الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعدد الزوجات بين فحوى النص المخصوص، وعدوى الواقع المفحوص. ‏-2-

جميل حسين عبدالله

2017 / 9 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تعدد الزوجات بين فحوى النص المخصوص، وعدوى الواقع المفحوص. ‏
‏-2-‏
رابعا: هكذا يكون القرآن قد صحح وضع ظاهرة من الظواهر ‏الاجتماعية، وركب مضمونها على ما تقتضيه مقومات قيمه، ومقاصده، ‏وهي عملية ‏المزج بين الفكر الأمومي والأبوي في علاقة مترابطة بمستوى ‏عال من الحدود الأخلاقية، والاجتماعية، لئلا يستحوذ نمط على نمط، ‏أو ظاهرة جزئية على ‏حدث كلي، فيستبدل المجتمع الديني العدل بالظلم، ‏والطيب بالخبيث، ثم تغدو العلاقة مبتورة بين الإنسان وربه، وبينه ‏وبين ذاته، وبينه وبين ‏خارجه الملتبس بأوضاع مختلفة في الفكر، ‏والرأي، والموقف، لأنه بعدم تفاعله الإيجابي مع كل التوجهات القائمة في ‏واقعه، سيكون في مسيس ‏الحاجة إلى تلك الرابطة التي تضمن له بقاء ‏الصيرورة، وتكسبه تمام الكينونة، إذ لو تخلى عن الاستقامة المكنونة ‏في حقائق المعاني، وانحرف عن ‏القصد الموروث في نظام الأشياء، لكان ‏سبيله مرتعا للخيانة، ومرفأ للأخلاق التي تفقده صلة السماء، وتلطخه ‏بأوساخ الأرض، وأدران ما فيها ‏من غرائز فجة، وشهوات غضة. لكن ‏إذا انقطع الخطام، أو انفلت الزمام، فكيف يمكن تدبير شأن اليتيم، ‏وهو غير قادر على حفظ ماله في مجتمع ‏متوحش، ومتغول، وتمتيعه بحقه ‏في الوجود المكتسب بالقوة، والعصبية.؟ إن الأولى به كما قلنا أولياءه، ‏أو أوصياءه، أو أقرباءه، أو الدولة، أو الجماعة، ‏إذ هو جزء من المجتمع ‏الذي لا تتكامل بناه إلا بالتعاطف، والتآلف. وإذا تعذر ذلك بسبب ‏من الأسباب التي تعطل مفهوم الخير والإحسان إلى ‏الآخرين، ‏وانعدمت الصلات الاجتماعية في المجموع الكلي، وفقدت العلاقات ‏الإنسانية بين مكونات المجتمع النفعي، وغدت الأنانية عقيدة مقدسة ‏بين ‏المناكب، والمجالب، وصارت حقيقة الجور متفشية بين الربوع، والأكوار، ‏فكيف يمكن لنا أن نوجد حلا آخر، يجوز له أن يعوض اليتيم ما ‏‏خسره في وضعه الأصلي من روابط، وصلات، ما دامت العائلة ‏البشرية تحيى على حطام أحط دركات المسؤولية، وأخس تضحياتها في ‏سبيل ‏الالتزامات الأخلاقية.؟ ‏
إذا عدنا إلى ظلال سورة النساء، وتأملنا ما فيها من المعاني الإنسانية، ‏والحقائق الأخلاقية، وهي في كبرى أهدافها الواقعية، تضع أساس لبنات ‏مجتمع ‏إنسي، وبشري، تتحرك فيه القلوب بحركات الأجساد، والعقول ‏بانفعالات الجوارح، فلا محالة، سنجدها ترسم لنا طريقا يثمر فينا معنى ‏الإحسان إلى ‏الأيتام، والتكفل برعايتهم، والتضامن مع وضعهم ‏الاجتماعي، وسواء ما تعلق في ذلك بحفظ الأموال، والتركات، أو ما ‏تعلق بالتربية، وتأمين ‏الحياة من الضياع، والفراغ، لأن ذلك مما يكسب ‏المجتمع الإسلامي حصانة، ومناعة، ويمنحه قوة، وهيبة. إلا أن تتبع ‏سياقات السورة، ‏والاسترسال مع مفاهيمها المتسمة بالمرونة، ‏والشمولية، يجعلنا نبحث عن سبب إدراج قضية التعدد في مقام ‏الحديث عن الأيتام، وعن علة ‏اقترانهما بالعدل المطلوب صوغه بمحددات ‏أخرى، وعن الغاية التي يسعى إلى تحقيق قيمها في العقيدة، والسلوك. ‏إن درك ذلك، يستلزم الكشف ‏عن أسباب النزول، والفحص لكل ‏الظروف المحيطة بها، والربط بين كل الفواعل الاجتماعية المكونة لها، ‏لعلنا أن نهتدي إلى قنوات التواصل ‏بين القضيتين، ونسترشد إلى معرفة ‏المآلات التي يريد القرآن أن يرسخ مبادئها، وغاياتها. ولذا، نرى كتب ‏التفسير تشير إلى سبب خاص، وهو ‏إباحة التعدد عند الإضرار باليتيمة ‏في حالة الصداق، وهو ما أورده كثير من المفسرين، اعتمادا على ‏موقوف روته السيدة عائشة أم المؤمنين ‏‏(ض). يقول الطبري في ‏تفسيره: حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ‏أخبرنـي يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: ‏أخبرنـي عروة بن الزبـير، ‏أنه سأل عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، عن قول الله تبـارك ‏وتعالـى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ ‏فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ‏ٱلنِّسَاءِ } قالت: يا ابن أختـي هذه الـيتـيـمة تكون فـي حجر ولـيها، ‏تشاركه فـي ماله، فـيعجبه مالها وجمالها، فـيريد ‏ولـيها أن يتزوجها بغير ‏أن يقسط فـي صداقها، فـيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ‏ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلـى سنتهنّ ‏فـي الصداق، ‏وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال يونس بن ‏يزيد: قال ربـيعة فـي قول الله: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ‏ٱلْيَتَـٰمَىٰ } ‏قال: يقول: اتركوهنّ فقد أحللت لكم أربعاً.‏
‏ إن هذا السبب على إمكانية خصوصيته، قد يحتمل أن لا يكون حكما ‏عاما على جميع الحالات التي يجوز لنا أن نستجليها من ظلال النص، ‏‏وتطورات محاضن تنزيله، وتأليفه، لأنه مقيد في تأويله بالأولياء ‏والأوصياء الذين يتوسطون بالزواج إلى أكل مال اليتامى، وهي اليتيمة ‏على القلب ‏كما قال اللغويون، وسواء عني به الصداق، أو عني به عين ‏ما ورثته من مال. وإذا كان تفسير السيدة عائشة (ض) يحتمل أن ‏تكون قد أعجبته، فإنه ‏يحتمل أن لا تكون قد أعجبته، وهي في حجره، ‏وله عليها حق الولاية، فيضر بها، ويمنحها دون ما تستحقه من صداق، ‏فيكون هذا الحيف سببا ‏شرعيا يحث على الزواج بالغريبة، لما يظهره ‏ذلك من قيم العدالة التي يجب أن تستولي على بنيات المجتمع الإسلامي. ‏وهذا على اعتبار المقصود ‏بالتعدد اليتيمة الجميلة أو القبيحة التي لوليها ‏عليها وصاية، وقد ترك لها أبوها مالا، ويحتاج إلى من يصونه بالمحافظة ‏عليه، أو الاستثمار فيه، فجار ‏في تصديقها صداق مثيلاتها. لكن إذا ‏قصدنا أن يعضلها وليها أن تنكح غيره، ويمسكها ضرارا إلى أن تكبر، ‏لكي يتزوجها برغبة امتلاك مالها، فإن ‏ذلك يعني أنه قد رخص له في ‏التزوج بها، لئلا تفقد حضنها، ومالها. وذلك ما يفهم من كلام ابن ‏حنيفة حين أجاز نكاح اليتيمة قبل البلوغ. وعلى ‏هذا يكون هو الناكح، ‏والمنكح، وتكون هي محلا للتعدد، وإن خولف في ذلك بأقوال نص ‏عليها أئمة المذاهب، ويصار إليها في مظانها. لكن إذا ‏اعتبرنا المقصود به ‏الزوجة، وهي ذات الأرامل التي توفي عنها زوجها، فالأمر يختلف في ‏فحواه عن الرأي السائد في كتب كثير من المفسرين، ‏لأن إقصاء هذا ‏النوع من التعدد، مع ما يحمله مفهومه الاجتماعي والإنساني من معان ‏عظيمة، لا يغذي إلا العقلية الذكورية، ولا يزكي إلا الإرادة ‏الجنسية ‏المحمومة بسعير الشهوة، والرغبة الأكيدة في امتلاك عدد من النساء ‏بمقتضى ذهني، وذاتي، إذ هو لا يدل عند كثير من الرجال إلا على ‏خلل نفسي، أو ‏مرض عقلي، أو قصور جنسي، لأن الوفاء للزوجة ‏الواحدة أكمل في رسم صورة للجمال الإنساني الكامل العلامات، ‏والأمارات، وهو في محل ‏تعدده، لا يدل على هذا المعنى، بل يدل على ‏الاشتراك الذي تنتفي به الوحدة العميقة الرمز، والإشارة، ثم يغدو ‏طلب التنوع نزوة غير مهذبة التصور، ولا محددة ‏السلوك. وإذا أضفنا ‏إلى ذلك ما يستلزمه دور حماية الأبناء في واقع ثقيل الأعباء، وجسيم ‏الأرزاء، فالقول بضرورة تقييد التعدد مستساغ، ‏ومقبول، لأن هدف ‏إنشاء الأسر، هو بقاء النوع الأصلح، إذ به تستمر صولة الخير، وجولة ‏الصلاح.‏
وإلى جانب هذا، نرى أن النص يعالج ظاهرة كانت سائدة في مجتمع ‏التنزيل، وهي ميل قريش إلى التعدد من الزوجات، فإذا أفلس أحد ‏منهم، ‏وصار معدما، أخذ مال اليتيمة التي في ولايته لحاجته إليه، ‏فيتزوجها رغبة في استحلال ذلك، أو يتزوج به من غيرها. ولهذا ورد ‏النهي حاسما ‏لسد هذه الذريعة، لئلا يحصل الظلم على اليتيمة، أو على ‏زوجاته التي يعددهن زهوا، وافتخارا، لما في ذلك من استقواء، ‏واستحواذ، لاسيما في ‏مجتمعات تعتمد على عصبية العشيرة، والقبيلة، ‏وعقلية تَصير الكثرة فيها حمية، وأنفة. فهذا غيلان الثقفي، أسلم وتحت ‏يده عشر نسوة، وهكذا عميرة ‏الأسدي، أسلم وعنده ثماني نسوة، ‏ونوفل بن معاوية الديلمي، أسلم وعنده خمس نسوة، وهكذا غيرهم، ‏وهم كثيرون في كتب التاريخ والأدب ‏العربي. وحكاياتهم تروى ‏للاستشهاد على وضعية المرأة في الزمن السابق لنزول القرآن، وتحكى ‏للاستدلال على كيفية بناء الأسر في المجتمعات ‏الجاهلية، وطرق تكوينها ‏في الطبيعة. ومن هنا، فإن تعدد الزوجات، قد كان مباحا في العصور ‏التي وجدت قبل الإسلام، وهو غير مقيد بعدد معين، ‏ولا محدد ‏بضوابط تنظم عملية الزواج، والطلاق، بل كانت المرأة محلا لوقوع ‏الظلم، والجور، وموقعا لنزول الازدراء، والسخرية، لأن سلطة ‏الرجل ‏في المجتمعات الذكورية، ومحورية دوره في الأسرة، والجماعة، لا تتجلى إلا ‏في الاتصاف بالوفرة من الزوجات، وسواء في ذلك الحرائر، أو ‏الإماء، ‏بل كان له الحق في أن يضيف إلى دائرة زوجاته ما يشاء من النساء، ‏وأن يطلق منهن ما يشاء، ما دام ذلك يقوي شعوره بذكورته، ‏وفحولته، ‏إذ المنظور إليه، هو الرجل وحده في أشواقه المضمرة بين صور ذهنه ‏المتضخم بالأنا المسعورة، وليس المرأة في ذاتها الاعتبارية، لأنها ‏كيان ‏مسلوب الإرادة، ومعدوم الحرية، لا قيمة لها إلا بوجود رجل معها، هو ‏الذي يملك كليتها، وهويتها، ويقبض على مداخلها، ومخارجها. وله ‏الحق ‏في أن يطأها متى شاء، وأن يستنكف عنها متى شاء، ولا يضيره ما ‏كمن فيها من إحساسها، وشعورها، بل هي غير مطلوبة إلا لذلك، ولا ‏‏مرغوبة إلا لجر الذيل، وإثراء مجون السرير، ولا محبوبة إلا لطاعتها، ‏وخضوعها لنزواته الحيوانية. هكذا تصورتها المجتمعات التي تولد من ‏‏أحشائها الإسلام، وهكذا تحولت عاداتها وتقاليدها وأعرافها إلى الأسرة ‏التي أراد القرآن أن يصوغها بمبادئه، وكلياته. لكن هل أفلح المؤولون ‏‏للتنزيل في رسم تلك الصورة بأبعادها، وظلالها.؟ أم التبست المعاني ‏في كثير من المحددات، فتنفست ما في جونها من لفح الذكورية، ‏‏والفحولة.؟ إن الإجابة عن هذا، سيأتي عند التعرض للدوافع التي تجيز ‏التعدد عند الفقهاء، لكن ما يمكن أن يشار إليه هنا، هو دور القرآن ‏‏في تجاوز هذا الواقع المشين، وفعله في نقل تلك المجتمعات من نمط في ‏العيش إلى ما هو أرقى منه، يفرض عليها تبعات تحد من تنوع ‏‏الزوجات، وتعددهن، وينظم العلاقات الأسرية بقيود العدالة، ‏والمساواة.‏
خامسا: لعل هذا المنحى في التأويل، لا يفيدنا إلا من الناحية التأصلية ‏للقضية في المقولات الفقهية، وهي ما تحدد به تعدد الزوجات التي انتهى ‏إليها تأويل النص المفصول ‏عن سياقه، وعن تتمته التي ختمت بها ‏السورة. لكن إذا نظرنا إلى هذا السبب، وأضفنا إليه ما يحتمله النص ‏من أسباب أخرى، لها وجهة في ‏تحديد علاماته، ورسم أماراته، فإننا ‏سنجد القرآن قد قارن بين اليتامى، والتعدد في النساء، لكون المحافظة ‏على ماله أعسر على النفس ‏المحتاجة. وهكذا التعدد في قصارى الجهد ‏البشري، فإنه يعظم فيه الوفاء بكل القيم المكونة للزواج المتعدد، وسواء ‏ما تعلق من ذلك بالجانب ‏المعنوي، أو بالجانب المادي، لأنهما ضروريان ‏في كل عملية زواج تربط بين ذكر، وأنثى، يكون اتصالهما ملاذا لأسرة ‏تنشأ عنهما، وتتفرع منهما إلى محاضن ‏متنامية، ومتناسلة. ومن هنا، فإن ‏العدل في ذلك مع اشتداد الحاجة، والفاقة، مما يصعب وقوعه، ويعسر ‏حدوثه، إلا إذا حصل اليقين باستواء النفس في ‏حالتي الشدة، ‏والرخاء، ولم يدهم الخوف ظنا، أو شكا، وتفتحت المدارك للتمييز بين ما ‏حقه الثبات، وما حقه التغير، إذ الاحتياج اختبار ‏للإيمان الشخصي، ‏والجماعي، وامتحان يجتاز به الفرد إلى عالم السماء، وهو في حقيقته ‏يتصف بالعدل المطلق الذي لا يرد عليه عارض فيغيره، أو يبدله. ولذا، ‏‏يكون تأويل الآية؛ فإذا " خفتـم أن لا تقسطوا فـي الـيتامى، فكذلك ‏فخافوا أن لا تقسطوا فـي النساء".‏
‏ إن الخوف من الجور في مال اليتيم إيمانا، ويقينا، وتعظيم ذلك في ‏النفوس السوية احتسابا، وامتثالا، يسبب الخوف من الجور في تعدد ‏‏الزوجات، والحرص على الوفاء لعهد الذمة الذي يفرض الأمانة، والعفة، ‏لأن مفهوم العدل كلي، ولا يتجزأ، ولا ينفصل إلا للتقسيم، إذ لا يمكن ‏التحرج من مال اليتيم، ‏والتساهل في أمر تدبير الزوجات بمقتضى ‏السوية، لأن كل ماصدق العدالة، لا يتقوم إلا بإقامة مفهومها في جميع ‏ما ينشئ نواميس العلاقات ‏الإنسانية، ويوطدها، ويجعلها قابلة لولادة ‏مجتمع متجانس، ومتكامل. ولذا، يقول الطبري في توجيه رأيه، وهو ‏الأولى عنده من جهة التأويل: ‏وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتـم ألا ‏تقسطوا فـي أموال الـيتامى فتعدّلوا فـيها، فكذلك فخافوا ألا تقسطوا فـي ‏حقوق النساء التـي أوجبها الله ‏علـيكم، فلا تتزّوّجوا منهنّ إلا ما أمنتـم ‏معه الـجور، مثنى وثلاث وربـاع، وإن خفتـم أيضاً فـي ذلك فواحدة، ‏وإن خفتـم فـي الواحدة فما ملكت ‏أيـمانكم، فترك ذكر قوله، فكذلك ‏فخافوا أن تقسطوا فـي حقوق النساء بدلالة ما ظهر من قوله تعالـى: { ‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوٰحِدَةً أَوْ مَا ‏مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ}. وعلى هذا الرأي، ‏فإن جواب الشرط محذوف، وينوب عنه فانحكوا، لأنه لازمه، ومسببه، ‏والمعنى؛ وإن خفتم عدم العدل فى ‏اليتامى، فخافوا أيضاً عدمه فى النساء.‏
وهكذا، فإن في الخوف من عدم الإقساط مدعاة إلى رفض التعدد، ‏ومندوحة عن الوقوع في سبته، ومعرته، لأنه تلطف في صرف المكلفين ‏إلى ما يطاق فعله، ويقع ‏الجزاء عليه ثوابا، أو عقابا، فيصير الاقتصار ‏على الواحدة مطلبا ضروريا، إذا انتفى الظلم، وحصل الإنصاف، لكونه ‏أوفى في تحقيق مراد العدل، وأقرب ‏إلى كسب ما يرجوه التنزيل في ‏صياغة كليات العقل، والفكر، والنظر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ‏يجوز أن يكون النص معالجا لوضع قائم ‏في بدايات الإسلام، وهو ‏متصل بما كان سائدا وشائعا في الجاهلية، فيصير معناه مقيدا بما هو ‏متفش في زمن نزول الرسالة، وقد كانوا ‏يتزوجون العشر من النساء، ‏كما في قصة غيلان بين سلمة الثقفي حين أسلم، وقد كان تحته عشر ‏نسوة، فخيره الرسول الأكرم في الإبقاء على ‏الأربعة، وتطليق البقية، ‏واقتضى ذلك أن يعدل الحكم مع تطور الأحداث بالخلوص لواحدة، ‏والاستغناء بها، إن خيف عدم العدل في الأربعة، ‏إذ ذلك أقرب إلى ‏الحصول عليه في الطبيعة البشرية، وإن لم يتم العدل معها، وكان الجور ‏ساريا في الصلة الرابطة بينهما، فالأولى عدم الزواج، ‏لكونه رابطة وثيقة، ‏تفرض مسؤوليات جسيمة، والتزامات عظيمة.‏
وهكذا، فإن قوله تعالى "فانحكوا" جري مجرى النهي، وإن كان قد ‏خرج مخرج الأمر، ومعناه كما قال الطبري: "الدلالة علـى النهي عن ‏نكاح ما ‏خاف الناكح الـجور فـيه من عدد النساء، لا بـمعنى الأمر ‏بـالنكاح". ومن ثم، يتضمن الأمر معنى التهديد، والتشديد، لأنه زجر ‏عن الفعل، ‏وهو لا يتأتى إلا مع وجود شرطه، وهو ما يتحقق به ‏السكن في بيت الزوجية من أمانة، وعدالة، ومساواة. فهل العدل ‏مطلوب هنا في القيم ‏المعنوية، لكي ينصرف إلى الشعور الباطني، ‏والإحساس الوجداني.؟ أم هو سار فيما كل ينشئ هذه العلاقة، ‏ويربطها بعقد له حقوق في الذمة، ‏يجب الوفاء بها في حدود الطاقة، ‏وعلى جهة الكمال في المنزلة.؟ إن القول بأحدهما ناف للآخر، وكلاهما ‏يحققان مفهومه، إذ لا يمكن تخصيصه ‏بحد من حديهما، وإلا، صار العدل ‏مقدورا عليه في مرتبة، ومستبعدا في مرتبة أخرى، لأن ربطه بالمأكل، ‏والملبس، والمشرب، والمنكح، يبعده عما ‏هو مرتبط بالقلب من حب، ‏وغيرة، وعفة، وله أثر في تمام حياة الزوجين، إذ لا يمكن أن تعتبر ‏الزوجة كائنا ناميا، ما لم نوقن بأنها كائن روحي، ‏يحق له أن يكون ‏مشاركا في كل ما يرتبط بالعاطفة، والشعور، والإحساس، والبيت، ‏والذرية، والثروة، ولذا، فإن فهم الآية بمتقضى ما تمليه جهة واحدة في ‏التأويل، يصرفه عما ‏عداه من المعاني التي تلتئم جميعها لبناء تصور حقيقي ‏للعلاقات الزوجية. ومن هنا، يصعب التفريق بين ما هو روحي، وما ‏هو مادي، لما بينهما ‏من ترابط وتواشج في كسب الحقوق، والواجبات، إذ ‏لا يفصلهما عما يلزمان به من تكافؤ بين الطرفين، وتوافق في عمل ‏القلب، والجوارح، إلا ‏من خال الزواج آلة نكاح، وإنجاب، لا مصنعا ‏للقيم النفسية، والأخلاق الاجتماعية.‏
وحقا، إن العدل ليس كامنا في امتلاك القدرة الجنسية، ولا في إيجاد ‏بيت خال من التراضي بين مكوناته الطبعية، بل في توزان العلاقة بين ‏‏الزوجين، ومراعاتها لكل الدوافع الطيبة والخيرة فيهما، وربطها بما ‏يستوجبه مقصدها الذي يحدد وجهة التزاوج في الإيالة الإنسانية، لأن ‏التزام ‏حدود جوهر العدل، ورسوم نسبية مصاديقه في محمول الجهد، ‏والمكنة، هو الذي يحقق تمام المعاشرة بالمعروف، والحسنى، ويمتع الأبناء ‏بنفسية منفتحة ‏على عالمها الذاتي، ومحيطها الجماعي، ومنبسطة مع ‏الأحداث التي تطرأ على الحياة البشرية، ويقتضيها عنصر الزمان، ‏والمكان، ويفرضها تراكم ‏السياقات في تجربة الحضارة الإنسانية، إذ لا ‏غاية في الزواج أسمى مما نتقصده بالفعل عند بناء الأسرة، وهو ما نكابد ‏الصعاب لكسب حقيقته، ‏ونيل وظيفته، لكونه يجسد قيمة سقفنا ‏الفكري، والمعرفي، ويبين طرق تصورنا لمقتضيات الخلافة على الأرض، ‏وسبل إنتاجنا للمعاني التي تضمن ‏صيرورتنا في النماء، والبقاء، ووسيلة ‏صناعتنا لمهاد التآلف مع غيرنا، والتآزر معه من أجل بناء مجتمعات ‏إنسانية، تحترم الآخر، وترضى به شريكا ‏في الوجود. ومن هنا يكون ‏العدل عاما، وسواء في ذلك الزوجات، والأبناء، أو فيما تعلق ‏بالخصوصية من أفراد، وجماعات، وهو كل ما ينجز ‏اسس الاستقرار، ‏والاستمرار، ويبعد أسباب النفور، والقلق، والاضطراب، والتمرد، ‏ويفرض علاقات متسمة بالعفوية، والتلقائية، وملتزمة ‏بالاحترام، ‏والتقدير. ‏









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س