الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصتي: مارلين مونرو

سعد محمد رحيم

2017 / 10 / 1
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


أوّلُ ما يُحيّر في كتاب (قصتي: مارلين مونرو) الصادر باسم مؤلفين اثنين هما؛ مارلين مونرو وبن هكت، هو السؤال عن بصمات مَنْ تطغي على فصوله القصيرة؛ بصمات مارلين أم بصمات بن؟. أهي أفكار مارلين بأسلوب بن ولغته؟. أم هي أفكار بن مطعّمة بنتف من آراء مارلين؟.. هل لمارلين أيّ فضل بأيِّ قدر على الطريقة التي دُوِّنت عبر أطرها تلكم الأفكار وحيكت القصص.
ما مدى تطابق ما يُروى مع ما جرى؟ وإلى أيِّ حدٍّ تدخّلت حذاقة بن في صياغة الكتاب بما يليق بتاريخ واحدة من نجوم هوليود الأشد بريقاً في عصرها الذهبي؟.
مردُّ هذه الأسئلة هو مفارقة انطباعاتنا المسبقة، والصور الراسخة في أذهاننا عن مارلين مونرو مع الانطباع الذي سنخرج به والصور التي ستتولّد لدينا بعد الفراغ من قراءة الكتاب.
(قصتي: مارلين مونرو) كتاب خفيف، ممتع، وذكي لكنه ليس سطحياً بأية حال. وشخصياً منحتني صفحاته أكثر مما توقّعته منها. وإذا ما صدّقنا ما جاء فيه عن تفاصيل حياة مارلين وأفكارها ومشاعرها ورغباتها فإننا نكون إزاء مادة خام، أوّلية، تُعين في تحليل شخصيّتها، وفي إلقاء الضوء على جانب سرّي من عالم صناعة السينما في هوليود خلال عقدٍ أو أكثر بعد الحرب العالمية الثانية.
قصة مارلين مونرو هي قصة هوليود في حقبة إشكالية من تاريخها.. قصة حقبة حسّاسة ألقت عليها الماكارثية، والحرب الباردة عموماً، بظلِّها الثقيل. وأرهصت للثورة الجنسية التي عرفها عقد الستينيات من القرن المنصرم، وكانت مارلين رمزها الصارخ وإيقونتها قبل أن ترحل عن الدنيا بتلك الطريقة التراجيدية الغامضة، حيث لم تُحسم حتى هذه الساعة القناعة بشأن الأمر إن كان انتحاراً حقاً كما أُشيع، أم اغتيالاً بتدبير من المخابرات المركزية الأمريكية كما شكّك كثر من الناس. فعلاقة مارلين مع البيت الأبيض ورجله الأول، في ذلك الوقت؛ جون كينيدي، معروفة.
مارلين: هوليود والثقافة
طغت صورة مارلين مونرو الأنثى المربكة بسحرها، الغاوية، المرحة الضاحكة، قنبلة الجنس، على صورها الأخرى التي سعت لتكريسها في الأذهان؛ أن تتقن التمثيل وتتألق فيه، وأن تبقى في ذاكرة الفن إلى جانب الكبيرات ممن سبقنها، ومن المعاصرات لها؛ فيفيان لي وأودري هيبورن وأنغريد برغمان وأليزابث تايلور وغيرهن. وكأنها كانت تفكِّر بالمستقبل، وما سيُقال عنها فيما بعد.. ولذا تركت ما يُخرجها من محبس تلك الصورة الأولى المصنوعة في غرف الدعاية والإعلام المعنيّة بملاحقة أخبار النجوم الفاضحة، وإعلانات أستوديوهات الأفلام في هوليود.
رغبت بقوّة في أن تحقِّق ذاتها فنانةً موهوبةً بارعة، لا أنثى مغرية تبعث بذبذبات جنسية، كما أعلمها الممثل ميشال تشيكوف بعد الانتهاء من أداء أحد مشاهد فلم كانا يشتركان في تمثيله؛ هذه الخصلة التي لم تكن تريد لتجّار الجنس في هوليود استثمارها. ولذا لن تُعطى أدواراً في أفلام ذات قيمة فنية عالية، لاسيما في أولى سنوات مشوارها المتعب في دنيا الفن.. وستشعر بنفسها "شيئاً كلمع السراب، وأنني على الأرجح سأُنسى بسهولة تماماً خلال عام واحد". وبعد أن يتقاعد ميشال عن التمثيل ويكرِّس وقته للكتابة، وتدريس الفن لعدد قليل من المغرمين به، ستكون مارلين واحدة منهم.. تقول في كتابها (قصتي: مارلين مونرو) الذي ألفته بالاشتراك مع (بن هكت). وقد ترجمه إلى العربية: باسم محمود، وأصدرته دار المدى:
"كتلميذة لميشال؛ تعلّمت ما هو أكثر من التمثيل، لقد تعلّمت علم النفس، التاريخ وأخلاقيات الفنون الجميلة: الذوق".
هوليود عالم غوايةٍ صعب، واحتياز مكانة جيدة فيها يحتاج إلى مؤهلات جسمانية، وموهبة فنية لافتة، وإلى قدرٍ عالٍ من قوة الشخصية والذكاء، فضلاً عن الحظ. في مقابل أنَّ من يغامر في دخولها عليه دفع ثمن باهظٍ أحياناً من صحته النفسية والبدنية، ومن سمعته. وحين ألفت مارلين مونرو نفسها في أستوديوهاتها لم تكن الطرق سالكة أمامها. وكان عليها أن تخوض كفاحاً عسيراً، لاسيما في مواجهة أولئك الذين شكّكوا بموهبتها، وأولئك الذين أرادوها قطعة حلوى شهيّة يلتهمونها متى رغبوا. ومن تجارب من سبقوها لنيل النجومية، هناك، فهمت ما الذي عليها فعله وتجنّبه، وإن لم يعنِ هذا بأية حال أنَّ كل شيء سار على ما يرام فيما بعد.
"هوليود التي عرفتها كانت هوليود الفشل. تقريباً كل شخص قابلته كان يعاني من سوء المأكل أو لديه نزوات للانتحار".
كان التنافس شديداً بين الجميلات الحالمات بالثروة والشهرة، وكان الصيّادون من العاملين في صناعة الأفلام يستدرجونهن لأفخاخهم بالوعود الكاذبة. وكان هناك فريق ثالث من الفاشلين والزائفين الذين يتكلّمون أكثر مما يفعلون. وكانت مارلين تعرف كيف تصنِّف هؤلاء من أولئك باحتراسٍ ودهاء.
"هوليود كانت مكاناً بشرياً أكثر منه جنةً قد حلمت بها ووجدتها. الناس فيها؛ المزيفون والفاشلون على حدٍّ سواء، كانوا نابضين بالحياة أكثر من الرجال العظماء، ومن الفنانين الناجحين، الذين عمّا قريب، كنت على وشك أن أتعرف عليهم".
ثمة صورة لافتة لها وهي بالمايوه، جالسة على سرير شاطئ البحر، تقرأ في رواية جيمس جويس الشهيرة (يوليسيس).. وقد يبدو غريباً أن تطالع امرأة مثل مارلين مونرو رواية معقّدة يصعب حتى على قرّاء محترفين إكمال قراءتها مثل (يوليسيس).. أهي صورة بروباغندا من النوع الذي استهواها غالباً؟ أحملت الكتاب لأجل الصورة، أم أن المصوِّر اقتنص فرصة لقطة نادرة لن تُمحى من ذاكرة السينما؟ أتراها وقعت على الكتاب مصادفةً؟ أقرأت الرواية تلك حتى الصفحة الأخيرة حقاً؟. أسئلة من الصعب الإجابة الدقيقة عنها الآن.
أثار حماستها كتاب السيرة الذاتية لـ (لنكن ستيفنس).. تقول: "كان أول كتابٍ أقرؤه بدا أنه يُخبر عن الحقيقة بشأن البشر وعن الحياة". وحين تحكي لزميلها مستر مانكوتز مادحةً الكتاب، سينتحي بها جانباً ليحذِّرها من أن مثل هذا المديح سيوقعها في مشكلة، وسيحسبونها راديكالية:
"ـ راديكالية ماذا؟
ـ الراديكالية السياسية. لا تقولي لي إنكِ لم تسمعي بالشيوعيين!.
ـ ليس كثيراً.
ـ ألا تقرأين الجرائد؟
ـ أتجاوز الأجزاء التي لا تعجبني".
هذا الحوار بينها وبين زميلها يفصح كثيراً عن جوانب من شخصيتها؛ براءة تقترب من الطفولية، الصدق، الجرأة، وعدم الاهتمام بالسياسة.
كانت تلك حقبة الحرب الباردة، واتهامات لجنة مكارثي سيئة الصيت التي حرمت السينما الأمريكية من بعض أهم مبدعيها بتهمة الشيوعية.. ولم تكن مارلين تفقه الكثير في السياسة.. لكن القراءة استغرقتها منذ أن أخبرها حبيبها الأول المثقف بأن درايتها بالحياة غير كافية، ومعارفها ضئيلة: "عقلكِ لم ينضج بعد مقارنةً بنهديكِ". فراحت تقرأ الكتب، لاسيما بعد تعرّفها على ناتاشا لايتس مدربة التمثيل ذات الثقافة العميقة:
"كانت تخبرني ماذا أقرأ. قرأت تولستوي وترجنيف. كانا يلهبان حماستي، ولم أكن أستطيع أن أدع كتاباً جانباً حتى أنهيه. وكنت أهيم حالمة بكل الشخصيات التي قد قرأتها وسمعتها تتحدّث إلى بعضها البعض. لكنّي لم أكن أشعر أن عقلي كان في تطوّر".
كانت تضيق ذرعاً بالرجال الثرثارين، الذين يتحدّثون بنرجسية عن أنفسهم، وتفرزهم عن أولئك المثقفين "الزاخرين بمعلوماتٍ وأفكار عن الحياة. إنه لمبهج أن تستمع لهؤلاء الرجال وهم يتحدّثون، لأنهم لا يتحدّثون باختيال".
كان هاجس التعليم والثقافة يؤرقها. وستسجل وهي في أوج تسلقها لسلّم مجدها الفني في جامعة ساوث كاليفورنيا. وستُصاب بخيبة أمل لما تعرف أن معلمها في دورة دراسة الفن امرأة، لأنها ما كانت تعتقد أن بإمكان أيّة امرأة تعليمها أيّ شيء. ولكنها ستُغيّر رأيها بعد الاستماع إليها وهي تحاضر عن فن عصر النهضة حتى أن مارلين ستتمنّى لو أنها عاشت في ذلك العصر.
"بعد أسابيع قليلة توسّعت في نشاطاتي كطالبة. بدأت أشتري كتباً لفرويد وكتباً لبعضٍ من مريديه المُحدثين. كنت أقرأ الكتب إلى أن أُصاب بالدوار".
صورة فرويد، وقد رأته فيها مكتئباً، جعلتها تبكي. وبالرغم من هذا، ولكي تستقبل طاقة إيجابية تُعينها في اجتياز أيامها الطويلة الرهيبة، راحت تقرأ رسائله. وكانت عبارة من قبيل (السعداء لم يولدوا بعد) للشاعر جون ميلتون تستوقفها. ولعلّها تدفعها إلى التساؤل في ما إذا لم يكن كلُّ مسعىً في الحياة هباءاً؟ وأن العدمية، هي في النهاية، مآلُ كل روح كبيرة كروحها؟.
وستبدأ فاصلة مثيرة وغير اعتيادية من حياتها بزواجها من الكاتب المسرحي الشهير آرثر ميللر. وتلك قصة أخرى.
مارلين: الجسد، الموهبة، وثمن الشهرة
لم تعرف مارلين أباها قط. وكانت أمها تبعدها عنها. وقد عاشت مع آخرين مفتقدةً لدفء الجو المنزلي وعلاقاته الحميمة. وبالرغم من هذا كان جميع من حولها يُحدِّثونها عن الرب، ويُذكِّرونها به، ولذا كوّنت صورة عنه في مخيّلتها الغضّة: "في صوري؛ هو يشبه قليلاً العمّة غراس، ويشبه كلارك غيبل بعض الشيء"ص34.
كانت أمّها العصابية تعمل في وظيفة قطع الأفلام ولصقها في أحد الأستوديوهات. ومنذ طفولتها، وكان اسمها يومها (نورما جين) كرهت رائحة شرائط الأفلام الرطبة التي التصقت بأنفها، لكنها، ولكي تُحيل حلمها بالشهرة إلى واقع أُغرمت بالتمثيل.
"التمثيل كان شيئاً لامعاً وجميلاً. كان مثل الألوان البرّاقة التي اعتادت نورما جين أن تراها في أحلام يقظتها. لم يكن فنّاً. كان مثل لعبة تلعبها، تجعلك قادراً أن تُسرع الخطى، خارجاً من العالم المعتم الذي كنت تعرفه، إلى داخل عوالم برّاقة، تجعل قلبك يتقافز"ص77.
ولأنها ذكيّة إلى حدِّ مفرط استطاعت أن تشقَّ طريقها في أرض وعرة ومناخات غير مؤاتية.. ربما كانت محظوظة بقدر، غير أنها من غير تلك المناورات الصعبة التي اضطرت لأدائها بحذاقة ما كان ممكناً الوصول إلى ذرى الشهرة التي بلغتها. وحين يقترن الذكاء بحسّاسية عالية يغدوان وبالاً على المرء ـ لا نعمة وسعادة على الدوام. وربما لهذا السبب ودّعت العالم مبكراً.. العالم الذي، كما يبدو، لا يتحمّل شخصيّة مثل شخصيّتها، أو هي شخصيّتها التي تضيق ذرعاً بمثل هذا العالم. وفي حالة كهذه لابد من أن تعقب فاجعة انتحارها الشكوك والشائعات. والشكوك والشائعات هي المستنقع اللزج الذي خاضت فيه بالرغم منها، وكانت تلك جزءاً من الضريبة الباهظة التي توجّب عليها أداءها صاغرة لتحافظ على ما جنته. وما جنته لم يكن حلواً في مطلق الأحوال.
كانت تبحث عن فرصة أولى حقيقية.. فرصة ستسعى لاستثمارها بإيمانٍ وذكاء متوقِّدين.. وحتى مع منحها لدورٍ صغير في فلم كبير عزمت على تجنب الفشل: "ما إن يدعوني أدخل فلا شيءَ سيجعلني أخرج أبداً"ص86. لكنّها كانت تعرف عن دسائس النصب التي تفضي بالجميلات إلى سرير الغرام، لا إلى الوقوف أمام الكاميرا.. ففي هوليود "عفّة الفتاة أقلّ أهمية للغاية مما قد يؤدِّيه شعرها من مهام.. هوليود مكانُ حيث سيدفعون لك آلاف الدولارات مقابل قُبلة، وخمسين سنتاً من أجل روحك"ص91.
كانت ذاتها محور حياتها. كان الأمر هكذا منذ سنواتها المبكِّرة.. لعلّ ما عانته من نبذ وحرمان وهي طفلة يفسِّرُ ذلك. وقد حلمت، حتى وهي خادمة صغيرة في بيت غريب، بجذب انتباه الآخرين الذين تشعر باختلافها عنهم.. ولأنها اضطرّت في تلك المرحلة البائسة من حياتها ارتداء ملابس رخيصة، غير مناسبة، وقبيحة تخجل منها تولّتها رغبة عارمة في أن تخلع ملابسها أمام الناس:
"نزوتي بأن أظهر عارية وأحلامي عن ذلك لم تتضمّن أيّ شعور بالخزي والذنب. الحلم بالناس يتطلّعون إليّ جعلني أشعر أنني أقل وحدة... حين أكون عارية؛ أنا أكون مثل الفتيات الأُخريات، وليس مثل شخص يرتدي الزيّ الموحّد للأيتام"ص35.
شغفها بالجمال قادها إلى الحلم بأن تصبح يوماً ما محطَّ أنظار جمهور واسع.. في مقابل أنها لم تحلم بالحب حتى بعد أن وقعت في الحب للمرّة الأولى وهي في الثامنة من عمرها مع فتى يكبرها بعام، كما تقول.. وستخبرنا بأن الفتى بعد أن صارا بين الحشائش لاذ بالفرار من غير أن تفصح عن تفاصيل ما حصل هناك.. وحدست أن الأمر كان خاطئاً إذاً. ولكن لِمَ كان خاطئاً، وماذا تكون حقيقة الحب والجنس؟ فتلك أسئلة شغلتها منذ ذلك الحين، ولم يكن ثمّة من يجيبها عليها. فضلاً عن معرفتها بأن "الناس يُخبرون الأطفال بالأكاذيب فحسب، أكاذيب عن كل شيء بدايةً؛ من الحساء، حتى سانتا كلوزا"ص41.
وستدرك مع بزوغ مرحلة مراهقتها بأنها فاتنة حقاً حين تستعير من ابنة مخدومها ذات يوم سترة لتذهب إلى المدرسة.. السترة المشدودة التي ستُبرز ما تخفي تحتها وهي تدخل صفّ الرياضيات:
"بينما كنت أسير نحو مقعدي، كان الجميع يحدِّقون بي كما لو أنه قد نما لديّ رأسان فجأة"ص47.
ولا ندري أنسلِّم بما تدّعي أم لا، وهي تحاول التأكيد بأنها لم تكن تعرف شيئاً حتى ذلك الوقت بخصوص الجنس، وبعد أن بدأت الشائعات تحاصرها؟.
"لم أكن على دراية بشأن أي شيء ذي طبيعة جنسية حيال إعجابهم حديث العهد بي، ولم يكن هناك أيّ أفكار جنسية تشغل عقلي"ص48.
وسيتكرَّر ما حصل في صفِّ الرياضيات، وهذه المرّة على الشاطئ، لمّا تظهر بملابس السباحة التي لا تكاد تستر شيئاً من جسدها.. سيحتجُّ صديقها حين تمشي على الرمال باتجاه البحر، ويكون الأوان قد فات:
"كان الشباب يصفِّرون لي. بعضهم هبَّ واقفاً من الرمل وهرول لأجل أن يرى المشهد بشكلٍ أفضل. حتى النساء توقّفن عن الحراك بينما كنت أقترب"ص50.
سترتعب الفتيات منها لأنها جذّابة أكثر، ومن الممكن أن يفقدن رفقائهن بسببها.. وهذه المشكلة ستواجهها على نحوٍ أكبر لاحقاً، بعدما تغدو نجمة وتحضر حفلات المشاهير.. كانت تريد من تلك الحفلات أن تكون مناسبة لتسويق نفسها، وكان الذكور من زملائها يريدونها زينة طاولة حلوة على حد تعبيرها.
"أحياناً كنت أذهب إلى حفل حيث لا أحد كان يتحدّث إليّ طوال المساء. الرجال الخائفون من زوجاتهم أو حبيباتهم كانوا يتجنّبونني ويبتعدون عنّي. والسيدات كنَّ يجتمعن في عصابات في ركنٍ كي يتباحثن أمرَ شخصيَ الخطِر"ص182.
حاولت تجنّب الفضائح التي تتوسّلها بعضهن لتحقيق حلم الشهرة والغنى في هوليود. وغالباً ما كانت تصل مع من يحاولون استدراجها بقصد جنسي إلى منتصف الطريق، قبل أن تتركهم حائرين غاضبين. بيد أنها كانت تُقَدَّم دائماً كفرجة، كوليمة جنسية، وكنموذج للشهوانية والفسق.. تقول بخصوص هذه الظاهرة التي لم تردها قط: "كان لدى الناس عادة بأن ينظروا إليّ كما لو أني كنت مرآة على نحوٍ ما، بدلاً من كوني شخصاً. لم يكونوا يرونني؛ كانوا يرون أفكارهم الشهوانية الخاصة. كانوا يتقنّعون بقناع زائف من البراءة والطهر، بدعواهم إيّاي أنّني أنا الشخص الفاسق"ص249.
تؤكد أن إخلاصها لزوجها الأول اللطيف لم يكن لدافعٍ أخلاقي بل لفقدانها، بالأحرى، الاهتمام بالجنس. وبحسب الكتاب الذي بين أيدينا فإن مارلين لم تعش حياة بوهيمية منفلتة، ولم تكن سهلة المنال لمن يشتهونها. وأرادت أن تقرن الجنس بالحب في علاقاتها. فلم تكن مهووسة جنسياً حتى أنها تعترف بأنها لا تحبّه إلا إذا كان تعبيراً عن حب حقيقي: "لم يكن باستطاعتي أن أمارس الحب وأنا لا أحب، وإن أحببت، فليس باستطاعتي أن أخفي الحقيقة التي تتسبب في تبدّل لون عينيّ شغفاً"ص152. كان في خاطرها ذلك الحب الممزوج بالحنان: "الحنان هو أكثر الأشياء غرابة أن تجده في حبيب، أو في أي إنسان آخر" ص166.
كما أنها لم ترغب أن تُرزق بطفل: "فكرة أن يكون لدينا طفلة كانت توقف شعر رأسي من الفزع"ص60. وليست العلّة في افتقارها إلى فطرة الأمومة، وإنما لأنها لم تكن تريد (نورما جين) أخرى تشبهها، محرومة من الدفء العائلي، وتعيش في بيت غريب "تغسل الأطباق، وتكون الأخيرة عند الاستحمام في ليالي السبت"ص61.
سعيها لأن ترتقي أعلى وأعلى لم يفارقها يوماً، وهذه الطاقة الإيجابية هي التي أبقتها صامدة في مواجهة المحن والعقبات. وكانت تفهم مكمن قوّتها وتريد أن تستغلّها بدراية:
"أنا كنت شابة، شقراء ومثيرة، تعلّمت أن أتحدّث بصوتٍ مبحوح مثل مارلينا ديترك Marlene Dietrich، وأن أمشي مشية بهيئة خليعة بعض الشيء، وأن أستحضرَ مشاعر في عينيَّ حينما أريد"ص92.
وعاشت هاجس الموت كلما لاحت إيماءة أنها ستفشل، أو تعود مرّة أخرى لتغدو ثانية نورما جين "تتطلع نحو الخارج من شباك ملجأ الأيتام"ص99.
من هنا بمستطاعنا تلمس ذلك الخيط الرفيع، الخطر، الذي سيقودها إلى وضع نهاية لحياتها، إن جزمنا بمقولة؛ إنها انتحرت. هي التي أرادت الحب والمجد والأمان دفعة واحدة. وربما شعرت، في لحظة كشف، بأن الزمن لا يسير في مصلحتها.
على عكس المألوف أخفت مارلين وراء الصورة البرّاقة، المغرية والعابثة، التي عرفها بها العالم ذاتها الفائرة بالحزن، المتأملة والجدِّية. غير أنها أيضاً لم تكن قدِّيسة. وانطوت على شيء يفوق الحد الطبيعي من أنانية، ربما بسبب تعاسة سنوات حياتها الأولى وقسوتها التي جعلتها غير قادرة على الحب بسهولة، وغير راغبة بالجنس كثيراً. فلم تكن ذات عواطف هائجة، وتحت ضغط شبق جنسيٍّ عارم كما أرادتنا الصحافة أن نتخيّل. أما نرجسيتها فكان من المستحيل مواربة آثارها. إلى جانب شراسة كانت تُظهرها حينما تشعر بالتهديد.
كان كمّ التفاهة حولها يُشعرها بالقرف فتدرك أن وراء هذا الثوب المبهرج، المزوق والباهر، لهوليود يتوارى جسم مبتذل، أو قبيح ووحشي لا يرحم.
"غالباً ما كنت أقف صامتةً لساعات في أيّ حفل، استمع إلى معبوديّ من نجوم الأفلام، وهم يذوون إلى أناس؛ تافهين، وشاحبين"ص210.
ومارلين التي لم تهتم بالسياسة يوماً قولبت السياسة حضورها في الزمان والمكان.. كانت إيقونة الجنس التي وضعتها يد السياسة في مكان ليس من اختيارها الحر.. كانت مهيأة جسمانياً ونفسياً أن تكون كذلك، وكان الوقت مناسباً أن تؤدي هذا الدور صاغرة. وحتى وإن لم ترد ذلك فإنها لم تمانع بشدّة، ولم تعترض دائماً. ومن المحتمل أنها فهمت أن لا خيار آخر أمامها سوى أن تعود لتكون ثانيةً نورما جين المعدمة المستوحدة، والمشتهاة كعاهرة ليس إلّا. وهذا ما ألقى في نفسها الروع أكثر من أي شيء آخر.
فهمت لعبة هوليود وأتقنت قواعدها. ولكن من غير استسلام كامل. ناورت جيداً لتكون لها مكانتها في ذلك الزحام التنافسي حيث آلاف الجميلات يتقن للنجومية. واستغلتها هوليود جيداً من أجل مزيد من الأرباح. وكانت تعرف هذا، ولم يكن بمقدورها تغيير قواعد اللعبة. فبالرغم من طبيعتها الميّالة إلى الحرية والاستقلال وصرامتها كانت تجد نفسها إزاء مؤسسة قويّة تفرض شروطها ولا تتنازل بيسر. لكنها اختارت، أيضاً، أن تقاوم:
"أدركتُ أنه، مثلما قد كافحتُ ذات مرّة كي ألج عالم السينما وأصير ممثلة، سيكون عليّ الآن أن أصارع كي أكون ذاتي، وكي يكون باستطاعتي أن أستخدم مواهبي. إن لم أصارع سأصير كسلعة للتجارة؛ تباع في عربة يد يملكها الأستوديو"ص236.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية