الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلسلة الفضّه

كمال عبود

2017 / 9 / 18
الادب والفن


في البدء كان السؤال ... والسؤال حكايه ..
والحكاية هي السؤال حين تغدو حقيقةً في الفكر أو المنظور ..
الحياة حكايةٌ طويله لا تنتهي .. سواءً كانت الحكاية في البدء كَلمِه كما يقول الكتاب المقدّس ، أو كان البدء للفعل كما يقول المخالفون ..
والحكايا ألوانٌ راقصه وحركة مسرحٍ لا ينتهي تتوالد على خشبته الأسئله ، تنطلق وتتفرّع من جوهر السؤال الذي ينمّ عن قلقٍ وجوديّ : ماذ قبلُ ...؟ وماذا بعدُ ...؟ وماذا الآنْ ...؟
والحكايةُ يا سيّدي دائماً مُخبّأه ، لا يظهر بريقها الّا حين تصبح منطوقةً وبالضبط حين ينطقها الحكيم
والحكاية سلسله ... سلسلةٌ طويله ، طويله ، حلقاتهاموغلةٌ في القِدَم ... في الزمان والمكان .. مُتشعّبه .. .
------

كان جدّي أبا النديم ( رحمه الله تعالى ) يلبس فوق - قمبازه - سترةً -( جاكيت) وتحتها - صدريّه من نفس لون الجاكيت ونفس القماش - والصدريّة هذه قميصٌ دون اكمام ودون قبَّه ، ولها جيبٌ صغير على اليمين من الأسفل ، يضع بها شيئاً واحداً هو ساعةٌ فضيّة اللون دائريّة ذات غطاء يّفتحُ بواسطة زر صغير على حواف الساعه المنقوش عليها زخارف محفورة وأُخرى ناتئه جميلة الشكل وفيها ابداع في الصنعه
كنتُ صغيراً اراقب جدٌي كيف يفتح الساعه وينظر الوقت فيها ،وما كان يبهرني هو سلساها ،المعلّق من طرفه بالجيب الصغير ومن طرفه الآخر في الساعة المدهشه ، ذاك السلسال الفضيّ الطويل ذو الحلقات الناعمة المتشابهة الملساء وأسأل نفسي كيف ترابطت وتداخلت ، أطلب السلسال من جدي وأفرح كثيراً حين أفتح يدي الصغيره وتتكوّم حلقات السلسا ل في كفي ثمّ أفرده طويلاً كالحبل الرفيع وألوّح به ،أو اجعل منه دوئراً ، ثمّ خطاً مستقيماً ،وأعجز عن معرفة سر تداخل وترابط حلقاته ، وكنت أتمنى أن يكون لي مثله كي ارسم به اشكالاً أو دوائرَ أو أن يكون متعلقاً بالسماء بعيداً بعيدا
-------

ورث عمي المرحوم ابا يوسف الساعة والسلسال عن أبيه ، وعمي كان شيخاً مهيباً وقوراً واسع الصدر وحليماً ، وفي ذكرى مرور اسبوع على وفاة والدي -رحمه الله - دعوت عمّي ورجال آخرون - كما هي العادة والعرف في القرية - ذبحنا خروفاً أكراماً لروحه وقُريء آيٌ من الذكر الحكيم ،وبعد انتهاء مراسم العزاء قلت لعمّي :
هذه ساعة جدي وهذا سلسالها
قال نعم ، هل تعجبك ...؟
قلت نعم فيها صنعة بديعه وسلسالها أيضاً بديع
قال : ذكّرتني بحكايةصاحب السلسال .. اسمعوا :
مملكة النهر العليا مشهورة بملكها الذي يلبس سلسالاً ذهبيّاً ذي أطواقاً خمسةً على صدرهِ رمزاً للجاهِ والغنى وسيفاًفضيّاً مُرصّعاً يُعتبر تحفةً في غاية الجمال والروعه،رمزاً للقوّةِ والعظمه، وسلسلةً فضيّةً،جميلةً، خفيفة الوزن
وكان لكلِ ملكٍ رجلاً يختاره الملك ويكون هو( مؤدب الملك ) يستشيره ويستأنس برأيه ، ولم يكن او يُسمح لِأحدٍ أن يلبس أطواق ذهب في المملكه إلّا جلالته وحين اقتربتْ منيّتُهُ قال لمؤدبه : هذا الطوق وهذا السيف يخصان ولي عهدي وتلك سلسلةٌ فضيٌة له وحده .
مات الملك واتى الملك الجديد وكان شاباً قال للرجل الذي اختاره مؤدّباًلهُ : أدّبني
قال المؤدب : الذهب والسيف لك وحملهما خفيف ،وسلسلة الفضّةِ ايضاً أمّا هموم المملكه فهو أثقلُ على الصدر من ثقل الجبال
قال الملك الشاب : كيف....؟
قال المؤدب : غداً سيجتمع القوم للمبايعه وسنلتقي .
في اليوم التالي اجتمع القوم تحت القصر وفي الساحات جحافلاً وقوافلاً لمبايعة الملك الذي قال لمؤدبه : أدّبني قبل المبايعه
على شرفة القصر العالي ،وقف الملك ومؤدبه .. رأى الملك الناس تملأ الأمكنه .. تتدافع .. يهدر صوتُها : عاش الملك .. يحيا الملك .
قال المؤدب : هل تعرف حقيقة الناس ..؟
تقدّم المُؤدبُ وضع كفيه على عيني الملك فترة صغيرة ثمّ ازاحهما .... نظر الملك شاهد الساحات وقد امتلأت قطعاناًمن القِرده والخنازير والسباع والثعالب والجراذين والطيور جارحها وصغيرها والثيران ،وما هبّ ودرج، وأفواج من البشر يتاجرون ويصرخون وهناك يتقاتلون وثمة من يجري هرباً وخلف جيادٍ مُطهّمةٍ فوقها فرسانٌ وعلماء يحملون كتبهم فوق ظهورهم ،واولاد يتسابقون ونساءتشدُّ شعر نساء أُخريات ، واصوات موسيقى صاخبة واخرى حزينه ومشاهد دمٍ وقتلٍ مُروعه ، وثمة فرح صغير في زوايا بعيده
قال الملك صارخاً : أقلني يا سيّدي
وضع المؤدب يديه على عيني الملك وأزاحهما ، فعاد المشهد أمام ناظري الملك كما كان وعاد الهتاف مدوياً : عاش الملك .. يحيا الملك
قال المؤدب : هذه حقيقة المملكه لا تتعجّب
هل تريد المزيد.....؟
وضع المؤدب يديه على عيني الملك مرّات عديده فكان الملك يرى قصره خراباً ،تعيثُ فيه الأفاعي والحشرات ، ومرةً رأى ارض المملكه ،كأنّها روضة من رياض الجنّه ومرّةً صحراء قاحله ، ومرّةً رأى نفسه في بحرٍ محيط هائج تتقاذفه امواج كا الجبال العاتيات وتهبط به الى وهاد لا قعر لها
قال للمؤدب : أجرني يا سيدي وأقلْ عثرتي
رفع المؤدب يديه عن عيني الملك قائلاً :
أحمل ْ خفيفاً يا بنّي ،وليكن حملك َ خفيفاً، مثل سلسلة الفضة الصغيره التي بين يديك
قال الملك الشاب للقوم من على شرفة القصر : شعبي العزيز " أقدّم لكم المؤ دب ملكاً جديداً فبايعوه ، هو الأجدر، وهو الحكيم الأقدرَ ، وسلسلة الوفاء والحب والخير تجمعنا معاً








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا