الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصطفى السنجاري .. ظاهرة شعرية

بابير الحموي

2017 / 9 / 25
الادب والفن


مصطفى السنجاري .. ظاهرة شعرية

هذه القامة الشعرية المغمورة في زمن اللا شعر واللا نقاد
من يقرأ له تعود به الذاكرة إلى عصور الشعر المبهر والبلاغة والحكمة
قلم يأنف أن يكتب إلا الشعر الذي يدر بالحكمة بلغة العظماء
بعيدا عن السفسطة والهلوسة التي يعاني منها الشعر الحديث
قلم يكتب في صمت بمداد لا ينهل من الأهواء ولا يصب في المنفعة الشخصية
يتسم بالهدوء والرزانة ويهتم بالحرف واللغة ويختار المفردة بدقة
قلم يكتب لكل العصور والأجيال
الشاعر مصطفى السنجاري يسحرك بأبجديته الخاصة المتميزة بأسلوبه السهل الممتنع
منوّع تنوع الشعر جزل جزالة المعنى راق في حديثه واسلوبه
يكتب في الحب كأنه العاشق الولهان ويدعو للحب وكأنه يدافع عن رسالة سماوية
ويكتب للوطن وكأنه الحبيبة وعن الحبيبة وكأنها الوطن
تذكرت قصيدته الفائية : (ليلى والوطن .. أيهما أيهما)
وكم سحرني بتداخل عشقه للوطن مع عشقه للحبيبة
وكيف مزج بين العاطفتين وكأنها عاطفة واحدة لا تتجزّأ
وجاء الاستهلال مبهرا كشأن الشعراء الأوائل :

إنّي أحِبُّكِ .. يا لَيْلى .. وأعْتَرِفُ=فَلْيَشْهَدِ النّيْتُ والسّاحاتُ والصُّحُفُ
ما بي على كَتْمِ ما بي عُشْبُ مَقْدِرَةٍ=هَواكِ يَنْسابُ مِنّي أيْنَما أقِفُ
هَواكِ أرّجَ أنْفاسي وأخْيِلَتي= يَمُوْجُ عِطْراً .. إذا أطْلَقْـتُهُ الحَرُفُ
قَدْ كُنْتُ أحْسبُ أنَّ السـّرَّ في خَلَدي=يبقى مُصاناً .. ولا (غاما) سَيَكْتَشِفُ
ما كُنْتُ أحْسبُ أنّ السرَّ يَفْضَحُهُ= فينا الدّفينانِ: هذا الشّوْقُ ، والشَّغَفُ

نعم هذا هو الحب ويتفق البيت التالي مع من يحب الوطن ويحب الحب الحبيبة كلاًّ معا أو مفردا :

والحُبُّ لا يَصْدَحُ الإخْلاصُ في دَمِهِ=حَتّى تُهَدْهِدهُ الأشواقُ والتَّلَفُ
والحُبُّ ضَرْبٌ مِنَ الأخْلاقِ سيّدَتي=هُوَ الكَرامَةُ والإيثارُ والشّرَفُ

هو كذلك لا فرق بين حبي الوطن والحبيبة كلاهما ضرب من الأخلاق
يترجم كرامة الشخص وصونه للأمانة فالخيانة في الحب ليس سمة الفرسان
وعلينا الاقتداء بالأوفياء لا بالذين يبيعون الضمير :

لا تَعْجَبي مِنْ أُناسٍ ظاهَروْهُ سَناً=إنَّ المُسيءَ عَن الإحسانِ يَنْصَرِفُ
حاشا هَواكِ بِقَلْبٍ جِئْتُ أنْشدُهُ=كُلّي قُلوبٌ إلى عَيْنَيْكِ تَزْدَلِفُ

هذا هو الحب وهكذا يجب ان يكون وإن كثر المتطفلون من حول موائده والمتسلقون على أسواره
ومن يجب داعي الهوى لا يلتفت لضجيج من يرون أن حب الذات والمصلحة الشخصية فوق كل ذلك:

يا قَلْبُ في الحُبِّ لا تَسْمَعْ لِعاذِلِهِ= فَحَسْبُهُم أنّهُم بالعُذلِ اتّصَفوا
لا تَبْتَئِسْ إنْ طَواكَ السّهْدُ من كَلَفٍ=هَلْ يَعْرِفُ الحُـبَّ إلاّ مَنْ بِهِ كَلَفُ

ويعترف هنا بطعنه في العمر وأن بلوغ الكهولة لا يردع قلبا عاشقا من تلبية واجب الانضمام إلى صفوف الحب
سواء كان للدفاع عن الوطن أو التمسك بالحبيبة والوفاء له :

قُلْ للذي لامَ بعْدَ الأربعين هوىً=ما أعْذَبَ الحبَّ حيثُ العُمْرُ ينتَصِفُ
لَمْ يُخْلَقِ الحبُّ مَقْروناً بأزْمِنةٍ=ولا بأمْكِنَةٍ قَدْ يُقْرَنُ الوَطُفُ

ما أجمل وأعمق هذا البيت فالحب يأتي بأي زمان ومكان طالما هناك دواع لذلك كالمطر ينزل بأي أرض حين تتوفر العوامل الطبيعية لذلك
وفي المقطع التالي عرج على دواخله وما خزن في عقله الباطن من اعتراف بواقع الأمس الذي كان فيه الوطن
فتجد ليلاه الوطن وليس غير الوطن حين قال :

إنّي أحِبُّكِ .. يا ليلى .. وأعْتَرِفُ=مُذْ كانَ حَيّاً أبوكِ الظالمُ الصّلِفُ
كَمْ قاسياً كانَ .. لكن كانَ ذا هَيَبٍ=فَلَمْ يُقارِعْكِ مُحتالٌ ومُنْحَرِفُ

هنا أعطى للظالم هيبته وحقه حين كانت ليلى تنعم بالأمان في ظله فلا يتجرأ أحد من لمس طرف ثوبها
وكيف أنها كانت مصانة لنعلم أنها أصبحت على غير ذلك بعد رحيل أبيها:

لَمْ يَتْرُكِ البابَ مَفْتوحاً لِذي نَزَقٍ=ولا الغَديرَ لِمَنْ يأتي وَيَغْتَرِفُ
كانَ المكانُ عزيزاً تحتَ قبضتِه=رغم الحصاراتِ ما أودى به الشَّظفُ
وحينَ ماتَ تخَلّى عن ودائعِه= فعاثَ فيها الألى ما هَمَّهُم عَنَفُ
فَهَلْ أبوكِ غطاءً كانَ فَوقَ قذىً=لمّا تنَحّى علينا انْهالَتِ الجِيَفُ

كم من الألم اعتصر قلبه وهو يكتب البيت الأخير فجاء وصفه بهذه النصاعة والبشاعة وهو يصف القادمين من بعد أبيها الظالم الصلف وكأن تلك الصفات خير من الجيف التي رفع عنها الغطاء يتملأ المكان قذارة وتقززا
ولكنه الأمس ولن يعود ثانية
وكأن اليوم هو ابن الأمس الذي جاء منتقما لما حدث للأمس في تعبير ولا أروع فنراه يستطرد في سلاسة الوصف الذي أصبح ميزة لليوم المشؤوم .. لاحظوا كيف يضع يده على مقارنة بين الأمس الذي كان الوطن فيه معززا مكرما مصانا في تيه ابنة الملك المهيوب واليوم الذي أفقدها كل ذلك الزهو والخيلاء :

الأمسُ وَلّى .. وحَلَّ اليَوْمُ مُنْتَقِماً=ونحنُ بَينَهُما يلْهو بنا التّلَفُ
قَدْ كنتِ بالأمسِ في تِيْهٍ وفي تَرَفٍ=لكنّكِ اليَوم لا تِيْهٌ ولا تَرَفُ
بالأمسِ كانَ مُصاناً نَعْلُ سيّدتي= ودُوْنَهُ تُضْرَبُ الأستارُ والسُّجُفُ
واليوم .. باتَ مُشـاعاً لَحم سيّدَتي=عليهِ كلُّ نُيوبِ الفَتْكِ تَنْعَطِفُ
ما كانَ بالأمسِ دُرّاً باتَ مِنْ خَزَفٍ=واللهِ لَنْ يَتساوى الدّرُّ والخَزَفُ
بالأمسِ كانَت مُغَطّاةً ملاحِدُنا=لكنّها اليومَ لا لَحْدٌ ولا سَقُفُ
كُنّا إذا عَضّنا بَرْدٌ بِقارِصَةٍ=بالكبرياءِ وحَبّ الأرضِ نَلْتَحِفُ
بالأمس تأتي رياحُ الخَوفِ مِن طَرَفٍ=واليوم لم يَدّخِــرْ تزفيرَها طَرَفُ

وأنا مهما وصفت بلاغته وروعته أقف عاجزا أمام هذه الصور الملتقطة التي تختصر فعلا ما آلت إليه أمور الوطن
ولكنه نفسه يصف عجزه أمام ما يحدث من انحدار إلى الهاوية فحتى الريح العاتية ما فعلت بالخيمة المهترئة وانه لوصف بليغ وعميق ويترك في القلب غصة لا تنتهي :
مَهْما وَصَفْتُ انْحِدارَ الحالِ في وَطني=إنَّ الحَقيقَةَ تبقى فوقَ ما أصِفُ:

الرّيْحُ ما فَعَلَتْ يوماً بمهترئ الـ=ـخِيامِ ، ما فَعَلَ الآتون لَو عرفوا
تمضي السّنونُ وتطوينا بلا هَدَفٍ=كأنّما هدَفُ الأعوامِ لا هَدَفُ
يعدو بنا العامُ بعدَ العامِ في عَمهٍ=كم مرّةً ، في غدٍ ، قلنا سَتَنْكَشِفُ
لَو لَحظًةٌ من سنين العمرِ تنصفنا=هيهات ..هل شاءتِ الأقدارُ والصّدَفُ؟
ما أثقَلَ العمرَ يطوينا بلا أمَلٍ= وأثْقَلَ الصّبْرَ لا حَظٌّ ولا نَصَفُ

ورغم مضي السنين إلى أن لا شيء يتغير بل من سيء إلى أسوأ وكأنه يشكو إلى الله الحالة المزرية وأن الصبر لا ينفع معها فالصبر بحاجة إلى أمل يقوده ويعزز من معنويات الصابرين .
لك أن ترى معي براعته في تشخيص الحالة كأن كل حرف دمعة أم وقطرة دم شهيد تصرخ في الأرجاء:

مقَدَّسٌ كلُّ رُكنٍ فيكِ غاليَتي=ومَنْ أباحوْكِ جَهْراً ما لَهُم شَرَفُ
وَبَعْدَ ثَغْرِكِ لا دَرَّت روافِدُنا=وبَعْدَ شَعْرِكِ لا نَخْلٌ ولا سَعُفُ
سُحْقا لمَن سلَبوكِ الثوبَ ما خجلوا=ومّن أباحوكِ عندَ الفجرِ ما ارْتَجفوا

ولم يكن مخطئا حين وصف من حلوا محل أبيها في الحكم بأنهم ليسوا أبناء وطن ولكنهم كانوا ربائب
وهمهم التنعم بخيرات ما تركه لهم من غنائم وكيف ان الجميع يتزاحمون على حصصهم من الإرث وكأن الوطن مجرد معلف يتناهشون ما فيه من علف ويختلفون في حصصهم :

أمسى ربيبُ أبي ليلى يُطاردُني=مِن غيرِ ذَنبٍ سوى أنّي بها كَلِفُ
أموتُ مِن أجلها في حين يَحسبُها الـ=ـرّبيبُ بَيْدَرَ جَتٍّ مِنهُ يَعْتَلِفُ
منِ اسْتباحوا بلا عَطْفٍ حبيبَتَهُ= يستَعْظِمونَ عليهِ ..أن يَصيحَ : قِفوا
إنّ الألي اتفقوا في قتلِ حارِسِها= بِشأنِ حِصَّتِهم في إرْثِها اخْتلَفوا

وها هو يخاطب العابثين بخزائنه رغم ما آلت إليه الأمور من فساد وفقدان أمان يطالبهم بأخذ الخزائن ويتركوا الوطن لأبنائه الشرفاء فأهم من كل ذلك وحدة الشعب والوطن والعيش بأمان
ويقول لو أن الشهداء عرفوا الغيب بأنكم ستفعلون ما فعلتم ما نزفوا من أجلكم قطرة دم حتى يصل به الأمر إلى احتقار ما يسمونه بالتحرير :

يا عابثينَ .. خذوا ما شاءَ دَيْدَنُكم=دَعُوا الحَبيبَةَ للمَحبوبِ وانصَرِفوا
لأجــلِ ذا نزفَ الفادونَ خيرَ دَم؟؟ٍ=لو أنّهم علموا بالغيبِ ما نزفوا..!
إنْ كانَ, ما كانَ، تحريراً، كما زعموا=عليهمُ وعلى التّحريرِ ألفُ تفووو

من يقرأ مثل هذه القصيدة فإنما يتصفح تاريخ العراق المعاصر بعد سقوط النظام السابق
ويقف على مشاعر كل البسطاء من أبناء العراق من الذين لم ينتموا لحزب من أحزابه الغزيرة
وبذلك حرموا من خيراته المقسمة بين هذه الأحزاب
مصطفى السنجاري أيها الشاعر العربي العراقي الغيورأيها الكبير كلما قرأت لك ازداد حبي للشعر
وازداد حبي للوطن وازداد اعجابي بك فلله درك أيها العبقري المغبون
وازاد تعجبي من النقاد الذين أهملوا شعرك وشعرك يستحق الدراسة والتدريس
أيها الكبير.. أنت ظاهرة شعرية ولم يبعدك إلا لأنك لم تنتم لحزب ولم تزحف لطائفة ولا لمسؤول كما فعل الكثيرون
تقبل مني هذه القراءة المتواضعة

(بابير الحموي ..... الناصرية)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي