الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الألم والكتابة الشخصية

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2017 / 9 / 28
مواضيع وابحاث سياسية



قررت الكتابة عن الكتابة، الساحرة الخلابة، دفعت فيها عمرى وسكبت دمي، دون ندم أو حزن، فقط الألم، ليس الألم المألوف، الذى يقتل وينتزع الروح من الجسد، بل الألم الأكبر، الذى يعيد الروح الى الجسد، بعد انفصالهما التاريخى قبل سبعة آلاف عام، منذ سقوط إلهة المعرفة عن عرشها، سقطت معها المعرفة، وتم استلاب الروح من الجسد, إنه الألم العظيم لكل لذة عظيمة، فما بال لذة الكتابة.

شجعنى أبى وأمى على دراسة الطب، وكنت منذ الطفولة أكره الأطباء، وأحب الفن والكتابة، لكنى أطعت أبى وأمي، ليس خوفا من العقاب، فلم يكن فى بيتنا خوف، كنت أحبهما وأحترمهما، أشعر بحبهما واحترامهما لشطحات طفولتي، بينما كنت أرى الآباء والأمهات فى البيوت الأخرى يسخرون من عقول أطفالهم، خاصة البنات, أغلب البيوت التى أدخلها، فى الزيارات لعائلة أمى بالقاهرة وضواحيها، تحتوى على غرفة هامة، لا تفتح إلا للزوار، يسمونها «الصالون»، بها مقاعد ضخمة قماشها من الحرير اللامع، مساندها عالية حوافها ذهبية، البيت مليء بالأثاث الثمين، ليس فيه مكتبة، أو رف واحد يحمل الكتب، بيوت الطبقة المتعلمة العليا لم تكن تمارس القراءة، أما بيوت عائلة أبى بالقرية، فكانت أغلبها للفلاحين الفقراء الذين لم يتعلموا القراءة أو الكتابة.

أبى وأمى نال كل منهما قسطا من التعليم والثقافة، فتحت عينى على مكتبة كبيرة فى بيتنا، تحمل رفوف الكتب بالعربية والفرنسية، ثم أضفت الكتب بالإنجليزية، بعد أن كبرت وتعددت دراساتى فى علوم الطب والأدب والفلسفة والتاريخ، وغيرها من فروع المعرفة.

قرأت الأدب والشعر العربى القديم والحديث فى مكتبة أبي، وكان يقول: لا ينفصل القديم عن الحديث، فالماضى والحاضر والمستقبل جسد واحد لا يتمزق، تعرفت على أفكار الجاحظ والمعرى والخنساء وبشار ابن برد والمتنبى وابن سينا وابن رشد والمنفلوطى والعقاد وطه حسين وغيرهم، ويقول أبي: اقرئى أكثر مما تسمعين، لا تنقلى من الكتب،اقرئى وانسى ما قرأت, لا تضيع الأشياء المهمة رغم النسيان.

الكتابة تجربة شخصية، اكتبى تجربتك، مشاعرك، أفكارك، وإن بدت لك تافهة لا تستحق الكتابة، كل تجربة تستحق الكتابة لأى عاقل أو مجنون، وقد يدرك المجنون «الحر» ما لا يدركه العاقل المسجون ، كان أبى يضحك كثيرا وهو يردد أشعار ابن نواس «الهلاس» (كما كان يسميه) أو بشار ابن برد «الهجاء»، أو عبدالحميد الديب، الشاعرالساخر، ويردد أبياته:

وهام بى البؤس حتى

... كأنى عبلة والبؤس عنتر

كان أبى يحب المرح والفكاهة، ويقول: تنبع الفكاهة من المعرفة، وتؤدى الفكاهة الى مزيد من المعرفة .

لم يحب أبى الخطب الرنانة، التى أدمنها رجال السياسة والأحزاب فى مصر، يسخر منها قائلا «أسمع ضجيجا ولا أرى طحنا» أغلب الخطب السياسية تنم عن التسلط والاستعلاء.

كان أبى يكره السلطة والحكام، لا يحب الضجة والزحام، يفضل القراءة بعينيه عن السماع بأذنيه, ويقول: الكتابة تكره علو الصوت، التفكير يحتاج الى الصمت.

كان أبى متواضعا، منخفض الصوت، لم يرتفع صوته إلا مرة واحدة، حين اتهمته أمى بالخيانة الزوجية، رأته فى منامها مع امرأة أخرى فاستيقظت غاضبة، صاح أبى «أنا مسئول عن أحلامك كمان يا زينب؟ وقالت له أمى: لا دخان من غير نار، ولا ينفصل الحلم عن الحقيقة.

كانت أمى وهى تلميذة بالليسيه، تكتب الشعر بالعربية والفرنسية، وتحلم بأن تكون كاتبة أو شاعرة أوعالمة، لكن أخرجها أبوها بالقوة من المدرسة، ليزوجها من أبي، فتوقفت تماما عن الكتابة والطموح الأدبى أو العلمي، واكتفت بولادة تسعة من الأطفال، ثم ماتت وهى فى الخامسة والأربعين من عمرها، ومات أبى بعدها بشهور قليلة.

لم تكف أمى عن الضحك والسخرية، خاصة من مؤسسة الزواج، كانت تقول عنها: مقبرة المرأة.

ومات أبى وهو واقف كما تسقط الأشجار، لم يرقد مريضا، وكان يقول: سأموت وأنا أمشى.

بعد إحالته للمعاش لبلوغه الستين، فرد ذراعيه وقال: أخيرا سأكتب بعد أن تحررت من سجن الوظيفة الحكومية، لكنه مات بعد أيام قليلة دون أن يكتب شيئا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كل تجربة تستحق الكتابة
حميد الواسطي ( 2017 / 9 / 28 - 11:17 )
تعقيباً: بمُقتضى قول أبو الدكتورة وَالأديبة وَالكاتبة الكبيرة - نوال السعداوي : - كل تجربة تستحق الكتابة -.. أقول، لقد صدقَ تماماً..؟ فاٌلطبقة ألواعية تظهر مِن خلال ألتجربَة وَإنَّ نشر الحقيقة بَينَ اٌلناس كُلّ اٌلناس يُؤدي إلى بلوَرة ألطبقة ألواعية فمِنَ اٌلناس مَن يقرأ ليمضي ألوقت وَمنهم مَن يقرأ وَينسى وَمنهم مَن يقرأ فيفهم ويتّعظ وَيشعر بواجبهِ فيتقدم تلقائيّاً ليشكّل مَعَ أمثاله الطبقة الواعية إن صحَّت التسميَة.. وَشُكراً – حميد الواسطي

اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة