الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نفض الغبار عما بين الخيال والمثال من مدار

جميل حسين عبدالله

2017 / 9 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كثير من أحلامنا التي نعشق الاستظلال بها ‏بين أفياء المدينة الفاضلة، لم تكن حقيقة ‏في قاع تفكيرنا، وعمق تدبيرنا، إلا حين ‏فقدنا معرفتنا بالنواميس التي تقام بها ‏‏الأشياء في هويتها المتفاعلة مع غيرها، ‏وجهلنا بمعنى القوانين التي تحكمها في ‏صيرورة الواقع، وضرورة الأوضاع ‏الاجتماعية. ولذا، يكون تساءلنا عن ‏الغد المجهول غير ‏منطقي في التنظير، ولا سليم ‏في التقدير، لأن ما ورثناه من تربية نشأنا ‏على تناقضات يقينياتها، وتعارك ‏غاياتها، لم يكن مستوعبا للتفاصيل التي ‏تبنى عليها معاني ‏الصراع في جدلية ‏الزمان، والمكان، ولا مستحضرا لعامل ‏التغير الذي يحدث في تداول الحقائق، ‏وتمايزها عن بعضها، وتعارضها في محيطها، لكي يبلى قديمها، ‏ويجد ‏جديدها، ويغري ما يبهر من حاضرها ‏بالفعل الملازم لكل التحولات التي ‏تحدث في مجموع البنى المكونة للحياة ‏البشرية فوق بساط الطبيعة. ‏
وهذا التغير ‏الذي قد لا نشهد توارده بالأحاسيس المطلقة، ولا تعاقبه بالعين ‏المجردة، ولو بدا لنا غير مرئي لآبائنا ‏الذين انتقلوا من زمن السيبة ‏والاستعمار إلى مخاض ‏الاستقلال، لم يتكون ‏لدينا إطاره المعرفي بالمعنى الذي تقتضيه دقة ‏الإدراك لنظمه المحركة له في الوجود، ‏والعدم، لأنه لم يرق بمستويات التفاعل ‏مع ما نخوض معرته بين ‏الديار المنجزة ‏على الأضداد المتحاربة، ولم يعبد لنا طريقا نحو الآمال المقرورة في أعماقنا المتهارشة، وهي كل ما نمهد به سير حياتنا الفردية، والجماعية، ونقيم به علاقاتنا مع ‏مجالنا الباطني، والخارجي. وذا ما يجعل ‏تفكيرنا قريبا مما تأسست عليه نظم الذين ‏صنعوا لحظتنا من سواد الخوف، ‏ووحشة التشاؤم، وشحوب الاكتئاب. إلا أن ما ‏يميزنا ‏عنهم في الاعتبار العقلائي، ويخصنا بجهاز مفاهيمي قائم بالتنظير، والتأسيس، هو أننا نفلسف ما ‏وصلنا إليه من قناعات، وما ذهلنا به من نكبات، ونحاول أن ‏‏نضفي صفة العلمية على ما نقوم به من ‏فعل الفحص، والتحليل، والتقسيم، ‏والتركيب، والتبويب، والتعديل، والحكم.‏
‏ وهذا الفعل الإجرائي في حد ذاته، ولو اندفعنا إليه بحكم انبهارنا بلوثة الحضارة، والحداثة، قد ‏تجاوز معاييرنا، وتعدى مقاييسنا، وصار ‏محكوما بصلافة الواقع، ورقاعة ‏‏تفاعلات المجتمع حول أنصبة الحظ المحصل عليه في ‏نزاع المصالح، والمنافع، ولو تدنست بخيانة ‏الضمير، وركاكة الأسلوب، ووضاعة ‏السلوك، لأن ما نلامسه من تبدل، ‏وتحول، ولو ‏كانت لنا آمال في تجاوز ما ينطوي عليه من غبن، ‏ومعرة، لن نطيق إيقافه، ولا إحجام ‏علته، ولا إضمار ما فيه من ضرر على ‏القيم، والأخلاق، ولا إخفاء ما ‏يسكنهه من اختلال في معدلات التوازن، والاستقامة. وإلا، فإننا سنحتار بين ‏خيارين: أحدهما أن ننغمس في بحر الشر ‏الذي يسود علاقاتنا البشرية، وروابطنا ‏الإنسانية، ونكون ‏بذلك قد بذلنا شيئا من جهدنا في صيد ما ‏يمكن قنصه من شوارد اللذة، والمتعة، وإذ ذاك، لن نلام إذا نبذنا القوانين، أو تحايلنا عليها، ما دامت ‏دناءة الغاية تسوغ رديء وسيلتنا، وحقير نياتنا. وثانيهما: أن ‏نحارب الشر، ونباينه بسلوكنا الفاعل ‏بالإيجابية، ونعاديه بانتزاع ما فيه من أسباب بقاء الضد بين المعاني ‏الكاملة، ونكون بذلك ممتحنين بين وجع عذابين: ‏عذاب ما يحدث من صراع مع مركبات النقص المتفشية في المجتمعات البائسة، والعليلة. أو عذاب انغلاق الحظوظ، ‏وانسداد الأفق، واسوداد الغد المجهول، ‏وهو الأضر بنا، لاسيما في لحظة المسؤولية ‏عن مستقبل الأسر التي نرتبط بما تلزمه صيرورة سياقاتها ‏الموضوعية من تفان، ‏وتضحية.‏
‏ ومن هنا، فإن خيار ‏المواجهة متلف لماهية الذات، وغير مجد في هوية الكيان، ما لم ‏نستوثق من النتائج التي نتغياها بالحدود ‏المرسومة، وهي بعيدة عنا، ومنالها صعب، ‏وعسر، ما دمنا لا ‏نطيق أن نحدث قوة في فعلنا المقابل ‏للآخر الذي يريد الأرض عوجا، والخلق ‏عبيدا، وخولا. لكن إذا أيقنا بأننا نفعل ‏شيئا في سبيل الحرية، ‏والكرامة، فإن ‏مفهوم الاحتساب في عالم التكاليف العاقلة، سيحدث في باطن ‏الذات انفعالا مع المعنى الإلهي الساري في ‏الكون، والطبيعة، والحياة، والإنسان. ‏وذلك ‏مرده إلى قوة اليقين، وضعفه، ووسائل بناء كلياته، وجزئياته، وطرق استيعابه للذات والموضوع في الحقيقة، ‏وإن كنا نجزم بأن صعود العقل وهبوطه بين مراتب الأعمال، ‏وتوارد دوافع اللين والشدة عليه، لن يجعله محدودا بخط ‏واحد، لا انحراف عنه، ولا اعوجاج فيه، ‏لأن خطوط السير مرهونة بتقلبات ‏الإنسان بين مدارات وجوده، ‏وتحولات الزمان، ‏والمكان، وتفاعلات الأنظمة والأنماط والأنساق المشكلة لغرائز الكائن البشري. وإذا كان هذا يقينا فينا، وانطوى عليه الفؤاد بالتصديق الموجه ‏للجوارح، فهل ‏يعني أن ننسى ما يربطنا بالإمكانات التي ‏تنشئ محور انفعالنا في الوجود مع الموجود.؟
‏ لو ‏استسلمنا بهذه الأقيسة الرديئة، أو لهذه المقولات البسيطة، وفوضنا شأن ‏حركتنا إلى ما تمليه علينا قراءتنا لتاريخ ‏المعجزات، والكرامات، فإن بطون ‏الكهوف، ‏والمغارات، والأودية، ‏والبراري، هي الأكمل وجها في خلق ذلك ‏الطبع النافر من كل ما هو مادي، ‏وبشري، ولا يتسم بالروحية، ولا يتشح ‏برادء المعاناة، وإزار المجاهدة، ‏لأن عدم معرفتنا بحدود ‏المواجهة للشر، وطرق حصر مخرجاتها في عالم الشهادة، ‏هو الذي يجعل حركتنا طوباوية، لا ‏ترتكز على معناها الواقعي، ولا على أثرها ‏السلوكي، ‏ويغمسها في بحر الخيال الحالم باللحظة ‏الهاربة بين شبحية المجتمعات الغامضة الإحساس، والاتجاه، والغايات. وإذ ‏ذاك، سنعيش في الكون بعقلية زمان تائه ‏لا ‏حدود له، ومكان شاسع لا نهاية فيه، ‏لأنه سيصير مشاعا للإنسان الذاهل بما يجده من عوامل البقاء، ومفتوحا ‏لنيل الحظ المتفاوت الحصص، والإمكانات، ومحصورا بما ‏يتراكم من تجارب وخبرات في العوالم البشرية، ولو لم يكن ‏كاسبا للقانون الذي يضمن عدالة ما يجري بين الديار ‏من خيرات، ومبرات، لأننا سننتقل من قوة طاقاتنا إلى ‏عالم الخيال، لكي يعوضنا ما فقدناه بالعجز، والكساد. ‏
ولذا، يتساءل ‏الحائر عن دور الطبيعة الأزلية فيما ‏يحدث من اختلال بين ما هو مقروء في ‏العقائد، والأديان، وما هو مشهود من تفاوت في ‏الأحداث، والوقائع، فيرى ‏سيرة ‏الأشياء، لا تسير وفق ما هو مقصور على ‏للتخطيط الذهني، أو ما هو مكسوب ‏للكد المبارك حصاده في النتاج الطبعي، فيزعم أن الإله ‏قد تخلى عن وظيفته، ‏واستقال عن فعله، ‏وانتهى أمد توجيهه للمطالب ‏الإنسانية. لكن، هل يصح هذا في كبد ‏العقل، وبحثه عن الاطمئنان.؟ قد يغدو القول ‏بضد هذا مستساغا، ومقبولا، ‏‏لاسيما عند سبر أغوار ما هو مركب في ‏الأفعال المحدثة، وتقسيم ما فيها من ‏عناصر السماء، ووظائف الأرض، لأننا حين ندرك ‏الإله فيما ينفخ من روحه بين طبائع ‏‏الحقائق المتصارعة حول الوجود، والفناء، فلا ‏محالة، سنوقن بأن جهلنا بهذا الناموس الذي يجسد الإرادة الأزلية، ‏وعدم دركنا لحدوده اللاهوتية، ‏ورسومه الناسوتية، ‏هو سبب مخالفة الشيء ‏لنتيجته، وعلة في تأخر الاستجابة عن ‏الطلب، لأن تدخل الإرادة الفوقية مرتبط بما هو جار على أصله في الطبيعة، وهو كل ما تقوم به ‏الأشياء من قوانين منظمة للحدث، والفعل، والإنجاز. ‏
وذلك لا يكفي فيه التفويض، ‏ولا التسليم، لأنه تواكل في محل الفعل، ‏وانهزام في مقام الكسب، وانحطاط في الهمة المدبرة لما هو كائن في كينونته بالحركة المتصلة بكل ما ‏ينفعل وجوده بالنظام الكوني الثابت، والقار. وإلا، فإن ‏وجود الخارق في سببية الحقائق، ليس محلا ‏للنظر في الاعتبار، إلا إذا فصلنا بين ما ‏هو مطلق، وما هو ‏نسبي، وأقمنا حدودا لما هو مطلوب فعله، وما هو متروك أثره للعلة الفاعلة فيه بلا سبب، لأن ذلك ‏التجاوز للنظام الخالد في الحركة الموجهة للأشياء محدود ‏بالمرادية، ‏لا بالمريدية. وما هو جار في ‏الأشياء من وحدة تحدد قضية تناسل كثرة الفعل، والترك، هو موقع الطلب، ‏وموضع الجلب، وما خرج عن ذلك على ‏جهة الاستثناء، فهو ‏الفضل الذي يغذيه ‏شدة العمل باليقين التام الأوجه، والمناحي، لأن إدراك تلك الازدواجية في نظام الكون، وطبائع الموجود، هو الذي يعري وسائل توليد الصيرورة، ‏والدينامية الفاعلة بالآثار، والأعراض، ويرسخ للمعرفة القائمة على تحديد الطبيعة الأصلية، والعارضة على الأشياء التي هي محل النظر، والاعتبار. ومن هنا، يكون خطر ‏‏الخطاب الوعظي ضررا على المتدينين، وإرهاقا للفكر البشري، وإعناتا للوعي الإنساني، ‏لأنه يعتمد على الظواهر المعجزة في ‏تاريخ الاصطفاء، ويجعلها أساس الحركة في ‏مجال الاختيار، وهو في الوقت نفسه، لا يمجد قوة ‏الإنسان، وقدرته على صناعة الأمل، ‏ووظيفته في امتلاك الظواهر بما يكمن فيها ‏من أسباب، وعلل. ‏
وهنا، نكون بين ‏سبيلين: سبيل يرجو تحصيل الأشياء عن ‏طريق المعجزة الباهرة، ويخالها تمشي بغير قوانينها ‏في الطبيعة الخالدة. وذلك غير مخول للإنسان ‏فيما حدد له ‏من سبب، ونتيجته، ولا ‏ينال إلا عند اعتبار محض الفضل ‏الأزلي، وهو ما تهبه الخوارق بدون محددات العقل، ومركبات الصيرورة في سيرة الأفعال. وسبيل الاحتماء ‏بالعلل الموجبة ‏للمعلول، والالتزام بما ترتفع به عمد المعاني ‏من صلات، وروابط، وعلاقات. وإذا ‏كان هذا الخلط قد أنتجه الخطاب ‏الوعظي، وثار من أجله، وأقام حوله ‏حروبا طاحنة، فإن دقة المعرفة بمكونات الحدث، ومستلزمات الأثر، تقتضي أن ‏نعرف الشر، ونتقيه بما فينا من طاقة، ‏وانفعال، ولكننا في تمام الصيرورة ذاتها، نلتزم ‏بما ‏يحدده قانون الصراع من كسب ‏للرهان في الحاضر، والمستقبل، وحصر للموارد المؤدية إلى المبتغى، والموصلة إلى المرتجى، لأن عزل الإنسان عن عوالمه، لن ينتج إلا ‏البحث عن الخلاص في خارج الذات، وضمن محددات تفوق طاقة الإنسان، وقوته على حرث الأرض، وفاء لناموس العمل، وجمال ما فيه من استيعاب، وانتظار. ‏وذلك ما ينفي الشروط الباطنية المتحكمة في إيجاد الفعل، وتحيينه، وتطويره. وإلا، فإن حشد الشر لقواه، وجمعه لشبكة فواعله، وتخطيه لكثير من ‏الحواجز النفسية، ‏والاجتماعية، لكي يبلغ ذروة الاستحواذ، ‏والاستيلاء، لا يعانده إلا معرفة طرق ‏القوة في الخير، وكيفية نشأته، ووسائل إظهاره من عمق اليقين إلى ظاهر الكمال، لكي ‏يتقابل الشيء بضده، ويصير لكل واحد مساحة يسكنها أهلها. ‏لا أن نتوهم الخيار السماوي، ونتغرب في الوجود، ونحس بالمظلومية، ونأنف من اكتناز كل العلاقات ‏المؤدية إلى قيام مجتمعات أخلاقية، وإنسانية، لأن القول بعدم الاصطدام لعلة تقتضيها الحكمة، قد يكون مستساغا في العقل، لكون ذلك مما يهيئ المناخ للإصلاح، ‏والصلاح، لكن أن نتكئ على الجانب ‏الإعجازي الذي غرقت فيه العقول ‏العاجزة، ثم يحدث التفويض في مقام ‏الفعل المطلوب، والكسل في محل الكد، فإن ذلك مما يضيع ‏فرصة استواء الحياة، واعتدالها، ويفقد الإنسان خصوصيته الكونية بين ‏زلازل المصالح الفاسدة، وأعاصير ‏النيات المستبطنة لنيل مكاسبها بلا دليل يفي بحق الضمير، ‏والأخلاق.‏
وإذا كنا قد فرقنا بين ما يجب فعله، وهو المكسوب للإنسان بإرادته، واختياره، وبين ما هو متروك في نتيجته لعامل القضاء في الزمان، والمكان، فإن ما نتصوره من ‏معجزات تعطل ناموس الأشياء، ووظيفتها في العمل، وتحدث فيها انفعالا مخالفا لمكونات طبيعتها، ومجافيا لما انبنت عليه مركبات عقولنا، لم يكن مثاله جاريا في السنن ‏التي تحدث الفعل في الجماد، والحركة في الساكن، إلا على جهة الاجتباء الذي تختار به السماء دليلها على حدود عظمتها، وتجاوزات قوتها، لأنها في علتها الفاعلة، أقامت ‏الأشياء على نظام يبدع فيها ضرورة الصيرورة، وتطورها في وحدة الكل الجامع للكليات المتعددة، والمتكاثرة. وإلا، فإن الاعتماد على هذا التغير الذي لا يتسق مع ما ‏رسخ في الحقائق من عقل، وإدارة، وضبط، لن ينتج في الذات العاقلة وعيا بأسباب التغيير، وعلل الإصلاح. وسواء في ذلك ما ارتبط في قوته بالأفراد، والجماعات، أو ‏ما اتصل في بيئة نفوذه بالحوادث التي تفجع الكائن الحي، وترديه، وتدمره، وتنشئ على أشلائه مدارات للموت المشؤوم، لأنه يحرف مسار الإنسان، ويمنيه بالأحلام ‏الواهمة، ويرفعه عن مستوى التكليف الكوني، ويصيره كائنا هلاميا في النتيجة، يبحث عن قواه الذاتية في الخيال المتسم بالعماء، والخواء، ويطلب تحقيق مكاسبه عن ‏طريق الأوهام، والأحلام. وذلك، لا يتأتى قبوله، أو الاستناد إليه في إلباس الطبيعة بكل مظاهرها لبسة النقاء، إلا إذا قلنا بعجز نشاط الإنسان أمام كل ما هو ‏مرسوم من صور المعاني، ومكتوم في صلادة الحقائق، وكساد نمط تجربته في تطويع الطبيعة، وتسييج آفاتها، وتطويق جوائحها. وإذ ذاك، تكون خاصية فعله في التغيير ‏عبثا، ووسيلة بحثه عن مهاد أمنه فوضى، لأنه في انحساره عن فاعلية العقل، ولازمه في حتمية الكسب، وانعدام القوة فيه، وانبطاحه أمام ما هو قائم بلا رجاء في ‏تحسين أوضاعه، وتغيير أحواله، لن يكون إلا وسيلة لبقاء النوع المسلوب الإرادة، لا غاية لتخليد أثره، وتأكيده، وتأبيده، لأنه لم يوجد ليمر على الأرض بلا تحقيق لمبدأ، ‏أو قاعدة، بل خلق فيها، لكي يصل حبل ماضيها بحاضرها، وواقع معلومها بموضوع مجهولها. وهنا سنشعر بأننا جنس تافه، لا وظيفة له في الكون، ولا دور له في الحياة، ‏لأننا بدون أن نعي ما يعنيه تفاعل العوامل المادية والمعنوية في صياغة قوالب التوجهات الثقافية، والمعرفية، لن نضع حجر الأساس لدراسة الأفكار المؤسسة للوضعيات ‏الاجتماعية، ولا لبناء مستقبل إنساني لهذا الكائن المنكوب في ضميره الفردي، والجماعي، لأننا بهذا الفصل بين ما هو محمول الطاقة، وما هو غير مقدور عليه، سنعيد ‏ترتيب أنماط فكرنا، ووعينا، لكي ترتكز على قيم الحوار مع كل ما هو موجود بالجبلة، والفطرة، والتفاعل معه في حدود دائرة الحق، والواجب، أو الإلزام، ‏والالتزام.ومن هنا، أكون قد أجبت صديقي حين سألني: لم لا تتدخل السماء في تغيير لبدة واقعنا.؟ هل الإله غاضب منا، فاستوجبنا أن ندان، ونهان.؟ أم صرنا قوما ‏لا يجسد معنى الحقيقة، فاستحق مصيرنا أن يكون أثيما، ولئيما.؟ ‏
إن فهم هذه الروابط التي تربطنا بالسماء، وتصلنا بمصادر أفعالها في تجليات الوجود، وموارد تقابل صورها بموادها، ومعانيها بأشكالها، هو الذي يجعلنا نوقن بأن عدم ‏تدخلها في صناعة مهد آمن لكل ما يدب على بساط الأرض من حيوان موصوف بالحياة، لم يكن إلا نتيجة لعدم إدراكنا لذالك التواصل القائم استمراره بين النواميس ‏التي أنتجت الأشياء، وأقامت حركة أجرامها في حيزي الزمان، والمكان، ودفعت بها إلى صناعة مهادها الباحثة عن الكمال المخصوص لها في الأزل . وذلك ما أدركه ‏الغرب حين استطاع أن يمتلك موارد القوة، ومصادرها المعينة على الاستيلاء، والاستحواذ، لأنه لم يكن يتخيل مثاله في عالم المعجزات الخارقة، ولا في تعقيدات ‏الهيولي، والصورة الباهرة، بل بقر مما هو مصنوع بمقدماته في النسق، والسياق، وموجَّه في تدبيره للحياة فوق الطبيعة، وضمن بؤرة الكون، ما أضاف إليه معنى ‏استلهم منه كيف تختزن الأشياء حياتها، وكيف تموت بفقدانها، وكيف تنفعل مع غيرها، وكيف تؤسس في كليتها لمدار البقاء بين أمداء الكون، لأن الفصل بين الخلق ‏الإلهي، والخلق الإنساني، أو بين الأنطولوجي والسببي، هو الباب الريئس الذي يلجه المتدبر للكون، والمتأمل للحياة، وما لم يلجه العقل الخاضع لشروط بناء قناعاته ‏السوية، فلن يكون قادرا على إدراك مدارات القول بقدم العالم، ومظاهر حدوثه، ولا مستوعبا لمحايثة الفعل لفاعله بالقوة، أو الأثر، لأن الجهل بذلك، لن يفصل بين ‏المثال الذي لا حقيقة له إلا في الخيال، وبين المثال الذي له مادة في كوكب الفعل، وهو قابل للقياس عليه، والإنتاج على شكله. وهو محدد في الصورة المرتبطة بمحضن ‏الحدوث الزماني، والمكاني، وموصول بالطاقة والقدرة البشرية على الاستخلاف، والاستثمار، لأنه شيء مستوعب دليله بالعقل، ويجوز تطابق خياله مع مثاله، ومثاله مع ‏جسده المستقل عنه في المادة، والمتصل به في تفاوت حظ الكسب، ووجه التفاعل .‏
‏ ومن ثم، فإن تفسير ما يقع من الظواهر الفاتكة بالحياة بمقتضى هذا التصور البليد للمبدأ المطلق في عالم السماء، لن يضيف إلى الاعتقاد قوة اليقين في صلوح الأشياء ‏لما يعتريها من إيجاد، وإعدام، ولا فاعلية في التعلق بالفعل التنجيزي الطبعي، والكوني، بل يحدث الخوف في الذات البشرية، ويجعلها منبطحة لكل فعل لا تطيق ‏تفسيره، ولا تأويله، لأن دينامية الموجودات، لا تكتسب من مجرد الاعتقاد، بل مما يعتريها من أوضاع الصلاح، والفساد. وذلك مما يبعدنا عن عالم الإله الواقعي، ‏ويفقدنا حاسة الجمال في تصور أفعاله الحادثة في خلقه بلازم العقل المنظم لمسار الحقائق الوجودية، والموجد لها سببا في مهادها، ومظانها، لأن نسبة قتل الإنسان إلى ‏غضب خالقه، وهو يريده فاعلا، ومنفعلا، لا ينشئ عظمة الخالق في خلقه، بل يغرقنا في بحار الحيرة، والشك، إذ هو في أجلى صفاته، وأكملها في بعدها الاهوتي، ‏والناسوتي، لم يكن إلا رحيما بما ذرأ، وبرأ، وعطوفا على المكلف في حدود مدارات بشريته، ومجالات نجاحه، وإخفاقه، ومتى حصرنا كامل صفاته في شدة الانتقام، ‏والعقاب، فإننا نصيره منفعلا بفعلنا، ومتأثرا بأثرنا، ومنطبعا بطباعنا. وإذ ذاك يكون إلها موسوما ببشريتنا، ومعلولا بما نجعله مصدر قوة أو ضعف في حياتنا. ‏
وذلك، مما يفقد الصورة بهاءها، وسناءها، ويعرينا عن الاختلاط بعالم السماء عند اختلال الموازين بين فجاج الأرض، وبساط مظاهرها في الوحدة، والكثرة، لأنه حين ‏خلقنا بعلاقة الفيض الدائر بين العلة ومعلولاتها، والأدلة ومدولولاتها، لم يمنح مفاتيح كنوز الطبيعة إلا لعقولنا المتوسطة بيننا وبين تجاربنا في الباطن، والظاهر، وحين ‏نغيبها لصورة الاستمداد من مظان الخارق للناموس، فإننا لن نتعرف على أسباب التقدم والحضارة في الطبيعة، ولن نسير إلى برزج النماء، وحقل الصفاء، بل سنتحين ‏الفرص القادمة بالأمل من العدم، لا من سابغ الوجود، لكي تمطر السماء علينا ذهبا، يحول فقرنا إلى غنى، ومرضنا إلى صحة، وخرابنا إلى عمران، وتخلفنا إلى تمدن. فهل ‏يمكن ذلك، ونحن لم نتجاوز حد المعجزات في بناء العقائد المركبة لصورنا الذهنية، وسطوحنا المعرفية، ولم نلج بحر الكون، ولجته الغامرة بالمعاني، لكي نقرأ ما فيه من ‏سنن، وطبائع، وألوان.؟ شيء يريك العقل، ويعطل النظر، ونحن ندعو ولا يستجاب لنا، ونبكي ولا ينظر إلينا. فهل تغيرت العلاقة بيننا وبين السماء.؟ أم اكتفينا ‏بالدعاء، ونسينا ما يقوم به قوام العلم من معرفة الأسباب، والعلل.؟ أم ما زلنا لم نميز بين مدار الخيال، والمادة، والمثال.؟ ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط