الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزمن النظيف فوق الشجرة

فاطمة ناعوت

2017 / 9 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


==============

“…. الزمن النضيف يا أستاذة، مش الزمن الجميل!" هكذا قالت لي الصبيّةُ الجميلة "ميّ"، خريجة مدارس الليسيه، ونحن نشاهد معًا فيلم "أبي فوق الشجرة". وكان لهذه الجملة حكاية.
المكان: صالون بيتي العامر بالحب والجمال والرحمة حتى على عصافير السماء. الزمان: الأسبوع الماضي، في حفل عيد ميلادي. الأشخاص: أفراد أسرتي والأصدقاء، واثنين من فريق عملي: مصطفى ناصر، ميّ السكّري. الحكاية: كنتُ أحكي للحضور، بمناسبة عيد ميلادي السعيد، بعض الذكريات الطريفة من طفولتي. وكيف أنني كنتُ طفلةً عنيدة، ربما… متمردة، بالتأكيد... "لمضة"، دون شك... "شاطرة" في المدرسة، صحيح… أفكاري تسبق عمري، غالبًا. لكنني رغم كل ما سبق، كنتُ، مثل معظم أبناء جيلي، طفلة بريئة، لئلا أقول: ساذجة. يعني من السهل جدًّا أن "يضحك علينا" أمهاتنا وآباؤنا، على عكس أطفال اليوم الذين أضحوا يفهمون كل شيء ومن العسير خداعهم. وكان من بين ما حكيتُ لهم من ذكريات، حكايتي مع فيلم "أبي فوق الشجرة"، الذي قررّ أبي وأمي مشاهدته، وبكيتُ لأمي وتوسّلتُ حتى وافقت على أن أذهب معهما إلى السينما. وما الخوف من فيلم للكبار، على طفلة في الرابعة لا تعي شيئًا، ولابد ستنام بعد فقرة كارتون "ميكي ماوس"، التي كانت دائمًا تُعرض في السينمات قبل الأفلام! وهذا ما حدث. استغرقتُ في النوم بعد والت ديزني مباشرة. لكنني كنتُ أصحو من النوم منتفضةً بين الحين والحين لأسأل لأمي: “ماما عمو طلع فوق الشجرة واللا لسه؟" تُجيب أمي: “لسه… نامي يا حبيبتي. لما يطلع فوق الشجرة هاصحيكي عشان تشوفيه." وطبعًا صدّقتُ وعد أمي بأن توقظني حين يطلع "عمو" على الشجرة ليكلّم العصافير. لم يكن وعيي قد نضج لأفهم المجازَ الأدبيَّ الذي اختاره "إحسان عبد القدوس" في عنوان الفيلم. كل ما كان يعنيني هو مشهد رجل يشبه أبي، وهو يصعد فوق الشجرة ليلعب مع العصافير ويساعدها في بناء أعشاشها، أو ربما يغني معها ويصدح، حتى تعلّمه العصافيرُ الطيرانَ، مثلما كنتُ أحلم بتعلّم الطيران. لا أظن أن أطفال اليوم يفكرون على هذا النحو الساذج الذي كنتُ عليه وأنا في الرابعة من عمري. طلبت "ميّ" أن تشاهد هذا الفيلم الذي لم تره من قبل. فجلبته على الشاشة وبدأنا المشاهدة. فأبدت اندهاشها من زرقة البحر الرائق والرمال النظيفة والشماسي الملوّنة الجميلة، حيث البنات يرتدين فساتين قصيرة وأنيقة، يلعبن الراكيت والحصان والكرة ويغنين ويرقصن في طفولة وعذوبة دون أن يضايقهن أحدٌ. فقلتُ لها: “كان زمن جميل يا ميّ.” فقالت الصبيةُ: “كان زمن نضيف يا أستاذة. مش بس الشوارع كانت نضيفة. كمان عقول الناس كانت نضيفة.” فوافقتُها تمام الموافقة. واستأذنتها أن أقتبس منها هذه العبارة "الزمن النظيف" في مقال؛ لأنه التعبير الأدق ليصف تلك الحقبة الراقية من تاريخ مصر، قبل زمن القمامة والبلاجات المتسخّة والتحرش والمعجم المبتذل والمباني القبيحة والملابس غير المتناسقة.
صحيح أنني لم ألحق من ذلك الزمن سوى سنوات قليلة كنتُ فيها طفلة لا تعي الكثير، وأمضيتُ صباي وشبابي في الزمن "النصف نظيف"، لكن جيل ميّ ومصطفى وابني مازن، لم يروا أصلا ذاك الزمان، اللهم إلا في الأفلام "الأبيض والأسود" التي صاروا يشاهدونها كما يشاهدون الأفلام الغربية التي تنتمي لمجتمعات غريبة وأزمنة غريبة، لا تمتُّ لعصرنا ولا لبلادنا بأي صلة. في ذلك الزمن النظيف، كانت أمي تخرج بالكعب العالي والملابس الأوروبية الأنيقة، وتضع الفرير حول كتفيها، دون أن تتفرّس العيونُ الجائعةُ في جسدها، ودون أن ترميها الألسنُ البذيئة بخادش القول، ودون أن يخشى عليها أبوها أو زوجها أو شقيقها من تحرّش أو اغتصاب أو بذاءة. كانت كعوب الأحذية عالية ورفيعة لا تنكسرُ في الطرقات، لأن الطرقات مستوية. وكانت الأحذية البيضاء الأنيقة لا تتلوث في الشوارع، لأن الشوارع نظيفة. وكانت الأرواحُ لا تتصدع ولا العيونُ تشمئز ولا الآذانُ تنفرُ لأن المجتمع كان نظيف الروح والعقل والبدن.
أعرف أن معظم من يقرأون مقالي الآن، سواء كانوا من جيلي أو من جيل أحدث أو أقدم، يفرّون من لحظتنا الحالية إلى الماضي النظيف عبر تلك الأفلام القديمة. نبحث عن جمالنا المغدور في وجوه جداتنا وأمهاتنا وأجدادنا وآبائنا. نبحث عن أناقة مصر المسروقة، في أناقتها القديمة ونظافتها الغابرة التي قتلها الزمانُ. لا، الزمانُ لا يقتلُ جمال البلدان بل يزيدها حسنًا وعراقة إن شاء ذلك أبناءُ تلك البلدان. إنما نحن من قتل جمال مصر القديم، وأوغل في إزهاق روح نظافتها، حتى غدونا الآن نقولها مع زفرة حسرة ووجع: آآآآه! كان زمن جميل! كان زمن نضيف!” الزمنُ الذي طلع فوق الشجرة، ولم يعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - (النص في الميّة)
معلق قديم ( 2017 / 9 / 26 - 16:32 )
كانت سنوات تحويل مجتمع النص - النظيف - في الميّة كما كان يطلق عليه إلى مجتمع (قوى مصر العاملة) بأغلبية قاهرة من فلاحين وعمال ريفيين إلى أن جاء السادات فزاد الطين بلة بالدعوة إلى بأخلاق القـ(خـ)رية

كان مجتمع القصر والأجانب والانجليز في واد ...والـ99.5 % في الحضيض وفي الفقر والجهل والمرض و...القذارة
هذه هي الحقيقة التي تظهر بجلاء في كتابات أدبائنا ومفكرينا (طه حسين _ يحيي حقي _ يوسف إدريس ...)
محمد كريم مخرجنا العبقري كان يغسل الأشجار قبل تصوير أي لقطة سينمائية في الريف


لا يمكن العودة إلى الوراء لكنني أرى أن المبالغة الفجة في اظهار الفلاح بصورة مثالية كاذبة لاستجداء الناخبين أيام البكباشي ثم الترويج الرخيص لأخلاق القرية وتديّنها ونحن شعب متنيّل بطبعه أوصلنا لما نحن فيه

ذبحنا الطبقة النظيفة التي كان الجميع يرفعون النظر إليها
فعل الضباط ذلك لأسباب سياسية وعنصرية وحسد وحقد دفين فاختفى محبو الخير والحق والجمال في سنوات معدودة وتلاشت القيم التي قدّسوها بالتدريج في الستينات وما تحكيه عن ذكريات الطفولة كان من أثر (النص في الميّة)

فلا يجد الغوغاء اليوم سوى أصحاب المال كمثال يتبع


2 - ولن يعد
حسنين قيراط ( 2017 / 9 / 26 - 16:35 )
المبدعة فاطمة ناعوت ( المعمارية)
بعد السلام والتحية
وبعد تقديم التهنئة بعيد ميلادك الكريم وعقبال 100 سنة صحة وسعادة وراحة بال

آآآآه! كان زمن جميل! كان زمن نضيف!” الزمنُ الذي طلع فوق الشجرة، ولم يعد
عندما كنت في المرحلة الإعدادية ، كان طريقي يبدأ من منزلنا في حي مصر القديمة مرورا بكوبري الملك الصالح ثم كورنيش النيل حتي اصل إلي مدرستي ( عمرو بن العاص الإعدادية )
كنت أخرج من منزلنا الساعة 7 صباحا وأحرص علي الا اتأخر عن هذا التوقيت لسبب جميل مازلت اتذكرة وكأنه كان أضغاث احلام كانت سيارة رش الشارع تبدأ في رش شارعنا الساعة 7 و15 دقيقة كل يوم بعد ان يكون قد نظف بواسطة الكناسين وكنت دائما اخاف ان تبلل ملابسي من رش المياه لذلك كنت حريص علي الخروج الساعة 7 صباحا كل يوم

يا هل تري لو سارت سيارة الرش في ايامنا هذه ماذا سيكون التعليق مننا
عندك حق ايتها المعمارية
آآآآه! كان زمن جميل! كان زمن نضيف!” الزمنُ الذي طلع فوق الشجرة، ولم يعد.








3 - أبي فوق الشجرة - فيلم غير نظيف
أو تمزيرت ( 2017 / 9 / 28 - 01:20 )

على المشاهدين اعادة مشاهدة فيلم / أبي فوق الشجرة
ليحكموا هو ان كان نظيفا أو اباحي

اخر الافلام

.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية


.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في




.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك




.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر