الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البديل الحضاري الإسلامي عند أنور الجندي(1)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2017 / 9 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نقد الغرب التغريب


ترتبط الفكرة الحضارية عند أنور الجندي بمنهجيته العامة بوصفها رؤية لاهوتية دينية، اتخذت في موقفه من إشكاليات الحضارة والبديل الاسلامي هيئة الترتيب والتنسيق المعقول بين كفتي نقد التغريب وأسلمة التعريب. بمعنى أنها اتخذت الصيغة المنهجية لنقد مظاهر ومحددات التأثير الحضاري الغربي، ومن ثم تأسيس البديل الاسلامي في مجال الرؤية الثقافية ووعي الذات العربي.
ينطلق أنور الجدي من أن المشكلة الجوهرية بالنسبة للوعي الاسلامي الثقافي والحضاري بشكل عام يقوم في كيفية تذليل التغريب. والمقصود بالتغريب عنده هو "حمل المسلمين على قبول ذهنية الغرب" مع ما يترتب عليه من "تدمير الشخصية المسلمة" عبر وضع المسلم أمام إشكالية الاختيار الحادة "بين الإسلام والعلمانية". وهذا بدوره محكوم بفكرة مبطنة قوامها أن "الإسلام لا يستطيع حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية" .
إن الهدف الأكبر والعام للتغريب، حسب تصور أنور الجندي، يقوم فيما اسماه "بهزيمة العقل الاسلامي بإذاعة الإلحاد والتعطيل"، و"تقويض المجتمع بنشر الإباحية والفساد" ، عبر التأسيس لفكرة "عبادة الحياة، إسقاط الأسرة" . وقد جرت وتجري محاولاته المتنوعة والمختلفة المستويات من اجل بلوغ هذه الأهداف من خلال القضاء على الوحدة الإسلامية والخلافة بإثارة النعرات القومية والعصبية، ونشر التعليم الغربي ونظامه الربوي عبر إسقاط الشريعة، وإنكار دور المسلمين الحضاري وهدم اللغة العربية، والقول بنظرية وحدة الحضارة العالمية، وإعادة كتابة التاريخ الاسلامي عبر الدفاع عن"الحركات الهدامة" من صوفية وباطنية وقرامطة، وفرض التجربة الليبرالية والماركسية، والتطبيل لنظرية دارون باعتبارها مقدمة ومدخل إلى الإلحاد، وكذلك نظرية فرويد عن الإنسان بوصفه حيوانا تحكمه الغرائز، وإنشاء دوائر معارف عن الإسلام مبنية على مناهج خاطئة . فهي الصيغة المكثفة للقضايا التي وضعها وتناولها بالنقد في مؤلفاته العديدة.
وترتبط هذه الحصيلة المتراكمة في الوعي الغربي (الأوربي) الذي يجري إدخاله في الوعي الاسلامي عبر ما اسماه أنور الجندي بروافد السموم الكبرى وهي كل من الاستعمار والصهيونية والماركسية. وان لهذه الروافد جذورها في كل من المسيحية والكنيسة واليونان، أي يفي تراثها التاريخي الخاص، وكذلك بأثر هيمنة بفكرة الاستعلاء بالجنس واللون، إضافة إلى السيطرة الاقتصادية والاستعماري. إذ جرى توظيف كل ذلك من اجل احتواء العالم الاسلامي عبر مفاهيم اقتصادية وسياسية وتربوية . وقد كان للغرب بهذا الصدد أدواته التي يجملها أنور الجندي في كل من الفنون والعلوم (الاستشراق بشكل خاص) والايدولوجيا (مختلف المفاهيم والأفكار). وسعى لبلوغ مأربه بوسائل مباشر أو ظاهرية (الاستعمار المباشر) وأخرى غير مباشرة أو باطنية (تربية الشخصيات وأنماط الفكر).
فقد سعى عبر المسرح والسينما، على سبيل المثال، إلى اتهام العرب والمسلمين بالخلو من المسرح. كما سعوا إلى إحياء مختلف المظاهر البدائية من اجل تشويه الوعي الاجتماعي والتاريخي والثقافي وإضعاف اللغة العربية وإزالتها، كما هو جلي عبر ما اسماه الجندي بإحياء التراث الجاهلي والوثني والفولكلور.
بينما شكل الاستشراق الجزء المهم والأكبر في منظومة ومنهج التغريب، عبر محاولة "تغريب الإسلام وإخراجه من طبيعته الخاصة وجوهره الذاتي". وجرى استكمال كل ذلك بالصيغة الأكثر فاعلية في نشر التغريب وترسيخ جذره في الوعي، ألا وهو مناهج "التعليم والثقافة والتربية" التي أدت إلى "انحسار القران والسنة عن التعليم". وذلك لان "التعليم بالطريقة الغربية هو الخنجر المسموم للغرب" في جسد الأمة العربية والإسلامية . بحيث نراه يتوصل في بعض أحكامه بهذا الصدد إلى أن يجعل من الاستشراق إلى وسيلة تنفيذ مهمة "مسخ الشخصية الإسلامية" عبر ما يسمى بصنع الشخصية العالمية
وقد وجد أنور الجندي في هذه "السموم" وأدواتها أساليب متنوعة ترمي إلى غاية واحدة، ألا وهي جعل التغريب منظومة متغلغلة ف يكل مسام الوجود العربي ومن ثم القضاء على هويته وذاته الإسلامية. فإذا كان للسينما والمسرح مقدماتهما الخاصة في الثقافة الغربية فانه لا معنى لهما عند المسلمين. فالمعروف عن المسلمين، كما يقول أنور الجندي، هو "طبيعتهم المعروفة بالوضوح والصراحة ومن ثم فهم ليسوا بحاجة إلى مسرح". وينطبق هذا على السينما. فهي أسلوب للترفيه والتسلية والإباحة والجنس والعنف. أما الغاية من وراء نشر التراث الشعبي (الفولكلور) فهو مجرد "سموم وغثيان وسذاجة" لبلوغ الأهداف الاستعمارية . وليس مصادفة أن يتشدد في نقده لدعوات إحياء التراث الشعبي (الفولكلور) بحيث نراه يعتبرها "من اخطر دعوات التغريب في مصر" . وذلك لانها ترمي إلى تغليب العامية والأساطير والأغاني الساذجة على الأدب البليغ والفن الرفيع والفكرة الإنسانية . أما محاولة تبرير ذلك بأنه أسلوب لمخاطبة الطبقات الشعبي، فوجد فيها مغالطة يراد بها الهبوط... إضافة إلى أنها "لا تمثل حقيقة ذوق الأمة ولا مزاجها" . بعبارة أخرى، أنها دعوة تسعى إلى وضع ما اسماه أنور الجندي "باللون المحدود من الأدب بالضد من الاسلامي" عبر تصويره على انه محافظ ورجعي وبعيد عن التقدم . ولعل محاولاتهم تقديم كتاب ألف ليلة وليلة، على انه يمثل حياة المجتمع المسلم هو مجرد خدعة لا قيمة لها، وذلك لان هذا الكتاب في اغلبه هو تلفيق وأكاذيب . بل أن الكتاب العرب فيما مضى اعتبروه كتابا غثا وباردا كما هو جلي عند المسعودي وابن النديم.
إن الغاية الفعلية من وراء الدعوة للعامية التي سعى إليها بعض الكتاب مثل لطفي السيد وقاسم أمين وسلامة موسى ولويس عوض وأمثالهم، فأنها كانت تهدف إلى إقصاء اللغة الفصحى والبلاغة والبيان العربي عن الأسلوب العام وصنع أسلوب عامي ساذج . مع ما يترتب عليه من إحياء العصبيات الجاهلية من فرعونية وفينيقية وبابلية ووضعها بالضد من الشخصية الإسلامية الجامعة بملامحها وأخلاقها .
أما الاستشراق فقد جسد كل أساليب ونماذج التغريب فيما يتعلق بالتاريخ العربي والإسلامي. فهو نموذج لاستخدام العلم في خدمة السياسة، وان مادته في الأغلب نافعة لتغذية حركة التبشير، ومن ثم ليس مجرداً عن الهوى. كما انه من حيث وظيفته لم يكن موجها صوب العلم، وإلا لماذا يركز على الجوانب الضعيفة والروايات المدخلة والشبهات ويركز على الفلسفة والباطنية؟ . ووجد في ذلك أمرا ليس معزولا عن التقاليد الأوربية وتراثها الثقافي، الذي "هو مجموعة أساطير وخرافات". من هنا تشويههم، بأثر انزعاجهم من "هذا الكم الكبير والعظيم من العطاء العلمي والروحي والثقافي للإسلام" . من هنا دعواتهم وسعيهم للبحث فيما قبل الإسلام وإثارة الدعوة الفرعونية والفينيقية والبابلية وما إلى ذلك، وكذلك الحديث عن ثقافة مصرية وسورية وعراقية وسودانية. أو أن يجري الاهتمام المفرط" بما هو مخرب" كما هو الحال على سبيل المثال عند ماسنيون في عمله طوال حياته من اجل الحلاج. بينما يبث الآخر "سمومه" عن وحدة الوجود والحلول، وتشويه علاقة القرآن بالشعر الجاهلي، والخلط بين مفهوم التدوين والسنة، والعرف والشريعة وما إلى ذلك. وكذلك بالتركيز على شخصيات مثل ابن عربي وابن سبعين والسهروردي والحلاج وحركات الباطنية والإسماعيلية والقرامطة وإخوان الصفا .
إن هذه المواقف النقدية التي تلامس الحقيقة المجردة في الكثير من جوانبها، تتيه بين أدغال الرؤية اللاهوتية التي تنظر إلى الأحداث التاريخية بمعايير "الخير الإلهي" و"الشر الإنساني" بعد مطابقة ذلك على التوالي مع النفس والآخرين. ويصبح التاريخ وانجازاته الحضارية جزء من توليف المؤامرات والمغامرات. بعبارة أخرى، تصبح الرؤية الثقافية وانجازاتهم العلمية عند الغير كما لو أنها شرا خالصا حالما يجري تطبيقها على التراث والتاريخ الاسلامي. بينما يتحول الإبداع الاسلامي إلى فضيلة مطلقة بما في ذلك في الموقف من الآخرين. وهي نظرية تدعو إلى أصالة العلاج (عند النفس) بالضد من أصالة السموم (عند الآخرين). وهذا بدوره نتاج الرؤية الدينية اللاهوتية التي تجعل من العقائد الدينية الخاصة يقينا مطلقا وفضيلة مثلى، وما عداها أو غيرها ضلال وزيغ وسموم. من هنا يمكن فهم الصيغة التي نعثر عليها في مواقف أنور الجندي من التراث العربي الاسلامي نفسه. بمعنى تصنيفه وتقسيمه وتقييمه على أسس مذهبية ضيقة، تجعل من "الفرقة الناجية" مصدر الحق والأمان، وما عداها تخريب وتخريف. ومفارقة الظاهرة هي أن الواقع التاريخي يمثل ويتمثل العكس تماما. فقد حول أنور الجندي الكثير من الإبداع الثقافي العربي "العالمي" مثل ألف ليلة وليلة، وإبداع عظماء الفكر الصوفي كابن عربي وابن سبعين والحلاج، والحركات الاجتماعية والسياسية والفلسفية الإنسانية الكبرى كالإسماعيلية وإخوان الصفا والقرامطة وأمثالهم إلى قوى "مخربة"!
بعبارة أخرى، إننا نعثر عنده على خلط مشوه بين وقائع التاريخ وحقائق الإبداع وتاريخية الفكر وانجازات العلوم والعقائد الدينية الخشنة. لكنها محكومة في اغلبها بمنهج محدد من مناهج الرؤية الإسلامية اللاهوتية السلفية. ويبرز ذلك بوضوح في مواقفه من تحليل ونقد الأفكار والمفاهيم، كما هو الحال في موقفه من فكرة التغريب نفسها، والفلسفة والتصوف والمعتزلة، ومن مفاهيم الثورة الفرنسية وغزوة نابليون، ومفاهيم الجهاد والتسامح والحرية، والأفكار المتعلقة بقضايا العقل العربي والعروبة والإسلام، ومفاهيم المعرفة والعقائد،والحضارة والثقافة وغيرها من القضايا الكبرى والجزئية.
إذ نراه ينظر إلى التغريب هنا باعتباره "قوة ضخمة تقف الصهيونية وراءها" . ليتعداها ذلك إلى البحث في نكبة عام 1948 ونكسة 1967 بوصفهما ثمرات مخطط لها منذ البدء في مناهج التغريب . بحيث نراه يعثر في الترغيب ككل على نتاج "لمؤامرة يهودية". رغم أن التغريب بوصفها ثقافة الغرب (الأوربي) لا علاقة له باليهود واليهودية. وأنهما كلاهما كان يشكلان حالة طارئة وسيئة ولا قيمة لها بل ومحتقرة سواء بمعايير الدين أو الفكر أو الثقافة أو العرق. غير أن الوقائع التاريخية لا تعني بالنسبة للذهنية السلفية الدينية شيئا. على العكس أنها تشكل مصدر كل شيء، بما في ذلك يقين الأوهام والخرافات. من هنا نراه يدفع بهذه "المؤامرة اليهودية" إلى أقصى مدى ممكن لها في الموقف من الثقافة الإسلامية بحيث نراه يستند إلى حديث موضوع (كاذب) يقول "احذروا الأهواء المضلة، وشرها الرافضة، فأنهم يهود هذه الأمة.... يقول الرافضة لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وكذلك قالت اليهود من قبل" . ووجد أدلته في دور أبي لؤلؤة الفارسي ومقتل عمر باعتبارها "مؤامرة يهودية مجوسية"، وفي عبد الله بن سبا وفكرة الحق الإلهي في الدولة وأبطال الشورى، وفي فكرة وممارسة التأويل في النصوص والقول بالظاهر والباطن، وفي صناعة البدع، وفي إذاعة الأساطير الإسرائيلية، وفي فلسفة الإشراق والاتحاد والحلول. وأخيرا في الإسرائيليات الجديدة لفرويد وقوله عن تطور الأخلاق، ومذهب دوركيم وفكره عن المسؤولية الجماعية ، والماركسية في فلسفة التفسير الاقتصادي للتاريخ .
وفيما لو تركنا الحقيقة القائلة، بان السلفية السنية أكثر من لفق الأحاديث الكاذبة عن النبي محمد ثم رفعها إلى مصاف "السنة النبوية"، فان كلمة الرفض نفسها الملصوقة بالتشيع هي نقيض لما في هذا الاتهام. كما أن تاريخ التشيع بشكل عام هو تاريخ الدعوة للقتال والجهاد ضد السلطات الغاشمة. وهم من حمل فكرة المعارضة بمختلف أشكالها ومستوياتها على امتداد التاريخ الاسلامي وحتى الوقت المعاصر. وبينهم ظهرت أقوى وأكثر الشخصيات المبدعة بمعايير الروح الإنساني والنقدي الحر والتفكير الفلسفي والوجدان السياسي. فهو يتذكر أبو لؤلوة الفارسي وينسى سلمان الفارسي وقول النبي فيه "سلمان منا آل البيت". ولا علاقة للصورة المصنعة بمخيال التسنن السلطوي لشخصية وأفكار عبد الله بن سبأ. فحتى في حال افتراض قولهن بان عليا لم يمت، فقد قال قبله عمر بن الخطاب بان محمدا لم يمت وهدد بقتل من يقول بذلك! ثم لا علاقة بما ينسب له بإبطال الشورى، إذ لا وجود لها. فالشورى لم توجد بالأساس والفعل، سواء بهيئة منظومة أو حتى قواعد محددة. وفي شكلها التاريخي الجزئي والوحيد عند عمر بن الخطاب قبيل مماته، كانت اقرب منها إلى رغبة سياسية شخصية من أن تكون موقفا فكريا أو عقائديا. أما التأويل والقول بالظاهر والباطن فأنها أجزاء وسائل في مناهج التيارات العقلية والعقلانية بشكل عام والمعتزلة بشكل خاص، التي طورها الفلاسفة ثم المتصوفة إلى أقصى مدى ممكن لها آنذاك. والتشيع كان يفعل حينذاك ضمن تقاليد الفلسفة والعرفان (التصوف). أما إدخال الإسرائيليات إلى الإسلام فان أكثر من قام به أوائل من أطلق عليهم لقب "أئمة أهل السنة والجماعة" من ذوي الأصول اليهودية، إضافة إلى الجهلة أو ضعيفي الرؤية النقدية وأصحاب الإيمان الساذج من الصحابة والتابعين. أما "البدعة"، فأنها من الإبداع. وحملتها في الأغلب هم من صنعوا الإرث الإنساني والعقلاني والجميل في ثقافة الإسلام وحضارته. بينما كانت محاربته تجري من قبل أكثر القوى تخلفا بمعايير العقل والإبداع والنزعة الإنسانية. وبالتالي، فان محاربتها فيما مضى والآن هي "بدعة" بمعايير التاريخ والارتقاء الثقافي والإنساني. وينطبق هذا على "الإسرائيليات الجديدة". فهو "تأويل" سياسي وأيديولوجي مسطح لا علاقة له بادراك حقيقة التطور العلمي والثقافي الأوربي الحديث. فالأصول القومية والدينية للمرء تتحكم في بعض جوانب رؤيته وسلوكه، إلا أنها لا تحدد مسار التطور والإبداع الثقافي الكبير. فللأخير تقاليده وسننه الخاصة. وماركس لم يكن يهوديا، بل عبرانيا بمعايير "الدم". بينما هو ألماني في كل شيء. ولا بأس بان تتعلم السلفية السنية الإسلامية من مثال نبيها القائل، بان العربي ليس بالدم بل باللغة. وكل ما في ماركس هو ألماني بمعايير القومية، وأوربي بمعايير الثقافة، وإنساني بمعايير النزعة النقدية الحرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 8 شهداء و9 مصابين في قصف سيارة شرطة وسط غزة


.. 9 شهداء وعشرات الجرحى في القصف المتواصل على مخيم النصيرات وس




.. في اتصال مع بلينكن.. رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري شدد ع


.. انتحار القصر يثير القلق في تونس.. والأرقام تصل إلى 95 وفاة و




.. بالتعاون مع 50 دولة.. برنامج أميركي لمواجهة الجوائح والتصدي