا مثقفًا متطوّرًا، لكنه جافٌّ، قاسٍ، أجوفُ الروح. وأن القلبَ (وحدَه)، قد يمنحنا مجتمعًا طيبًا متعاطفًا رحومًا، لكنه في الأخير مجتمعٌ رخوٌ لا قوامَ صلبًا له، ولا قانونَ عادلاً يحكمه. العقلُ يضبط ميزانَ القلب؛ فيجعله لا ينحازُ للأقرب، بل للأكفأ. والقلبُ يضبطُ ميزانَ الميل والهوى، فيدفعنا لأن يكون ولاؤنا وانتماؤنا للإنسانية بكاملها؛ دون عنصرية ولا تحيّز. في هذا يقول "هنري برجسون، في كتاب "التطوّر الخلاّق": "الإنسانُ العادي ميالٌ بطبيعته إلى موافقة الجماعة التي ينتمي إليها. أما العبقريّ الفائق، فيشعر أنه ينتمي إلى البشرية جمعاء، ولذا فهو يخترق حدودَ الجماعة التي نشأ فيها، ويخاطب الإنسانيةَ كلها بلغة الحبّ."
“المسلمون يُقتلون في بورما!” هكذا يقولُ صغارُ العقول ضيقو الأفئدة. أما نحن فنقول: "بشرٌ يُقتلون في بورما!" فلسنا مرضى بما مرضوا لنُصنّف البشرَ؛ ونوزع أحزاننا على القتلى وفق عقائدهم وطوائفهم. ذلك شأن الصغار ومرضى "الميجالومانيا"، ممن يجعلون من أنفسهم الصغيرة ديّانين مع الله، حاشاه! فالحمد لله تعالى الذي عافانا مما ابتلوا به أنفسَهم من جنون ومرض. أما المرضُ فهو: تقسيمُ البشر على أساسٍ عَقَدي وطائفي ومذهبيّ. وأما الضمير (هُم) في كلمة (أنفسهم)، فيعود على الطائفيين المتطرفين مرضى جنون العظمة Megalomaniac.
وأما لماذا لم أقل: “الحمدُ لله الذي عافانا مما ابتلاهم به"، كما تجري أدبياتُنا الإسلامية في حمد الله وشكره على نعمة العافية؟ فلأنني أؤمن أن الله لا يبتلي أحدًا بذلك المرض: الطائفية، إنما أنفسَهم يُمرضون وأرواحَهم يبتلون. اللهم إلا إن كان الابتلاءُ بمعنى الاختبار ، وليس بمعنى الإيقاع في البلاء والمرض. فاللهُ يخلقنا أنقياءَ مُعافين من البغضاء والعنصرية والشراسة، حتى نختار "نحن" أن نكره ونبغض فنصير إرهابيين طائفيين ميجالومانياك، أو لا نختار ما سبق، فنظلُّ على فطرتنا الطفولية النقية السوية، فنكون لله أقرب، ونصير مُستحقين ميراثَ الله في أرضه.
وإذن، فإن تصحيح الجملة في صدر المقال هو: “بشرٌ يُقتلون في بورما"! هكذا أراهم، فيعتصرني الألمُ على قتلهم، سواء كان القتل والتشريد بسبب الغاز الطبيعي أو حقوق المواطنة أو حيلة داعشية، كما تذهب الرواياتُ المتباينة. لا يهم. القلبُ ينزف عليهم دون النظر إلى عقيدتهم. وليس كما يفعل الصغارُ: أحزن إن اتفقت عقيدتُهم مع عقيدتي(!) وأفرح فيهم إن كانت عقيدتهم على غير عقيدتي(!)، شأن التافهين من العنصريين الطائفيين والمرضى.
الإنسانيةُ تتخبّط. أتساءلُ أحيانًا إن كانت هذه اللحظة الزمنية العسرة التي نحياها أفضل أم أسوأ من لحظتيْ الحرب العالمية الأولى والثانية اللتين راحت فيهما أرواحُ ملايين البشر دون جريرة ولا منطق ولا معنى، سوى انتماء هذا أو ذاك إلى بلاد متناحرة لأسباب سياسية، بسبب نقض معاهدات أو قتل ورثة عروش أو ميول استعمارية أو سلطوية أو اقتصادية أو تجارية أو ….؟! تتعدّد الأسبابُ، والهمجية واحدة والتجبّر واحد والاستعلاء بالمال والاستقواء بالسلاح والاستضعافُ بالكثرة العددية، واحد.
تُرى، ماذا يقول الدواعشُ والمتطرفون اليومَ؛ وفينا مِن مسلمي ميانمار المستضعفين مَن يذوق من نفس الكأس المرَّة التي سقاها داعشُ لغير المسلمين؛ تقتيلا واستلابًا واغتصابًا وتهجيرًا؟! هل يبكون ضيعتنا وضعفنا واغتراب الإسلام؟!
وماذا يقول ضحايا داعش من غير المسلمين؟! هل يهمسون: إنها عدالة السماء؟! كلا. دموع الأولين كاذبةٌ منافقة؛ وزعمُ الآخرين هراء. ليس عدلا أن يدفع بشرٌ مسالمون فاتورةَ غيرهم من الإرهابيين القتلة. كلنا ضائعون مادام الإنسانُ ظالمًا. اللهم انزعْ من قلوب البشر شوكةَ الطائفيات والمذهبيات والعرقيات والعنصريات والطبقيات والأكثريات والأقليات الغليظة المتخلفة؛ واستبدل بها زهرة الإنسانية الرهيفة المثقفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - والأقباط الذين تتضامنين معهم , أليسوا طائفة ؟
عبد الله اغونان ( 2017 / 9 / 17 - 15:57 )

نتضامن مع كل المضطهدين
لكن يحق لنا أولا التضامن مع اخواننا في بورما
لأنهم مضطهدون بالضبط لأجل أنهم مسلمون
ومن يضطهدونهم البوديون

اخر الافلام

.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س


.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: صيغة تريتب أركان الإسلام منتج بش