الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البديل الحضاري الإسلامي عند أنور الجندي(4)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2017 / 9 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



فكرة وتأسيس الأسلمة الشاملة

وفيما لو تركنا الماضي وخلافاته، فان المهمة التي حاول أنور الجندي تنفيذها وبلوغ ما اسماه بأسلمة المناهج من اجل إعادة توحيد الذات الإسلامية بمفاهيمها وقيمها الخاص. من هنا اعتقاده القائل، بان "الرد على التغريب والشبهات جاءت في العصر الحديث على لسان الإمام حسن البنا". بل ونراه يستكملها فما اسماه بالمراحل الأساسية التي قطعتها "هذه اليقظة الإسلامية في تصحيح المفاهيم" من خلال "عودة المرأة المسلمة إلى البيت والحجاب:، و" ظهور المصارف الإسلامية"، و"تطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان والسودان"، و"غلبة مفهوم الإسلام الجامع دين ودولة ونظام ومنهج في مطلع القرن الخامس عشر الهجري" . وبغض النظر عن هذه المراحل "الغبية" في تصوير النهضة الإسلامية الحديثة أو بعض مؤشراتها المهمة، إلا أن الشيء الأكثر جوهرية في مجال "الفكر النظري" هو ما وضعه من رؤية منهجية ومفاهيم نقدية.
ينطلق أنور الجندي من مقدمة عامة تقول باختلاف الرؤية والمنهج في التفكير الاسلامي والغربي وبالأخص في مجال الإنسانيات اختلافا عميقا. وما يميز المنهج الغربي بهذا الصدد هو انه يتعامل مع الإنسان وقضاياه تعامله مع قضايا الوجود المادي . إضافة لذلك، أن "منهج البحث الغربي خاص وليس عام، انه محلي وليس عالمي". فالمنهج الغربي، حسب عبارة أنور الجندي، لا يعتبر حاكما، لأنه لا يستطيع أن يقف موقف العدل المنصف في النظر بين وجهتي نظر مختلفتين ليقول أيهما اصدق واعدل وأكثر خيرا للبشرية في حاضرها ومستقبلها . من هنا حكمه القائل برفض "النظرية الغربية التي تقول أن المعرفة مادية وان الثقافة عالمية، وان الفلسفة تعطي الجواب لكل أحداث الحياة والفكر" . كما أن من الصعب القبول بالرؤية التاريخية للغرب. فمن الناحية المجردة من العسير إخضاع حرية الإرادة الإنسانية إلى قانون علمي ثابت . كما يتعذر إجراء التجارب في مجال العلوم الإنسانية. إضافة لذلك أن مقررات العلوم الإنسانية، على عكس الطبيعية، تاريخية وشخصية، ومن ثم لا تجرد في مواقف الباحث تجاه القضايا الإنسانية . وقد يكون نموذج الاستشراق دليلا حيا على ذلك. فقد كان وثيق الارتباط بالتبشير والكولونيالية . وتبرز ملامح هذه الرؤية الغربية بوضوح في مواقفها من التاريخ وكيفية تفسيره. فقد حاولوا تفسير التاريخ الاسلامي استنادا إلى فكرة "الغنيمة والكسب". كما اعتبروا "الدعوة الإسلامية دعوة أرضية وليست سماوية"، ومن ثم "إلغاء صفة الإلهية والربانية عن الإسلام" وبالتالي "تفسير تاريخ الإسلام على انه تاريخ العرب" . ووضع أنور الجندي هذه المقدمة الدينية اللاهوتية عن "الرؤية الغربية" و"المنهج الغربي" في أساس حكمه القاطع عما اسماه بوقوف "المنهج الاسلامي" بالضد منهما. انطلاقا من أن "المنهج الاسلامي" يعتقد اعتقادا جازما بان "الدين الحق هو الذي يعطي الإجابة الصحيحة لمفاهيم العقائد والغيبيات والمجتمع، وانه وحده الذي يستطيع أن يفسر وجود الله وخلق البشر وخلود الروح. أما الفلسفة فقد عجزت بعد أن عجز العلم" . ذلك يعني إنهما يتلفان اختلافا جوهريا .
وقد شكلت الآراء والأحكام السابقة مقدمة عامة لتأسيس فكرة البديل الحضاري الإسلامي عبر أسلمة المناهج والرؤية النظرية والعملية. وانطلق في توسيع مدى هذه الرؤية والموقف من فكرة عامة تقول، بان التجربة الغربية تتعارض مع طبيعة تكوين الأمة الإسلامية. وبالتالي، فان "المجتمع الاسلامي رفض ويرفض التجربة الغربية ليس في مجال النظام السياسي بل والاجتماعي والحضاري" . والسبب هو أن "الإسلام دين ديمقراطي" ويحتوي على فكرة المساواة بين البشر، وينص على مبدأ الشورى، وخضوع الحاكم للشرع . بعبارة أخرى، إن "الإسلام يجعل السيادة للشرع وليس للشعب. والحاكم في الإسلام نائب عن الأمة" . كما أن التاريخ الإسلامي لا يعرف التيوقراطية. وان توحيد السلطتين الدينية والدنيوية في الإسلام لا يؤدي إلى شيء من التضارب . الأمر الذي جعل من حكومة الإسلام في تطبيق مبادئه ليست إلهية بل بشرية تخضع للنقد وتقبل الشورى وتقبل رأي الإنسان واجتهاده . ما حدد بدوره "رسالة الإسلام" باعتبارها أعمق حركات التحرر، وتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، والوثنية، وما غير الله . وهذا بدوره ليس معزولا عن كون الإسلام كان ولا يزال غضا طريا . وكل ذلك مستق من الموقف الاسلامي مبني على أساس ثباته وأحقيته الدائمة والمطلقة. وبالتالي ليست هناك من ضرورة لان يسعى لملائمة قيمه وعقائده وأخلاقه مع متغيرات الحضارة والمجتمعات، بل على العكس، أن المجتمعات ينبغي أن تتواءم مع قيم العقائد والأخلاق الثابتة . من هنا "لا خلاص إلا بالخلاص من تأثير الفكر الغربي". وهذا ممكن "عبر التفكير من الداخل" . بعبارة أخرى، إن المهمة تقوم في تحرير القيم . ذلك يعني أن المهمة تقوم في التماس ما أطلق عليه أنور الجندي عبارة "حركة الأصالة"، بوصفها المرحلة الأخيرة من حركة اليقظة العربية الإسلامية اعتمادا على منهج القران . وذا بدوره يفترض إعادة بناء الفكر الاسلامي، أي كل ما نعثر عليه في فكرته عن "أسلمة المناهج" بما يتطابق مع خصوصية الإسلام في الفكر والثقافة والتاريخ والدين.
ففي مجال الفكر يفترض ذلك أولا وقبل كل شيء "إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام". وقد بلوها أنور الجندي برؤية مفادها، أن الأثر الذي تركه الاستعمار عبر الصحافة والتعليم قد أدت إلى "حرف مسار العالم العربي والإسلامي عن الوجهة الصحيحة" . فقد "أخذت في اللمعان أسماء عديدة بأثر الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 وبعده، أي في بداية القرن الرابع عشر الهجري. وقد بثوا "سمومهم التي تحولت إلى أفكار شبه مسلم بها". من هنا مهمة نقدها وإعادة تصحيح الوعي. فقد كانت هموم الصحافة إحياء ذكرى المغنين والراقصات والفنانين، بينما يغيب عنها رجال الفكر والأدب والصحافة . بحيث تحول تاريخ مصر في هذه الصحافة إلى كمية من الترهات والتفاهة المتعلقة بالبغايا والعربدة والانحطاط. وتحول الكتّاب الكبار إلى "قناطر للفكر الغربي". بحيث نرى طه حسين يدعو إلى فصل اللغة والأدب العربي عن الإسلام. والشيء نفسه يدعو إليه ساطع الحصري في مجال القومية. وكذلك يفعل علي عبد الرازق في دعوته إلى فصل الدين عن المجتمع. بينما يرّوج سلامة موسى لمفاهيم فرويد والجنس. ويدافع إسماعيل مظهر عن الدارونية. ويتوسع محمود عزمي في التطبيل لحضارة البحر المتوسط. وتنصب هموم عبد الرحمن بدوي في الدفاع والنشر عن الفلسفة الوجودية . كل ذلك يشير إلى أن آراءهم مستمدة من خليط ثقافي وبلا منهج عام. وهو نموذج للمدرسة العلمانية الغربية مع ضعف أو عدم دراية بوجهة النظر الإسلامية .
لكننا نراه بالمقابل يبحث عمن لم تتوفر له الشهرة بسبب أصالته الثقافية والإسلامية، أي كل أولئك الذين أسسوا للذات الإسلامية والعربية الإسلامية. وقد افرد لهم كتاب توسع فيه. كما افرد كتبا خاصة لبعض نماذجهم المتميزة مثل احمد زكي، وزكي مبارك. فقد أسهب في إبراز شخصية احمد زكي(شيخ العروبة). واعتبره من ابرز أعلام النهضة الفكرية العربية على امتداد قرن من الزمن (1840-1940). بحيث نراه يضعه في مصاف "نوابغ العرب المعاصرين أمثال محمد تيمور، وفريد وجدي، ومصطفى الغلاييني، وداود بركات، ورشيد رضا، وشبلي شميل، وأمين الرافعي، وعبد الحميد بن باديس، ومارون عبود، و نقولا حداد.
إذ وجد في احمد زكي (1867-1934) "الرائد المصري الأول" لإحياء آداب العربية، والبحث عن ذخائر المخطوطات وجمعها، والعلامة الباحث الذي حقق عشرات القضايا والمواقف والمواقع والإعلام وأسماء البلدان وكلمات اللغة . فمن أبرز معالم حياته العمل من اجل إحياء الآداب العربية، ورحلاته وبالأخص للأندلس والشام، وتحقيقاته ومراجعاته في الأدب والتاريخ والجغرافيا، والكشف عن أمجاد العرب والإسلام، وأخيرا اهتمامه الأكبر بالأندلس. فهو صاحب عبارة "الأندلس الفردوس الاسلامي المفقود" . ذلك يعني أن حياته ارتبطت بإبداعه الأدبي. فقد "كان مفكرا مصريا عربيا". وهذا لم يكن معزولا عن تمثله للكل العربي بمشرقه ومغربه ووسطه. إذ هو مغربي الأصل، فلسطيني المنبت، مصري الأرومة. من ثم كان مستعدا استعدادا كاملا، كما يقول أنور الجندي، للدفاع عن مقومات الفكر العربي والأمة العربية .
وقد تبلورت شخصيته بأثر التيارات العربية الأصيلة في الفكر والممارسة. إذ تأثر أولا بأعلام النهضة الأولى التي رفع رفاعة الطهطاوي لواءها في مجال الترجمة من الفرنسية ، وثانيا بالنهضة التي قادها الأفغاني ، وثالثا بالنهضة التي قام بها محمد عبده . وظهر ذلك بوضوح في مواقفه من التاريخ القومي والثقافة العربية الإسلامية. من هنا فهم احمد زكي للتراث وتحديده إياه بوصفه "البذرة الأولى ليقظة الشرق"، و"وسيلة البعث والبناء للأمة". وسعى في كل أبحاثه العميقة والدقيقة في التاريخ والتراث لكشف أمجاد العرب. وبرهن على أن العرب سبقوا الإفرنج إلى التفكير في كشف أمريكا، كما برهن على ذلك الإمام الأصفهاني الذي اثبت بطريق الاستنتاج المنطقي والدليل الجغرافي وجوب وجود أمريكا. كما كانوا السباقين في حل مسالة الطيران، وفي اختراع كتابة العميان ، كما هو جلي في كتاب صلاح الدين الصفدي (نكث الهميان في نكت العميان) (وزين الدين الآمدي) الذي كان أول من وضع فن الكتابة للعميان. كما إنهم أول من اخترع الشفرة. وكان أصلها من الكلمة العربية الصفر ولاحقا الحفر، وذلك لأنهم استعملوا الأرقام. والصفر تعني بالنسبة لهم الرقم. كما عرفوا كروية الأرض، واكتشفوا منابع النيل وما إلى ذلك من أمجاد علمية.
وقد حدد ذلك فكرته عما اسماه بوحدة حضارة المشرق العربي من أصولها. بل ونراه يعتبر حضارة البحرين القديمة هي نفسها في الشام وسواحل لبنان وفلسطين. من هنا مهاجمته لمختلف الدعوات التفتيتية للعرب من فرعونية وفينيقية وما شابه ذلك. لهذا نراه ينتقد ويدقق الأسماء العربية ويدعو للرجوع ألبها وبصفها وحدة ثقافية وجمالية ولغوية بآن واحد. فهو ينتقد أسماء بور سعيد وبور توفيق وبور فؤاد ويدعى إلى إتباع الطريقة الجميلة المميزة للعربية مثل العزيزية المنسوبة إلى العزيز الفاطمي، والجمالية إلى الأمير بدر الجمالي. بل نراه يعتبر الصيغة الأولى (الإفرنجية) مهانة مزدوجة للتاريخ واللغة. كما انتقد عدم الدقة في ترجمة الأسماء والمدن وما شابه ذلك عبر إرجاعها إلى أصولها العربية، مثل ضرورة القول الاطلطني وليس الأطلسي، وذلك لان كلمة الأطلسي تخلط وتجمع بين الاطلنط البحر والأطلس الجبل. لقد كان احمد زكي كان غيورا إلى ابعد حد تجاه التراث العربي الاسلامي. وحريص على تحقيق الروايات التي تؤكد وحدة الأمة العربية ، بما في ذلك مواقفه من مالطا والأندلس. وصور ذلك بعبارات تقول، بان وراء مظاهرهم كينونة عربية في اللغة والثقافة.
كما عمل على اختصار حروف الطباعة وتدقيقها الفني كالنقطة والفارزة وما شابه ذلك. ووجد في الطريقة العربية القديمة التي أشار إليها السرنجاوي والشاطئ لا تختلف عن الطريقة الأوربية الحديثة إلا في جزيئات طفيفة. وسعى بكل طاقته للحصول على المخطوطات العربية بوصفها إرثه، وكذلك الحصول على نفائس الكتب العربية التي طبعها الأوربيون. وجمع إحدى اكبر المكتبات الشخصية آنذاك في مصر.
وقد حددت رؤيته التاريخية والثقافية مواقفه السياسية. ففي موقفه من الخلافة، عارض خديوي مصر الملك فؤاد للاستحواذ عليها. وبايع الشريف حسبن بن علي انطلاقا من رجوعها إلى قريش والعرب. ولكنه في الوقت نفسه اعتبر الخلافة شيئا رمزيا بعد أن خرجت من العرب منذ القرن التاسع. ودافع عن عروبة البحرين ضد مساعي إيران آنذاك للسيطرة عليها. كما كانت قضية فلسطين كانت بالنسبة له قضية جوهرية. وكتب بهذا الصدد يقول، بان فلسطين فرع ذكي من تلك الدوحة الشقيقة – الشام، والشام بقعة مباركة من جبال العلايا (طوروس) شمالا إلى شجرتي العريش جنوبا، ومن ضفاف الفرات إلى شطوط البحر الأبيض المتوسط. ولم يضع فكرة العروبة بالضد من مكونات العالم الاسلامي، بل على العكس. وقد تكون فكرته عن وحدة العالم العربي والفارسي والتركي من بن أكثرها دقة بهذا الصدد. فقد كان من المؤمنين بأهمية ووحدة هذه الأمم. واعتبر أن كل أمة ينبغي أن تعمل لنفسها ووحدتها وقوتها وعدم إعاقة الآخر، عندها يعود لهذا العالم ما كان له من الرجحان.
لقد كان احمد زكي، حسب عبارة أنور الجندي من رواد "البناء على الأساس" أو المدرسة التأسيسية. ذلك يعني أن شخصيته الباطنة والحقيقية تراكمت بأثر التيار الأكثر أصالة في ميدان النهضة الأدبية والفكرية والسياسية والثقافية. من هنا يمكن فهم محددات دفاعه العميق والمتجانس عن مقدرات الأمة العربية وتراثها. الأمر الذي يشير، كما توصل أنور الجندي، إلى أن "النهضة الإسلامية كانت ذات توجه عربي" من حيث أصولها.
وطبق نفس موقفه هذا من "الملاكم الأدبي" زكي مبارك (1892-1952). كان رجلا صريحا سليم السريرة، بحيث نراه يقول "لو أن الناس كشفوا عن سرائرهم كما يكشف الشيطان، لأصبحوا ملائكة" . الأمر الذي طبع آراءه ومواقفه الحياتية بطابع التضارب متضاربة شأن الحياة. لكن الثابت فيها والدائم هو مواقفه الوطنية والقومية والعلمية المتجانسة. فقد بدأ اهتمامه بالأدب والشعر والخطابة وانتهى به. وفي مجرى حياته شارك في ثورة 1919، وتأثر بالتصوف ثم انتفض ضده ثم رجع إليه. وتجول في العالم العربي. وعشق العراق بحيث نراه يقول "ما ذقت طعم الحياة إلا في العراق"، و"لا رأيت صدق القلوب إلا في العراق"، و"ما عرفت جمال النيل إلا بعد أن رأيت لون ماءه في دجلة والفرات" . وهي صور تعكس تراكم شخصيته الوطنية والقومية العربية بأسلوب يتسم بالعاطفة والوجدان. كما كان شجاعا غيورا أبيا. بدأ أزهري التعليم ثم تمرد على تقاليد الحشو والتقليد. وخاض معارك أدبية وفكري عنيفة ضد "تيار التغريب" والتقليد والنزعات الوطنية الضيقة، كما هو الحال عند طه حسين واحمد أمين بوصفه بوقا لآراء طه حسين ، وسلامة موسى وشوقي وغيرهم من الشخصيات المرموقة آنذاك في مصر. وقد كان صراعه مع طه حسين عميقا ودقيقا يكشف فيه عن ضعف تكوينه النظري والفكري والعلمي والمعرفي. اعتماد على أن كل ما عنده وفيه سرقة وتقليد في زمن كان محكوما بتقاليد المجاملة وليس بمعايير النقد العلمي. كما حاول إبراز شخصية طه حسين، باعتبارها شخصية ضعيفة بالمعنى الفكري والأخلاقي .
فقد كان زكي مبارك، هو حسب عبارة أنور الجندي، "من اصدق الناس إيمانا بمصر والقومية العربية واللغة العربية" . وموقفه العام من القومية العربية يتناسب مع فكرة "لعربي من يتكلم العربية". أما تطبيقها العملي فيقوم في فكرة ضرورة النزول من الوجدان إلى اليقين فيما يخص الفكرة العربية. وان الإسلام والعروبة متداخلان. فالنبي محمد أول عربي رفع بالإسلام العرب إلى العلا . وانه لا خلاص "للأمم العربية" إلا باتحادها. وهذا يفترض في البدء ضرورة إحياء الذاكرة والأمجاد. من هنا انتقاده الشديد للتقليد الفج للتراث الأدبي والسياسي الأوربي. فقد انتقد بشدة الشخصية الأوربية (العلمية والسياسية) بوصفها شخصية مخادعة وغدارة. وفي الوقت نفسه يدعو إلى بلورة أدب عربي يتناول الشخصية العربية . لقد وجد أنور الجندي في زكي مبارك "مرآة للعصر" الحرة، اي التي لم تكن "صنيعة حزبية"، والتي عكست "جانبا قويا من تاريخ العرب الأدبي" .
كما تناول مختلف الشخصيات الأخرى "المغمورة" أو التي لم "ينصفها جيلها". وحاول من خلال الاستعراض المكثف لأبرز ملامحهم الشخصية وأفكارهم إبراز العناصر العليمة الثقافية الأصيلة في إبداعهم وآراءهم القومية العربية السليمة والمنفتحة وانتمائهم لعالم الثقافة الإسلامية بغض النظر عن أديانهم. وتطرق إلى شخصيات عديدة لم يفرد لهم كتبا مستقلة، حاول من خلال عناوين المقالات إبراز الصفة الرئيسية لإبداعه مثل محمد عبيد "شهيد التل الكبير"، وعبد السلام المويلحي "أول صوت ضد الاستبداد"، وعبد العزيز جاويش "القلم المر الذي قاوم الانجليز"، وعمر لطفي "رائد التعاون"، ومحمد عياد الطنطاوي "نقل اللغة العربية إلى روسيا"، واحمد كمال "الفراعنة من اصل عربي"، وعبد السلام ذهني "اللغة العربية في المحاكم المختلطة"، وحسن توفيق العدل "رائد تاريخ الأدب العربي"، ومحمد تيمور "أول مسرحية عربية"، ومحمود أبو العيون "الكاتب لجرئ الذي فضح الانجليز"، واحمد وفيق "أول مؤلف في علم الدولة"، واحمد محرم "شاعر عزف عن النفاق"، وفيليكس فارس "الإيمان بعظمة الأمة العربية"، وكامل كيلاني "رائد أدب الطفل" .
إن الحصيلة التي أراد أنور الجندي التوصل إليها بصدد الموقف الاسلامي البديل في مجال الفكر تقوم فيما اصطلح عليه بعبارة وفكرة الأسلمة، بوصفها الرد الجوهري على مفاهيم المعاصرين من ذوي التيارات غير الإسلامية. من هنا انتقاده لما اسماه بالمواءمة، اي التوفيق بين الإسلام وغيره. واعتبر ذلك مجرد جهد لا اثر فعلي له كما انه مرفوض، انطلاقا من أن الإسلام مكتف بذاته. من هنا لا معنى للمواءمة بين الشورى والديمقراطية. إذ ليس في الإسلام حكومة تيوقراطية. كما أن الإسلام ليس دينا روحيا وعبادة. انه عقيدة ومنهج حياة . كما لا تصلح كلمة الإصلاح الديني عليه، لانها عبارة غريبة ضالة لا تطابق مفهوم الإسلام. إذ لا توجد في الإسلام كلمة إصلاح كما لا توجد كلمة تطور التي كلف بها توفيق الحكيم وأمثاله . وينطبق هذا على فكرة العقلانية. بمعنى انه لا يمكن إرجاع الإسلام إلى مفاهيم من هذا القبيل. فالإسلام ليس عقلانية معتزلة، ولا فلسفة كلامية، ولا صوفية حدسية. وكل من يستقل بوجهة من هذه الوجهات لا يمثل الإسلام في مفهومه الأصيل الجامع، كما دعا إلى ذلك ابن تيمية . فالإسلام يقف من العقل موقف جعل منه مناط التكليف. لكن العقل مع ذلك هو مجرد مصباح يضيئه الوحي فلا يستطيع أن يهتدي بنفسه. والعقل على إطلاقه يعيش في محيطه. فإذا كان محيطه وثنيا كان عقلاً وثنيا، وان كان محيطه ماديا أو روحيا صار كذلك ماديا أو روحيا. وبالتالي، فهو "لا يصلح إلا إذا نشا وتشكل في إطار المفهوم الاسلامي الصحيح" . وكل ذلك محكوم في نهاية المطاف بالمبدأ الأساسي القال، بان الإسلام "لا يقبل أن يشاركه شيء من أوراق الوثنية أو الديانات السابقة عليه" . وليس مصادفة أن يجري إطلاق مصطلح "المشائين" على الفلاسفة المسلمين، باعتبارهم حلقة من المشائين اليونان . ومن كل هذه التأويلات اللاهوتية والأيديولوجية توصل أنور الجندي إلى أن الانفتاح والاقتباس بالنسبة للإسلام ممكن في الوسائل، وغير ممكن في المنهج والأهداف . لهذا فان الاستشهاد بأقوال ومواقف المصلحين الإسلاميين مثل محمد عبده وغيره لا تكفي. وذلك لان ما قالوه بهذا الصدد كان جزء من مرحلة ماضية، إضافة إلى أن الواقع تجاوز أقوالهم وآراءهم ومواقفهم فيما يتعلق بفكرة الأصالة والرجوع إلى الأصول .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في معرض البندقية


.. الهجوم على رفح أم الرد على إيران.. ماذا ستفعل إسرائيل؟




.. قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في المحادثات بين إسرائيل وحماس


.. إسرائيل تواصل قصف غزة -المدمرة- وتوقع المزيد من الضحايا




.. شريحة في دماغ مصاب بالشلل تمكّنه من التحكّم بهاتفه من خلال أ