الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعدد الزوجات بين فحوى النص المخصوص، وعدوى الواقع المفحوص. -1-

جميل حسين عبدالله

2017 / 9 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تعدد الزوجات بين فحوى النص المخصوص، وعدوى الواقع المفحوص.

-1-

تمهيد

بعد أن اكتوى كثير منا بشؤم ‏التعدد، وبلؤم ‏متاعبه في الحياة ‏الفردية، والجماعية، أعيد نشر النص، ‏مع إضافات، وزيادات، يقتضيها تمام الموضوع، ‏واستيفاءه لعناصره، ‏لكي أحيي النقاش في الموضوع من ‏‏جديد، وأثير حوله مجموعة من ‏الإشكالات التي ‏يتضمنها بالتزام، و انطباع، ‏لأنني أعتبر التعدد المطلق من قيده ضررا ‏على ‏المجتمعات البشرية، وخطرا في بناء ‏مستقبل ‏الإنسانية، إذ هو لا يدل إلا ‏على فحولة مخزونة أنماط ‏سلوكها ‏في العقل العربي، وذكورة ‏تتزاوج فيها صور ‏السرير بتواشيح المتعة المعتصرة للبنها من ثدي الدين، ‏وغموض في المشاعر، والأحاسيس، والنيات المكتومة ‏بين دياجير المجتمعات المتخلفة، لأنه بدون موجب ‏‏عقلي، وديني، تراعى فيه شواهد ‏الحق على الاحتياج إلى ‏تنوع ‏الزيجات، وتعددها، لا يقوم مهد التعدد إلا ‏بهذا الدافع ‏النفسي، والاجتماعي، إذ هو التعبير ‏عن ‏سر تختزنه الذات في عمقها ‏المستعر بالشهوات، ‏والنزوات، والإفصاح عن قوة ‏تستلزم الاحتماء ‏بوافر النسل، والتترس ‏بسابغ الكثرة في مضمرات العصبية. وإلا، أليس من ‏الأولى ‏أن ننظر في هشاشة وضعنا إلى ‏ضرورة صناعة ‏النوع السوي، ‏بدلا من التماهي مع هوج ‏الغريزة التي ‏تكشف عن مكامن الضعف في ‏العقل، ‏والتصور، والنظر.؟ أليس من ‏الأجدر بنا أن نلتزم ‏بنص الدين، ما ‏دام العدل غير متوافر شرطه في ‏واقع ‏مادي، التبس فيه الحق ‏بالباطل، وغدا التلبيس فيه ‏شعارا ‏للاعتدال، والاستقامة.؟ قد يكون ‏هذا مثيرا ‏للعقل المرتكز على ‏ظاهرية النصوص، والمتمدد على ‏بساط حظوظ واقعه ‏بخرافات التاريخ، وأساطير ‏الحضارة، ‏لكنها الحقيقة التي يكتشف دنف ‏موردها ‏كل من التوى على ‏ذاته بنازع الألم، ووازع الورم، ‏وهو يرى ‏فقدان صورة الجمال في مفهوم الإحسان ‏الذي يدندن به كثير من ‏القصاص المغالين بتكثير ‏السواد، لأنه ‏الكمية العظمى التي تصوغ غد ‏الإنسان في ‏المجتمعات المتصارعة ‏حول بقائها المرغوب في سياق يضمن لها ‏ضرورة الحياة الكريمة.! ربما ‏قد يكون مجموع الحالات ‏التي ‏تلاشت معها معاني الوصل، ‏ومباني الربط، لا تدل ‏على ‏الصيرورة في المجموع الذي يعتبر ‏عنصره هو ‏السائد المقدر، لكن ‏هل يصح هذا، وواقع الفعل ‏يوجهنا ‏إلى القول بوجوب فرض القيود ‏على ‏التعدد، ولزوم إجراء عقده على ‏ما تقتضيه حقيقة ‏الإيجاد من أهداف، ‏وغايات، لئلا تتألم أجيال ‏بالأحقاد ‏والضغائن المنتشرة بين الأسر التي ‏يسجنها ‏الدين بمحدداته الإنسانية، ولكنها ‏تمزق غطاءه بالتأويل المفضي ‏‏إلى نقض مقاصده، ونسف آلياته.؟

مقدمة

حضرت مجلسا من المجالس التي جمعتني بثلة من الأصدقاء، ودارت رحى الحديث حول أمور كثيرة الأمداء، أدلى فيها كل واحد بدلوه، وخاض في ‏وحلها بذيله، وكان مما قرع سمعي، وأثار وضعي، ما ذكره أحدهم عن زمرة المكثرين في طلب الزوجات، والمقلين في كسب الخيرات. فقال: إنهم ‏يعددون الزوجات رغبة في تكثير نسل العباد، ورهبة من الوقوع في سبة الفساد. كان لهذا الكلام وقع في أذني، وأثر في ذهني، وقد ولج باب ‏عقلي من نوافذ شتى، فاستغربت كيف يكون التعدد مدعاة لحيازة دعوى الوقوف على مراد الشرع في الوضع البشري.؟ وكيف يكون التعدد في ‏وضع متخلف تعانيه الأمة قربانا لنيل السيادة على مصير الكون بكثرة السواد.؟ أشياء كثيرة تمخضت عنها أسئلة وطيدة المبنى، ومديدة المعنى. ‏وهي توقعني في دجنة فكر يستلهم وصله من فصله، ويسترفد عقله الموجه لسلوكه من نصوص وقعت موقع الإجابة الظرفية عن أحداث جسام، ‏ووقائع ضخام، كان لها أثرها العميق في تحرير الأصول الموجهة للأنظار المتعددة، وتأصيل الفروع على القواعد الكلية، والمبادئ العامة. وكأني به في ‏راهن حاله المسلوب بمخاض تموج حوله آراء متعاركة بين السلب، والإيجاب، يستعيد تلك الأسباب نفسها، بلا اعتبار لواقعه المختلف كما وكيفا عما ‏كان عليه حال الجيل الأول القابل للإسلام، ويستبعد وجود مناخ آخر تتعدد عناوين حقائقه، ومواضع تجلياته، ومواقع تصوراته، ومواطن ‏تصديقاته، وتتنوع صدقية قيمه الداعية إلى مراجعة نقدية لبعض المواقف الفقهية المتجاوزة لزمنها، والمؤثرة في حاضرنا الممزوج بإشكالات عميقة، ‏تحددها سياقات تتناقض مع ما كان واقعا ضروريا في زمن التنزيل، ثم صار بفعل الصيرورة البشرية تاريخا متجاوزا، لا يمكن اعتبار حركته الثابتة ‏مناطا يحقق تلك الغايات التي جاء الدين لترسيخ ديناميتها في الحياة البشرية، لأنها لا تلتزم بقانون التغير الذي يطرأ عرضه على ذوات الأشياء، ‏فيبدل حال وضعها إلى صورة أخرى، وينقل ما فيها من تجربة متنافية مع واقعها المتولد مع الإنسان إلى متحف التاريخ، ثم يبقي على ما حقه البقاء، ‏لكي يدل على ما في الأديان من التزام بناموس الزمان، وقانون المكان. لأنها لم تكن إلا إجابة محددة بسياقاتها المتضمنة لأبعادها الكلية، واستجابة ‏لما يحدث من قضايا متعنتة في واقعها، تحتاج إلى صياغة جديدة، وركائز قوية، تستكنز مظاهر الإنسان في تعرجات ارتحاله بين الأوضاع المختلفة في ‏أنماط ثقافتها، وأنساق سلوكها.‏

ومن هنا، فإن جمود العقل على رأي يرتبط بمحاضن ولادته، ومهايع نشأته، لا يعني سوى الاقتصار على وضع معين في تحديد الصورة القابلة ‏للانتشار، والجاهزة للامتداد، لأنها لا تكون حية إلا بمجاراتها لما يجِد في الحياة من تقلبات، ويثور حولها من تحولات، ولا تصير قابلة للإدراك إلا ‏إذا التزمت بشروطها، واتصفت بضرورتها، إذ دوران مقاصدها مع عاملي الزمان، والمكان، وجريان غاياتها مع تطور الكائن البشري، وولوجه إلى ‏عوالم تتخلى عن قفص المحلية، لكي تتسم بمدار الكونية، يمنعها من الالتباس بحدود تقيد بضيقها فوران حركتها، وتحجز في حيز بسيط سريان وظيفتها، ‏لا يستوعب تفاصيل سفرها مع الإنسان في صيرورته القابلة للصلاح، والفساد، والخاضعة لمبدأ التقلص، والتمدد. ولذا، تكون كلياتها المؤسسة ‏لمدارها المعرفي مآلا يؤوب إلى قواعده رأي الفتوى عند احتدام الصراع، واشتداد العراك حول فك روابط الحياة المعقدة بما يربكها من صرعة ‏الحضارة الغالبة، ويدهمها من نوازل تلح على استنارة لازمة، واستجابة لازبة، تستطلع كينونة الإنسان في جزئه المرتبط بمادته المستمرة مع بقاء نوعه ‏البشري، والمختلف عما قامت به هويته في عصور تاريخية غابرة، تناولتها رسوم السؤال بتجرد، أو بتحيز. ‏

وهكذا، فإن الحديث عن تعدد الزوجات بين مخاض واقع مؤلم بفواجعه الزاحفة، وعوارضه الفاتكة، لن يكون سببا حقيقيا لبقاء نوعنا المحدَّد في ‏الذهن بصورة مثالية، يستلهم النظر الفقهي فيها أجزاء ضئيلة، تساير ما قيل من الآراء المقيدة بأحكام معينة، يصير معها المكلف مقادا بسياق ‏متعال، يتسامى به التأويل الراغب في إخضاع الحقائق لنمط سلوكي محصور بحدود منافية لقيم الزمن المتجدد، وتفاعلاته، وانفعالاته. ولذا، فإن قضية ‏تعدد الزوجات في ظواهرها المختلة المعايير، تفرض علينا أن نتحدث عن مضمراتها المستبطنة بنظرين مختلفين: الأول: ذلك النظر الذي يعتبر التعدد ‏عزيمة مطلقة، أو يراه رخصة مقيدة. ولكل واحد منهما محدادته المنهجية في استدلالاته الأصولية، والتشريعية. والثاني: يعتبر التعدد ذريعة لصياغة واقع ‏تحدده أفكار قبلية، تنبني أسسها على النوازع الفطرية، أو على الغرائز البهيمية، وتتقنع بأقنعة مختلفة الدوافع، ومتنوعة الوسائل، ومختلطة الأهداف، ‏ما دام لم يحقق الغاية التي من أجلها شرع التعدد، وهو حماية الأيتام بالتزوج من أمهاتهم اللائي فقدن من يعليهن، ويحميهن. ولذا، فإني لن ألتزم ‏بافتراضات النظرين في مناقشة هذه القضية الشائكة، وهما يحققان مناطا محصورا بزمن من أزمنة التجربة الدينية، لاختلاف نتائجهما في القراءة ‏الموضوعية لموجهات التأويل، ومخرجات الأحكام، بل سأعالج القضية بمداخل لها ارتباط بالموضوع من حيثيات أخرى، ثم أخلص إلى نتائج لا أرى ‏نظرها مستوفيا إلا لما أراه شخصيا، واعتقد صوابيته. وإن خالفت فيه ما هو سائد، فهو وجهة نظر لا تلزم بقيودها، وشروطها، فأقول:‏

أولا: لم يكن هذا الموضوع جديدا في سباق التداول الثقافي، والتصراع الفكري، لكي تثار حوله زوبعة النزاع المحتد بين الذين قالوا بالإباحة من غير ‏قيد يحد حرية الاختيار في المكلف، أو بين الذين قالوا بالمنع عند انعدام الشروط المبنية على ما سيج به النص الحكم المختلف فيه، أو الذين قالوا ‏بالحظر مطلقا، لتغير الواقع الذي يفرض حاله أسلوبا جديدا في السؤال، والحوار، وتبدل الحالة الإنسية في مخاض المدنية المعاصرة، بل هو موضوع ‏قديم بقدم العلاقة القائمة بين الذكر والأنثى في المقولات اللاهوتية والفلسفية القديمة، ووضع سائد في المسيرة التاريخية للإنسان المتنقل من الأنماط ‏البدائية إلى السلوكات الاجتماعية الراقية . ولذا، لا يمكن أن يحدد مضمونه بما تقتضيه النصوص الدينية، من غير التفات إلى ما يحوم حول دائرته ‏من آراء أخرى، تتفاعل فيها الأعراف والعادات والتقاليد المرتبطة بالشعوب، والأمم، والحضارات، بناء على نظرتها إلى حقيقة المرأة المجردة، وكنه ‏ماهيتها المادية، وهويتها المستقلة في ذاتها المعنوية، والمراد من وجودها دينيا، وثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا. ومن هنا، فإن إثارة ‏الموضوع في سياق بنائنا المعرفي، وضمن ضرورات بقاء صورتنا المميزة لملامحنا بين العوالم الكونية الممكنة، وحتمية التزامنا بمبادئ الحقوق الإنسانية ‏العالمية، لم يكن نابعا بالتحديد من داخل دائرة المتدينين الملتزمين بتطبيقات الدين عقيدة، وخلقا، وسلوكا، وإنما ارتبط في حالتنا الراهنة بظهور هلال ‏الحركات الإسلامية، وحدوث فجوة عميقة فيما بينها وبين الخلفيات الثقافية المشكلة لجملة من الحقول الفكرية في عالمنا الإسلامي، وبروز مساحات قابلة ‏للحوار أحيانا، وللصراع كثيرا، ووجود تراكمات تستصحب ضرورة الانتماء إلى منظومة فكرية معينة، تؤطرها أدبيات تعتمد على النص القرآني، ‏والأثر الحديثي، وترتكز في فهمهما على مناهج تعتبر فهم الأول وافيا بالدلالة، وتجربة دركه كاملة، لا يحتاج الملتزم بها إلى مزيد من التفكير في صناعة ‏صيغة مخترعة، وصياغة طريقة مبتدعة، تستلهم من القديم حركة الوجود المستمرة، وتبني أساس ديمومتها على اطراد الأحداث المتناسلة في الحياة مع ‏مبدأ التفاعل، والانفعال، لأن ملامسة واقع الحقيقة الذي يفترض اختلاف المهاد، والظروف، وتعدد المجالات، والملكات، وتنوع أدوات الرصد، ‏والاستقراء، وآليات التحليل، والاستنتاج، له دور رئيس في إيجاد دواعي الاختلاف، وأسباب النزاع، وأثر حقيقي على ما يقع من تعارض أو ‏تناظر بين الحقائق المشتركة، والمعاني المؤتلفة، لأنها في احتياج تناقض محاضنها إلى دقة الفكر، وحدة النظر، لا بد أن تبحث عن الحلول لكل ‏المشاكل التي ترسف في أغلالها مجتمعاتنا الممزقة بين الغايات المتصلة بالمراحل المجتازة زمانا، ومكانا. ‏

لكن الإشكال العميق في منطق القضية، يتجسد عندي في أسئلة عدة، تكون محور النقاش، والحوار، لأنها بمقدار ما تستحضر ما يستبطنه إطارها ‏من نصوص، فإنها تجتاز ظاهريتها إلى ما يموج في واقعها من سؤال، واستفسار، واستفهام. ولذا يجوز لنا أن نرتبها كما يلي، فنقول متسائلين: بأي ‏محدد يمكن لنا أن ننظر إلى قضية التعدد.؟ هل المحدد ديني.؟ أم نفسي.؟ أم اجتماعي.؟ أم ثقافي.؟ وهل التعدد قاعدة أصلية في تمتيع الرجل ‏بمكانته في القوامة.؟ أم هو استثناء، قابل للحدوث، وموضوع للتعقيب، ويصار إليه عند الحاجة، والاضطرار.؟ وهل التعدد يحقق المقاصد الكلية ‏من الزواج، فيصير لازما لوجود تلك الغايات المرجوة في واقع الأمة.؟ أم هو سبب من الأسباب في ضياع جيل انبثقت بين واقعه إشكالات يعجز ‏عن تصريفها من لا يملك القدرة على مسايرة هوس الحياة المفتونة بماديتها المفرطة.؟ وهل الغاية في بناء المجتمعات البشرية، هو إيجاد العدل الذي ‏تقوم به الحياة الإنسانية.؟ أم هو تكثير السواد، ولم يكن النوع قابلا للتجربة الخالدة للدين، لاسيما في مجال التنمية، والتحديث، والتطوير، ‏والتمدن.؟ ‏

ثانيا: بناء على هذه الأسئلة، سأعرج في هذا المقال على مجموعة من الآراء، عساي أن أؤطر القضية بالمرجو من مقاصدها، فأنحاز إلى رأي أراه ‏ضرورة قائمة في خدمة مشروع الإصلاح في واقعنا العربي المنكوب، وتثويره بالأسئلة التي تنفض عنه غبار الأفكار التاريخية. ولذا، لا محالة، إذا ‏اعتبرنا الموضوع عقديا صرفا، ودينيا محضا، وشرعيا خالصا، فإننا سننظر إليه من خلال النص المؤسس، وهو القرآن الكريم، والسنة النبوية، لانهما ‏يمثلان القاعدة المعرفة لكل التوجهات الموجودة في الساحة الإسلامية، والمتعاركة حول الاحتفاء بأنموذج له سمة الاهتداء، والاقتداء، والمتناورة ‏حول الحدود التي يتم بها فعل الحضور في الدورة الحضارية، سواء ما يتحقق نمطه في الكيان الداخلي، وهو مجموع كل المذاهب الفكرية المتواجدة ‏ضمن رقعة العالم الإسلامي، أو ما يتمثل نسقه في الشكل الخارجي، وهو ما نقابل به الأفكار التي نشأت خارج الدائرة الواحدة، ولها دور بارز في ‏تشكيل العقل البشري. ‏

ومن هذا المنطلق الذي نستهدي به إلى فهم معيار الخطأ والصواب في التجارب المحتفظة بأحداثها الغضة بإفراز واقعها، لو تأملنا في ظلال النص ‏القرآني، وتجلياته المجسدة لصيرورة الإنسان، وتقلب مهاده بين مفهومي الاستقامة، والانحراف، وتدرجه بين قيم البداوة، والحضارة، وحاولنا أن ‏نستظهر منه بعض المناحي الموضوعية لمفهوم التعدد، فلا محالة، ستدهمنا في عملية الحفر عن المقصد الديني حقائق جلى، لا معدى عن النظر إلى ما ‏فيها من معان مثلى، ولا مرمى لفكرنا دون ما حددته كلياتها العظمى، وهي التي تبحر بنا في عقل الحاضر، وصيرورته، لكي نستفيد من حركته ما ‏ترسخ فيه من خبرة الماضي، ورؤية المستقبل. وإلا، فإن الانكفاء على سالف التجربة وحدها، وجعلها دائرة منغلقة على ذاتها، سيقهر فهمنا لما ‏نؤول إليه بسياقات تاريخية لها مسوغاتها النظرية، ونتائجها العملية، مع عدم الاندماج في أتون الثورة الفكرية والعلمية التي نضطر إلى التعايش ‏معها طوعا، أو كرها، وفق نظم ثقافية واجتماعية مباينة لما كنا عليه أصالة، تتبنى قيما لها بعد كوني، ومتجه إنساني، وتتعدى إطارها الجغرافي، ‏واللغوي، والعرقي، والديني، والثقافي، والاجتماعي، لكي تحصر حركتنا ضمن نسقها المقيد بفلسفة الأقوى، والأغلب. ‏

وهكذا، فإن النص الشرعي المؤصل لأصل التعدد في الزوجات، إذا جردناه من هاجس حججه التي ألحقت بسياقاته في وضعنا البشري، ووقفنا عند ‏حقول دلالاته المعجمية، والأسلوبية، ومستويات استدلاله على كنه مقاصده الأصلية، والفرعية، لن يدفع بنا إلى القول برأي واحد، تتضمنه بنية ‏لغوية مغلفة بالتأويلات الضيقة، وتحتويه وضعيات نفسية لها ارتباط بمجال زماني، ومكاني، لا تتعداه إلى ما عداه من الهويات التي لها ارتباط بأصل ‏الموضوع، وضوابطه، وقواعده، لأننا إذا نظرنا إلى القضية في خاصيتها اللغوية، والبيانية، وحاولنا أن نضعها في مسارها التداولي، وسياقها ‏التاريخي، لكي نكتشف ما استبطنته من معنى كلي، يرسم صورة واضحة للمطلوب بالغاية، ولو كان اجتهادا يقتضي تعدد المواقف، وحياديتها عن ‏التأويلات التي تفرضها الإيديولوجيات العقدية، ورغبتها في صياغة فهم يتماشى مع الواقع المتناقض الأهداف، والغايات، فإننا سنجد القرآن الكريم ‏في نسقية اهتمام نصه، قد تعرض لهذه المسألة في سورة النساء، وقد ابتدأها الله عز وجل بنداء الناس إلى مفهوم التقوى الذي تتحقق به معاني ‏وحدانيته، وألوهيته، وربوبيته، إذ هي أصل العلاقة القائمة بين الإنسان وربه، وأس الرابط الذي يصل بين عالم السماء، والأرض. وفي ذلك تكليف ‏عام بقيمة ذاتية، ومعنوية، لما فيها من علة تحقيق العبودية الخالصة للذي بيده أمر الخلق، والإيجاد، والإنشاء.ثم ذكَّر بالوحدة التي تفرعت منها ‏الكثرة، وهي النفس الواحدة التي انبث منها ما تناسل بين أمداء الكون من كائنات عاقلة، تؤدي وظيفتها بلازم الاستخلاف، والاستعمار. ‏

وفي ذلك إيحاء إلى وحدة الجنس المحدد للنوع البشري، وإيماء إلى ما يتكون به الوجود الإنسي بين الأكوان. وهي صدورها من لطف النفس الكلية ‏التي فاض بها جنس الآدميين، وسال من باطن الأزل إلى ظاهر الحدوث، لكي تتشكل ملامحه على وجه الأرض، وتمتلئ به أفنية الديار، والربوع، ‏والأكوار. ثم خلص في ترتيب نسقي إلى قضية اليتامى، لكي ينفتح النظر على فضاء آخر مرتبط بقضية الخلق بعلاقة التناسب بين وحدات الموضوع، ‏وسببية المعاني بين كليات المقاصد، لأن من أقسام التكليف الذي ينظر فيه إلى مستوى الاستقامة، وهي عصارة التقوى، ما يتعلق بصيانة مال ‏اليتيم الحقيقي، والحكمي، على اعتباره نتاج علاقة بين زوجين يجمعها ميثاق غليظ، يفقد فيها الصغير أباه دون بلوغه مرحلة النضج، والرشد، ثم يؤوب ‏زمام قيمومته إلى ذمة الولي الذي يتعهد حاله إلى أن يستغني عنه، ويقوم بأمره، أو إلى عهد الوصي، أو إلى أمانة القاضي، وهو الولي لمن لا ولي ‏له. وذلك خاص بما يعود إلى دافع التصرف في ماله، وإنشاء حقوقه الاعتبارية، وتنفيذها بمقتضى السلطة الشرعية.‏

ثالثا: إذا كانت قضية اليتيم دينية، واجتماعية، وإنسانية، تحتاج إلى رعاية تضمن تدبير كل ما يرتبط بتصرفاته قبل حلمه، وتتطلب إيجاد حلول ‏تساعد على اندماجه في محيطه الطبعي، وسلامة عضويته في المجتمع الإنساني، فإن ما يمكن أن يضاف إلى ذلك من مبان، هو ما يعتري الموضوع ‏من أحكام تتعلق بموضوع الحضانة التي هي حق الأم، لأنها تعني ولاية كفالته، وتربيته، وحمايته بما يعود بالنفع عليه في صحته، وعيشه. وذلك موقوف ‏على ما يرثه من أبيه، أو ما يفرض على أقاربه، أو ما يلتزم به بيت مال المسلمين من حقوق تجاه الضعفاء الذين يعيشون وضعيات هامشية، لا ‏تعين على مقتضى الاستواء، والاعتدال، والاستقامة، لأن شعوره بالنقص بين غيره من أفراد الجماعة، وعدم كفايته في حاجاته التي يقوم بها شخصه ‏الاعتباري، لا يعوضه شيء آخر، يمكن له أن يبني علاقات واضحة مع مجتمعه، وآمنة في سربه، بل يتحول بسبب ضياع فرصة كرامته إلى آلة للشر، ‏والفساد، ومعول للهدم، والخراب، لاسيما في المجتمعات التي فقدت نزعتها الإنسانية، وصارت مصنعا للانحراف، والجريمة، والإرهاب، ومهرعا ‏للمهووسين بالمخدرات، والجنس، والمعتقدات الهدامة. ولذا، تصير كفالته درجة عالية من الوعي الديني، والاجتماعي، والأخلاقي، وسواء من أقاربه، ‏أو من البعداء، لأنها تضمه إلى جسم المجتمع، وتمنحه جمالية الذوق، والشعور، وتهبه رقة الإحساس بحنان الطبيعة، والحياة. ‏

‏ ومن هنا، فإن رعاية اليتيم عند تعذر أساسها الشرعي؛ إما أن تكون مبدأ جماعيا "إلزاميا" مطلوبا لبلوغ غايته، وتحرير قصده. ويتجسد ذلك في ‏مؤسسات الدولة التي تكفل حقه في الوجود المادي، والمعنوي، وحاجته في صيانته نفسيا، وثقافيا، واجتماعيا. وإما أن يكون نزوعا فرديا ‏‏"التزاميا" مرادا بمقتضى وسيلته، ومنتهى سببه، إذ هو التعبير في الجهد البشري عن قوة الإيمان، وشدة اليقين، وحدة الالتزام بمقتضيات الدين، ‏ولازميات الخلق. ويتجلى ذلك كما قلنا في المفهوم العام للكفالة التي تلتزم بقواعدها الدينية، وتوابعها العقدية، لأنها تؤدي دور التربية، والتزكية، ‏والإحسان المجرد عن كل قيد، وحد. وهكذا، فإن القرآن حين تعرض لقضية اليتيم في سياق ذكره لقضية خلق الإنسان من نفس واحدة، هي المصدر ‏في حتمية كشفه إلى الوجود، لم يرد إلا أن يشير إلى معنى ينسجم مع طريقة بنائه لقيم المعرفة عند المؤمنين بظاهرة الوحي، ويتوافق مع وسيلته في ‏تقريب القضايا من منطق الإدراك، والفهم، والوعي، ويتواءم مع ما يؤسس دعامته من أخلاق، ومثل، وفضائل. وذلك ما يتضمن في ترابط بعضه ‏مع بعض تناسب الوحدات بين السابق واللاحق في آيه، وسوره، وتلازم نَظم مبانيه مع مدار معانيه، لكي تتشكل مفاهيمه مع جوهر الروح ‏السارية في منطق الطبيعة، وتتراكم تجربته في إطار تراتبية متسمة بالتكامل، والتواصل. يقول سبحانه، وتعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ‏مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى ‏أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ ‏مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)"‏

‏ إن المتأمل في الآية الأولى، والثانية، يدرك أنها تضمنت ألفاظا لها دلالات عميقة، تستوحي تحقق معانيها من فضاءات متعددة، وتَشخص مفاهيمها ‏من مجالات مختلفة. فالكلمة الأولى التقوى، ومعناها روحي، وقلبي، وتجسدها في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والثانية الخلق، ومعناها ‏عقدي، وطبعي، وتمثلها في الكثرة التي نشأت من وحدة مطلقة، ومجردة، والثالثة الأرحام، ومعناها أخلاقي، واجتماعي، وموضوعها اليتامى الذين ‏فقدوا صورة الكمال المطلوب في الاستقلال، والحرية. وحقا، إذا نظرنا إلى هذه المعاني المتناسبة في تحديد مدار الإيمان بكل أبعاده النفسية، ‏والثقافية، والعرفانية، فإننا سنعثر على سبب ذكر اليتامى في مقام يعبر عن تمام الاستقامة بالتزام صارم لقيم العدل، والمعروف. وهذا ما يجعل قوام ‏الحياة الدينية مرتبطا بتحقيق مقام الإحسان ذاتيا، وحال العدالة اجتماعيا. ولذا، فإن رعاية اليتيم كتعبير يعكس وجود خاصية الوعي العقدي، ‏والإنسي، تدل على التحقق العملي بكل مدارات الدين، وأنماطه الأخلاقية، وأشكاله السلوكية، وتعبر عن التشبث بفضائل المثل في مجتمع معتدل ‏الأمزجة، والطبائع، ومستو في معايير أوضاعه المادية، والمعنوية، لأن رعايته الحقيقية، لا تستقيم بنصب المنابر الوثيرة، ولا برفع الشعارات الجزلة، ‏ولا بنظم القصائد الفخمة، وإنما بالتعامل الذي يضمن بقاءه ضمن تقلبات الحياة، والطبيعة، وتغيرات المحيط، والواقع. ‏‏

يتبع










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah


.. #shorts -75- Al-baqarah




.. #shorts -81- Al-baqarah