الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بهاءالله -إعْلان حَدِيقَة الرّضْوَان (4)

راندا شوقى الحمامصى

2017 / 9 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


وبحلول عام 1863 قرّر بهاء الله أنّ الوقت قد حان لكي يبدأ بإعلام من حوله نبأ الرّسالة التي عهدت إليه أثناء وجوده في غياهب ظلام سجن "سياه چال".

وقد كان هذا القرار الذي اتّخذه بهاء الله بإعلان أمر دعوته قد صادف بدء مرحلة جديدة من حملة المعارضة لنشاطه، وهي الحملة التي شنّها دون هوادة رجال الدّين من الشّيعة وممثّلون عن الحكومة الفارسيّة. وإزاء مظاهر التّرحيب والتّأييد التي بدأ يحظى بها بهاء الله في أوساط الزّوّار الفُرس من ذوي النّفوذ القادمين إلى العراق، شعرت حكومة الشّاه بالقلق وتوقّعت أن يُلهب ذلك مشاعر الحماسة الشّعبيّة مرّة أخرى تجاه الدّين الجديد في بلاد فارس. وقامت حكومة الشّاه تضغط لدى السّلطات العثمانيّة طالبةً نقل بهاء الله إلى داخل الإِمبراطورية العثمانيّة بعيداً عن حدود المملكة الفارسيّة. ورضخت الحكومة العثمانيّة أخيراً للضّغوط الفارسيّة، فوجّهت الدّعوة إلى بهاء الله، وهو السّجين المنفيّ، ليحلّ ضيفاً عليها ويتّخذ من عاصمتها الآستانة مقرّاً لسكناه. ورغم اللهجة المؤدّبة التي وجّهت بها رسالة الدّعوة، فقد كان واضحاً أنّ الهدف من ذلك لم يكن إلاّ فرض القبول للأمر الصّادر والامتثال له.

وكان رجال تلك الفئة القليلة من المنفيّين المخلصين، بحلول تلك الآونة، يركّزون جلّ اهتمامهم على شخص بهاء الله وعلى بياناته الكريمة التي شرح فيها رسالة الباب وتعاليمه. وساور عدداً متزايداً منهم الاعتقاد بأنّ بهاء الله ما كان يتحدّث كمدافعٍ عن أمر الباب فحسب، بل إنّه كان يتحدّث نيابة عن ذلك الأمر الأخطر شأناً الذي أعلن عنه الباب ووعد بأنّه وشيك الظّهور. وتأكَّد هذا الاعتقاد نهائيّاً ليصبح حقيقة واقعة في أواخر شهر نيسان (إبريل) عام 1863 حين دعا بهاء الله نفراً من صحابته إلى حديقةٍ سُمّيت فيما بعد "بحديقة الرّضوان" وأَسرَّ إليهم كُنهَ رسالته. وكان ذلك عشيّة رحيله عن بغداد إلى الآستانة. وبالرّغم من أنّ الأمر لم يكن يستدعي حينئذٍ إعلاناً مفتوحاً، فقد قام في غضون السّنوات الأربع التّالية أولئك الذين أنْصتوا إلى بهاء الله يعلن دعوته، بإشراك أحبّائهم المخلصين بما علموا من أنّ وعود الباب قد تحقَّقت، وأنَّ "يوم الله" قد انبلج فجُره.
أمّا الظّروف والملابسات الصّحيحة لهذا الإعلان الخاصّ فقد غرقت، حسب ما ذكره أحد الثّقاة البهائيّين الأكثر إحاطةً بسجلّ احداث تلك الفترة، "... في غموض سوف يجد مؤرّخو المستقبل أنّه ليس من السّهل عليهم اختراقُ غياهبه." غير أنّه قد يمكن لنا أنْ نستخلص ماهيّة ذلك الإعلان وندرك مدى أهميّته من فحوى الإِشارات المختلفة إلى بعثته والتي أوردها بهاء الله فيما نزل من قلمه في وقت لاحق:

"إنًّ غايَةَ خَلْقِ الوُجودِ ظُهورُ هذا اليَوْمِ الأمْنَعِ الأقْدَسِ، الذي جاءَ ذِكْرُهُ في صُحُفِ اللهِ وَكُتُبِهِ وَزُبُرِهِ وَلُقِّبَ بِيَوْمِ اللهِ، وَهُوَ يَوْمٌ طَلَبَ لِقاءَهُ كُلُّ الأنْبِياءِ وَالأولِياءِ وَالأصْفِياء..."
(مترجم عن الفارسية)

"هذا يَوْمُ المُشاهَدَةِ وَالإِصْغاءِ، لَقَد ارْتَفَعَ النِّداءُ، وَلاحَتْ أنْوارُ الوَجْهِ مِنْ أفُقِ مشْرِقِ الظُّهورِ، وَعَلى الكُلِّ أنْ يَمْحوا ما سُمِعَ مِنْ قَبْلُ، وَأنْ يَنْظُروا بِالعَدْلِ وَالإنصافِ في آياتِهِ وَبَيَاناتِهِ وَظُهوراتِهِ..."
(مترجم عن الفارسية)

وكما يؤكّد لنا بهاء الله مراراً في بياناته التي يشرح فيها بعثة الباب، أنّ الغاية الأساسيّة لله في إظهار مشيئته هي تغيير نفوس البشر، فينمّي في أولئك الذين يستجيبون لدعوته ويُقبلون عليه تلك الصّفات والمزايا الرّوحيّة والخلقيّة الكامنة في جوهر الإِنسان:
"قُلْ يا قَوْمُ زَيِّنوا لِسانَكُمْ بِالصِّدْقِ وَنُفوسَكُمْ بِالأمانَةِ. إيّاكُمْ يا قَوْمُ، لا تخانوا في شَيْءٍ. وَكونوا أُمناءَ اللهِ بَيْنَ بَرِيَّتِهِ، وَكونوا مِنَ المُحْسِنينَ."

"أنْ أنيروا قُلوبَكُمْ وَطَهِّروها مِنْ أشْواكِ الضَّغينَةِ وَالبَغْضاءِ، إنَّكُمْ أهْلُ عالَمٍ واحِدٍ، وَخُلِقْتُمْ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، فِطوبى لِنَفْسٍ تُعاشِرُ كُلَّ الأنامِ بِتَمامِ المَحَبَّةِ وَالوِئامِ..."
(مترجم عن الفارسية)

ويُعلن بهاء الله أنَّ مظاهر العنف والإكراه التي اتّسمت بها الجهود المبذولة لنشر الأديان في سالف العصور والأزمان، باتت الآن لا تليق "بيوم الله". فواجب كلّ مَنْ آمن بالظّهور الإلهيّ أن يُبلّغ أولئك الذين يعتقد بأنّهم يبحثون عن سبل العرفان، على أن يترك لهم كامل الخيار فيما يتّخذونه من قرار:

"أنْ اسْلُكوا بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ بِالمَحَبَّةِ وَالرِّفْقِ وَالمُداراة، فَإذا عَجِزَتْ نَفْسٌ عَنْ إدْراكِ بَعْضِ مَراتِبِ الحَقيقَةِ، أوْ قَصَّرَتْ في الوُصولِ إلَيْها، عَلَيْكُمُ التَّكَلُّمُ مَعَها بِتَمامِ اللُّطْفِ وَالشَّفَقَةِ..."
(مترجم عن الفارسية)
"إنَّ الأصْلَ في هذا اليَوْمِ هُوَ الاغْتِرافُ مِنْ بَحْرِ فُيوضاتِهِ، وَلَيْسَ النَّظَرَ إلى مِقْدارِ ما يَصِلُنا مِنْ فَيْضٍ قَليلاً كانَ أمْ كَثيراً..."
(مترجم عن الفارسية)

وإزاء خلفيّة الأحداث الدّمويّة التي جرت في بلاد فارس خاطب بهاء الله أتباعه آمراً إيّاهم ليس فقط بقوله: "أنْ تُقْتَلوا خيرٌ لَكُمْ مِنْ أنْ تَقتُلوا"، بل حثّهم أيضاً على أن يكونوا مضرب المثل في إطاعة السّلطات المدنيّة، إذ قال ما ترجمته "إنَّ هذا الحِزْبَ إذا أقام في نِطاقِ أيَّةِ دَوْلَةٍ مِنَ الدُّوَلِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَ مَعَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ مَسْلَكَ الأمانَةِ وَالصِّدقِ وَالصَّفاءِ."

برهنت الظّروف التي أحاطت برحيل بهاء الله عن بغداد على صدق هذه التّعاليم وأكّدت نفوذها بصورة مثيرة. ففي غضون سنواتٍ قليلة تحوّلت تلك الزّمرة من المنفيّين الغرباء، الذين استقبلهم جيرانهم لدى وصولهم إلى المدينة بالرّيبة والامتعاض، لتصبح أكثر القطاعات الشّعبيّة احتراماً ونفوذاً. فقاموا بأود أنفسهم بما كان لهم من تجارة رابحة، ونالوا كطائفة إعجاب النّاس لما تحلّوا به من كرمٍ وجود، وما أظهروه من أمانة في معاملاتهم ومسلكهم. ولم يعد الرّأي العام ليتأثّر بعد ذلك بالادّعاءات والمزاعم الشّنيعة من التّعصّب والعنف، يروّجها دون كلل موظفو السّلك القنصليّ الفارسيّ ورجال الدّين من الشّيعة. وكان بهاء الله قد غدا، بحلول الثّالث من أيار (مايو) عام 1863، وهو اليوم الذي غادر فيه بغداد إلى الآستانة على صهوة جواده ـ تصحبه عائلته ومن تمّ اختيارهم من أصحابه وخدمه ـ كان قد غدا شخصيّة أحبّها النّاس وأجلّوها، واكتسبت عندهم شعبيّة جارفة. وشهدت الأيّام التي سبقت الرّحيل والوداع مباشرةً سيلاً من الوجهاء الزّوّار بما فيهم الوالي نفسه، جاءوا إلى "حديقة الرّضوان" التي كان بهاء الله قد اختارها مقرّاً مؤقّتاً لإقامته، ليقدّموا له فروض الاحترام. وقد قطع الكثير منهم مسافات شاسعة لوداعه. وصوّر شهود عيان ذلك الرّحيل بكلمات تثير المشاعر، فوصفوا ما لَقِيَهُ بهاء الله من تكريم وتهليل، وما ذرفه الحاضرون من دموع، وما ساور السّلطات العثمانيّة والموظّفين المدنيّين من حرصٍ في إظهار كامل الاحترام والتّبجيل لزائرهم العظيم.

المراجع

19 انظر الحاشية 67 أدناه.

20 "كتاب القرن البديع" ص187، بعد عام 1863، زاد انتشار استعمال كلمة "بهائيّ" بدلاً من كلمة "بابيّ" لتمييز أتباع الدّين الجديد، وقد كان ذلك إثباتاً لحقيقة أنّ ديناً جديداً مستقلاً قد بزغ نوره.

21 مقتطف من الأصل الفارسيّ ورد في ترجمة كتاب شوقي أفندي إلى الفارسيّة
Shoghi Effendi, The Advent of Divine Justice (Wilmette, Bahá---’í--- Publishing Trust, (1983, بعنوان "ظهور عدل الهي". (ويلمت، لجنة أمور احبّاي إيراني، 1985) ترجمة نصر الله مودّت، ص160.

22 بهاء الله، "منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله" (لانكنهاين، ألمانيا، لجنة نشر آثار أمري 1984) ص15. يحتوي الكتاب على مجموعة من المقتطفات العربيّة والفارسيّة. يشار إلى هذا المصدر فيما بعد بكلمة "منتخباتي".

23 المصدر السّابق أعلاه، ص190.

24 المصدر السّابق أعلاه، ص214.

25 المصدر السّابق أعلاه، ص13.

26 المصدر السّابق أعلاه، ص14.

27 البيانان وردا على لسان عبد البهاء، مقتطف من "منتخبات من كتاب بهاء الله والعصر الجديد: مقدّمة لدراسة الدّين البهائيّ"، تأليف الدّكتور جون اسلمنت (بيروت، طبع مؤسّسة دار الرّيحاني، 1972) ص187. وأيضاً من كتاب "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله: نزلت بعد كتاب الأقدس" (بروكسل، من منشورات دار النّشر البهائيّة في بلجيكا، 1980) ص39. يشار إلى المصدر الأوّل بالعنوان المختصر "بهاء الله والعصر الجديد" وإلى المصدر الثّاني بالعنوان المختصر "مجموعة من ألواح بهاء الله".

28 للاطّلاع على عرض مفصَّل لهذه الأحداث راجع "كتاب القرن البديع" ص157-192.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح


.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي




.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي


.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل




.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل